الصين... حياد نشط أم تدخل صامت؟

هل يؤدي دخول الولايات المتحدة في الحرب الإيرانية الإسرائيلية، إلى دفع الصين نحو أزمة تهدد ليس فقط أمن الطاقة لديها، بل أيضاً "طريق الحرير" ونظامها العالمي؟

شیلان سقزي

مركز الأخبار ـ مع الهجوم المباشر الذي شنّته الولايات المتحدة على المنشآت النووية الإيرانية في 22 حزيران/يونيو الجاري، تلاه إعلان أحادي الجانب عن وقف إطلاق النار باسم واشنطن، لم تُخفِ الصين، بوصفها إحدى القوى الأساسية في المنطقة، قلقها العميق إزاء تصاعد عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وذلك من منظور اقتصادي وجيوستراتيجي، فالتهديد لمبادرة "الحزام والطريق" والبُنى التحتية للطاقة في إيران لا يستهدف فقط أمن الطاقة الصيني، بل يضع مستقبل التجارة العالمية والنمو الاقتصادي لبكين في مهبّ الخطر.

مع بداية الحرب الإيرانية الإسرائيلية وتورط الولايات المتحدة بشكل مباشر في الهجوم على منشآت نووية إيرانية، تلاه لاحقاً وقف إطلاق نار رمزي، تظهر الصين كأحد اللاعبين الرئيسيين الذين يتابعون التطورات الإقليمية بدقة بغرض تأمين وحماية مصالحهم القومية.

وعلى عكس الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي للقوات الإسرائيلية، أو روسيا التي تربطها علاقات معقدة ومتغيرة مع كلا الجانبين، فإن الصين اعتمدت موقفاً متعدد الأبعاد حذراً وقائماً بالكامل على المصالح الاقتصادية والجيوسياسية بعيدة المدى؛ حيث تتمثل أولويتها في الحفاظ على استقرار مسارات التجارة والتنمية، ومن هذا المنطلق، يُعد التهديد الذي يواجه مشروع "الحزام والطريق" أحد أبرز دواعي القلق لدى بكين. فإيران، بموقعها الجغرافي المحوري في قلب المنطقة، تُعد من أهم المحاور اللوجستية ضمن هذه المبادرة الصينية.

في الواقع، هناك ثلاثة ممرات استراتيجية رئيسية تعتمد عليها الصين، ويمكن للحرب أن تؤثر سلباً عليها:

الممر الصيني ـ آسيا الوسطى ـ إيران ـ تركيا ـ أوروبا وهو جزء من الممر البري الذي يمر عبر إيران، وتلعب فيه إيران دور الجسر الحيوي الذي يربط الشرق بالغرب.

الممر الهندي ـ الخليج ـ إيران ـ آسيا الوسطى عدم الاستقرار في إيران يضعف هذا الرابط الذي يربط بين شرق القارة وغربها.

ممر الطاقة بين إيران والصين بما أن الصين هي أكبر مستورد للنفط الإيراني، فإن أي تهديد للبنية التحتية النفطية والموانئ الإيرانية يمسّ بشكل مباشر أمن الطاقة الصيني.

بناءً على ذلك، تعتمد الصين، كأكبر مستورد للطاقة في العالم، على أمن منطقة الخليج، وإذا تحول النزاع العسكري بين إيران والقوات الإسرائيلية، ولا سيما في ظل الهجوم الأميركي وما أعقبه من وقف إطلاق نار رمزي، إلى حرب إقليمية ممتدة، أو إذا أصبحت ممرات ناقلات النفط في مضيق هرمز غير آمنة، فإن ذلك سيؤثر مباشرة على أسعار النفط العالمية وسلاسل إمداد الطاقة عالمياً.

ولهذا السبب، تعارض الصين تصاعد حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، لأنه يهدد أسواق التصدير الصينية في أوروبا وآسيا، يرفع تكاليف النقل البحري والبري، يُضعف سلاسل الإنتاج الصينية، ويزيد الضغط على العملة الصينية (اليوان) ومعدل النمو الاقتصادي الصيني.

