إقليم شمال وشرق سوريا بين عبء المخيمات وإرث داعش ـ 1

رغم التضحيات الكبرى لإقليم شمال وشرق سوريا، في مواجهة داعش وتقديم آلاف المقاتلين والمقاتلات والمدنيين أرواحهم في سبيل حماية المنطقة، ما زال يواجه ضغوطاً أمنية واقتصادية وإعلامية دون أي اعتراف دولي رسمي.

شيلان سقزي

مركز الأخبار ـ رغم مرور سنوات قليلة فقط على الجرائم المروعة التي ارتكبها داعش في عدد من مدن إقليم شمال وشرق سوريا، لم يتشكل دعم حقيقي لهذه المنطقة، بل أصبحت جبهة المقاومة التي كانت القوة الأساسية في مواجهة هذا التهديد، تحت ضغوط متعددة من مختلف الجهات، وفي الوقت نفسه، تشن منظمات حقوقية مرتبطة وبعض وسائل الإعلام حرباً إعلامية ممنهجة تهدف إلى تشويه صورة الإدارة الذاتية في المنطقة وتجاهل مسؤولية الدفاع عنها ودعمها.

هذا التناقض يعكس بوضوح لعبة المصالح والسياسات الخفية التي تضع الاعتبارات الجيوسياسية فوق العدالة والحقيقة، ويهدف هذا التقرير إلى تقديم تحليل شامل للوضع السياسي والاجتماعي والأمني في إقليم شمال وشرق سوريا، مع التركيز على التحديات والتناقضات في مواقف القوى العالمية، والانتهاكات الحقوقية، والضغوط الدبلوماسية والإعلامية الموجهة ضد نظام الإدارة الذاتية، كما يسعى التقرير إلى طرح رؤية نقدية لدور الفاعلين الدوليين، وتقييم تأثير السياسات الأمنية والقانونية، واقتراح سبل لدعم العدالة والأمن وحقوق الإنسان في هذه الأزمة المعقدة.

وجود عائلات داعش متعددة الجنسيات في مخيمات بإقليم شمال وشرق سوريا ليس خياراً طوعياً، بل نتيجة لظروف قسرية ناجمة عن تخلي الدول القومية والمؤسسات الدولية عن مسؤولياتها، فعلى الرغم من أن كثيراً من هؤلاء يحملون جنسيات أوروبية أو عربية أو آسيوية، فإن تلك الدول تتعمد التهرب من التزاماتها القانونية.

 

 

هذا الواقع يكشف زيف الخطاب الأخلاقي للنظام الدولي، حيث ترفع شعارات العدالة والأمن فقط عندما تتحمل الأطراف الأخرى تكلفتها، بينما تترك المجتمعات المحلية لتواجه وحدها أعباءً ثقيلة لا تخصها وحدها.

ورغم أن إقليم شمال وشرق سوريا لم يحظَ باعتراف رسمي من أي دولة أو مؤسسة، إلا أنه وجد نفسه مضطر لتحمل عبء ثقيل يتمثل في رعاية آلاف النساء والأطفال متعددي الجنسيات المرتبطين بداعش، وهو عبء أمني وأخلاقي واقتصادي هائل، هذا الواقع يتعارض صراحةً مع مبادئ القانون الدولي مثل "المواطنة المتساوية" و"الحق في محاكمة عادلة"، و"حظر العقاب الجماعي"، ومع ذلك، فإن الإقليم تتحمل وحدها مسؤولية ما يُعرف بـ "الحكم الرمادي"، من دون أن تمتلك الموارد الرسمية اللازمة لدعم هذا الدور.

وتحولت هذه المخيمات إلى ما يشبه "المناطق المعلّقة"، حيث لا تطبق القوانين الدولية ولا تلغى، لتصبح فضاءً خارج إطار الشرعية القانونية. هذا الواقع يفرض ضغوطاً مستمرة لإدارة المخاطر دون أدوات حقوقية، ويجعل المنطقة ضحية لسياسات مزدوجة يمارسها الغرب ودول المنطقة؛ فمن جهة هناك دعم عسكري محدود، ومن جهة أخرى يترك ملف معقد لا تتحمل أي دولة مسؤوليته.

وهذه الحالة تعكس خللاً عميقاً في النظام العالمي غير المتكافئ، حيث يجبر الفاعلون غير الحكوميين على دفع ثمن إخفاقات القوى السياسية والعسكرية الكبرى، من دون امتلاك الشرعية أو الموارد أو حتى أفق لتحقيق العدالة.

وسط تناقضات النظام الدولي، يبرز سؤال جوهري، كيف يمكن لمنطقة مثل إقليم شمال وشرق سوريا، الذي تصدّر الخطوط الأمامية في الحرب ضد داعش ودفع أثماناً باهظة نيابةً عن المجتمع الدولي، أن يبقى حتى اليوم بلا أي شرعية قانونية رسمية ومحروماً من الاعتراف الدولي؟

 

 

ففي الوقت الذي شكّلت فيه المنطقة العمود الفقري لمواجهة داعش، أصبحت اليوم تتحمل وحدها العبء الكامل لإدارة ملف بقاياه، بما يشمل آلاف السجناء وعائلاتهم، القوى الكبرى، عبر سياسة مدروسة من اللامبالاة ـ سواء بعدم استعادة مواطنيها أو بتأجيل إعادتهم ـ نقلت مسؤولياتها السياسية والقانونية والإنسانية إلى بنية ناشئة لا تملك عضوية في الأمم المتحدة، ولا أدوات حكم رسمية، ولا دعماً مالياً مستقراً.

هذا الشكل من تصدير الأزمة لا يمثل مجرد إخفاق أخلاقي، بل يكشف عن خلل عميق في النظام الدولي، حيث تتحول "إزالة الطابع السياسي عن المقاومة" و"تحويل معاناة الآخرين إلى ملف أمني" إلى أدوات لإدارة القوة والسيطرة.

مع ظهور داعش بين عامي 2013 و2014، حين وسع خلافته المزعومة من الموصل حتى الرقة، دخل العالم في حالة من الذهول، لكن بالنسبة لشعب إقليم شمال وشرق سوريا لم يكن الأمر مجرد صدمة إعلامية، بل بداية حرب وجودية من أجل البقاء، ففي الوقت الذي كان الغرب يتباطأ في صياغة استراتيجياته لمكافحة داعش، وكانت الجيوش الرسمية في المنطقة منهارة، تصدّت وحدات حماية الشعب ـ ووحدات حماية المرأة، ومن دون دعم دولي فعلي، لتكون في الخطوط الأمامية لمواجهة داعش.

فخلال معركة كوباني، قتل أكثر من ألف مقاتل من وحدات حماية الشعب وفقاً لتقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان عام 2018، إضافة إلى آلاف المدنيين الذين نزحوا أو فقدوا حياتهم، وبعد هذه المعركة المفصلية، توسعت العمليات بالتنسيق مع التحالف الدولي ضد داعش بقيادة الولايات المتحدة، لتشمل معارك منبج (2016)، الطبقة (2017)، والمعركة الكبرى في الرقة (2017)، حيث لعبت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" دوراً محورياً في إلحاق الهزيمة بداعش.

وفي معركة الرقة وحدها، بحسب تقرير منظمة العفو الدولية، قتل أكثر من 1600 مدني، فيما تعرضت المدينة لدمار شبه كامل، لتصبح شاهداً على حجم التضحيات الإنسانية والدمار الذي خلفه الصراع.

وقد شكّلت معركة كوباني (2014 – 2015) نقطة تحول بارزة في هذه المقاومة، إذ بينما كان داعش يتقدم مستخدماً الأسلحة التي استولى عليها من الموصل وبدعم علني من تركيا العضو في الناتو، تحولت كوباني إلى رمز عالمي للصمود والإرادة، وأصبحت عنواناً بارزاً لمقاومة الشعوب في وجه داعش.

وفي خضم المعارك، برزت وحدات حماية المرأة بحضورها اللافت لتصوغ رواية عالمية عن مقاومة النساء في مواجهة التطرف الإسلامي، وتحوّلت هذه القوة النسائية، على خلاف الصورة النمطية للجيوش في الشرق الأوسط، إلى رمز بارز من رموز الكفاح.

لكن ثمن هذه المقاومة في إقليم شمال وشرق سوريا كان باهظاً للغاية؛ فبحسب تقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) ومصادر ميدانية، فقد أكثر من 11 ألف مقاتل من قسد حياتهم في الحرب ضد داعش، وأُصيب أكثر من 20 ألف آخرين، ومع ذلك، فإن هذه التضحيات الجسيمة غالباً ما جرى تجاهلها في ظل سياسات القوى الكبرى، لتبقى بطولات إقليم شمال وشرق سوريا خارج دائرة الاعتراف الدولي المستحق.

ورغم القضاء العسكري على خلافة داعش، لم تنتهِ مهمة قوات سوريا الديمقراطية، إذ ما زالت خلايا داعش النائمة تنشط بدعم مباشر من تركيا، فيما تستمر العمليات اليومية لمكافحة الإرهاب، ومع ذلك، فإن إقليم شمال وشرق سوريا، رغم التضحيات الإنسانية الهائلة التي قدمتها، ما زالت محرومة من أي اعتراف سياسي رسمي، لا ككيان ولا حتى كشريك متكافئ على الساحة الدولية.

إن تاريخ مقاومة المنطقة ضد داعش هو في جوهره تاريخ صراع بين نزع القوة على المستوى العالمي وبين الفعل المحلي، بين عجز البنى الرسمية الدولية وبين تضحيات القوى غير المعترف بها. وفي هذا الفراغ، لم يكن الضحية أرواح الآلاف من أهالي المنطقة فحسب، بل أيضاً قيم العدالة والمسؤولية العالمية التي جرى تغييبها.

رغم أن رواية المقاومة والتضحيات في إقليم شمال وشرق سوريا تشكّل جزءاً أساسياً من واقع هذه المنطقة، إلا أنها لا تعكس الصورة الكاملة، فالنصف الآخر من الواقع يتجسد في البنى التي نشأت بعد الهزيمة العسكرية لداعش، المخيمات، السجون، والظروف المعلّقة التي وضع فيها القانون والحقوق والمسؤولية الدولية في حالة تعطيل.

وإذا كان الجزء الأول من هذا التقرير قد أظهر كيف تحولت المنطقة إلى خط المواجهة المنسي في الحرب ضد داعش، فإن الجزء التالي يسعى إلى الإجابة عن سؤال محوري، كيف تحول هذا النسيان إلى أزمة إنسانية وأمنية مركبة، تجسدت في مأساة المخيمات، الفراغ القانوني، وامتناع الدول عن تحمّل مسؤولياتها، ليقود في النهاية إلى مأزق يهدد العدالة والإنسانية معاً.