في هذا السياق، تقوم النظرة الدبلوماسية للصين على الحياد الذكي والسعي إلى لعب دور الوسيط، فبعكس الموقف العلني والواضح للولايات المتحدة، لم تتخذ الصين موقفاً منحازاً، بل تسعى إلى تقديم نفسها كقوة عالمية متوازنة ووسيط محايد، وتُعدّ تجربتها الأخيرة في تسهيل تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية نقطة قوة تسند هذا الدور الجديد.

لا ترغب بكين في تقديم دعم مباشر لأي من طرفي الحرب، لكنها ترى بوضوح أن استمرارها يمسّ مصالحها الاستراتيجية.

وفي البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية الصينية خلال الأيام الأولى من الحرب، أكدت بكين على ضرورة ضبط النفس من جميع الأطراف والدعوة إلى الحل السلمي من خلال الحوار. حتى وإن بدا هذا الموقف شكلياً، إلا أنه ينسجم مع السياسة الشاملة لبكين الهادفة إلى تقويض النفوذ الأميركي في المنطقة وتكريس صورتها كقوة سلمية عالمية.

خلال السنوات الأخيرة، وقّعت الصين اتفاقيات طويلة الأمد مثل اتفاق التعاون الشامل لمدة 25 عاماً مع إيران، بهدف ترسيخ وجودها الاقتصادي هناك، ورغم أن تفاصيل هذه الاتفاقية لم تُنشر بالكامل، إلا أنها تشمل مجالات البنية التحتية، الطاقة، النقل والتكنولوجيا.

ومع تصاعد النزاع في إيران، باتت استثمارات الصين عرضة للخطر، ما أدى إلى انسحاب بعض الشركات الصينية من المشاريع العمرانية والنفطية، فضلاً عن تعليق التعاون مع شركات التأمين والنقل المرتبطة بإيران.

باختصار، موقف الصين تجاه الحرب يعكس مزيجاً من الاعتبارات المتعددة، فهي بحاجة إلى إيران كشريك للطاقة وجزء من "الحزام والطريق"، وفي الوقت ذاته، لديها علاقات اقتصادية وتكنولوجية أعمق مع إسرائيل تفوق تلك التي تربطها بإيران. في هذا السياق، يتركّز قلق الصين على حالة عدم الاستقرار الإقليمي وتأثيرها السلبي على النظام التجاري العالمي.

ولهذا، تسعى إلى منع تصعيد الحرب عبر استخدام الدبلوماسية النشطة والأدوات الاقتصادية، كما تحاول ترسيخ موقعها كـ "قوة منظِّمة ومناهضة للحرب"، لكن إن اتّسعت رقعة الحرب وهددت أمن ممرات الطاقة وممرات مبادرة الحزام والطريق، فقد تضطر بكين إلى تعديل سياساتها، بل وقد تجد نفسها متورطة في صراعات جيوسياسية أكبر.

كما أُشير سابقاً، فإن إحدى المعضلات المعقدة التي تواجهها بكين في هذه الأزمة هي إدارة علاقتها المزدوجة مع كل من إيران والقوات الإسرائيلية، لدى الصين علاقات اقتصادية متقدمة مع الأخيرة، خاصة في مجالات التكنولوجيا، البنية التحتية، والابتكار في الذكاء الاصطناعي.

العديد من الشركات الصينية تشارك في مشاريع تطويرية داخل إسرائيل، منها بناء موانئ حيفا وأسدود، وتعاونات أكاديمية في مجالات الطب والهندسة، فضلًا عن استثمارات في شركات ناشئة إسرائيلية.

وفي المقابل تُعدّ إيران حليفاً جيوسياسياً مهماً للصين في غرب آسيا، وتمثل نقطة عبور حيوية في مشاريع الحزام والطريق، كما أن عداء إيران الصريح للولايات المتحدة يجعلها بالنسبة لبكين بمثابة ورقة توازن في مواجهة واشنطن.

لذلك، تحاول الصين الحفاظ على توازن حساس بين شريكين استراتيجيين، وهو موقف صعب بطبيعته، وقد يصبح شبه مستحيل إذا توسعت رقعة الحرب، وتُدرك الصين تماماً أن أي نزاع عسكري كبير في الشرق الأوسط قد يُعطي مبرراً للولايات المتحدة للعودة القوية إلى المنطقة، وهو أمر يتعارض مع الأهداف الاستراتيجية الصينية.

وعلى مدى السنوات الماضية، حاولت الصين سدّ فراغ الانسحاب الأمريكي التدريجي من الشرق الأوسط عبر الدبلوماسية الاقتصادية، لكن اندلاع الحرب الإيرانية الإسرائيلية قد يُعيد حلف الناتو والقوات الأمريكية والحلفاء الغربيين إلى المنطقة، ما ينذر بسباق نفوذ لا تريده بكين، ويشكّل تهديداً طويل الأمد للأمن التجاري الصيني في منطقة تُعد قلب الجغرافيا السياسية للطاقة عالمياً.

لذلك، في حال طال أمد الحرب، قد تمارس الصين ضغوطاً دبلوماسية أكبر عبر منظمات دولية مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو تدخل في شراكات وساطة جديدة مع السعودية، الإمارات، وغيرها من اللاعبين الإقليميين، كما قد تسعى عبر الإعلام والدعاية الدولية إلى ترسيخ صورتها كـ "حامٍ للسلام العالمي".

من الممكن أيضاً أن تفكر الصين في مسارات بديلة لاستيراد النفط من أجل تأمين أمنها الطاقي؛ فمع انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، يبقى خيار آسيا الوسطى هو البديل الوحيد المتاح حالياً.

الصين لا تريد أن تتحول هذه الحرب إلى صراع إقليمي واسع، نظراً إلى أن أمن الطاقة، الاستقرار الاقتصادي، وتقدم ممراتها التجارية الاستراتيجية جميعها في مهب الخطر، وعلى الرغم من أن الموقف الرسمي لبكين هو "حياد نشط"، خصوصاً في ظل هيمنة الولايات المتحدة، إلا أن مصالح الصين تتطلّب تحركات خفية لاحتواء الأزمة وخفض التوترات وحماية طرق التجارة.

ففي الواقع، الصين ليست مجرد مراقب للصراع، بل أحد أبرز المتضررين المحتملين في حال استمراره واتسع نطاقه، وذلك لأن موقع الصين في هذا النزاع لا ينبع من اعتبارات أيديولوجية أو عسكرية كما هو حال القوى الغربية، بل من ثلاث ركائز استراتيجية: ضمان إمدادات طاقة مستقرة من الخليج وإيران، استمرار تنفيذ مشروع طريق الحرير الجديد، منع عودة الهيمنة الجيوسياسية الأمريكية إلى قلب الشرق الأوسط، وهي هيمنة تتعارض مع الرؤية الصينية لنظام عالمي متعدد الأقطاب.

بالتالي، فإن أي حرب تُهدّد النظام الإقليمي، تعرّض المصالح الصينية الكبرى للخطر، فعدم الاستقرار في إيران والفشل في ضمان استمرار مشاريع الطاقة والبنية التحتية يضعف مكانة الصين كقوة اقتصادية وجيوسياسية صاعدة.

وعلى خلاف روسيا، تسعى الصين إلى إدارة الأزمة من خلال النفوذ الناعم والدبلوماسية الاقتصادية، لكن إن فشلت هذه الأدوات في مواجهة تصعيد طويل الأمد، فقد تضطر بكين إلى خوض لعبة توازن أقوى وأكثر تعقيداً.

في النهاية، تجد الصين نفسها في هذا الصراع أمام اختبار حقيقي في طريقها نحو لعب دور "الضامن للاستقرار العالمي"، فالأزمة الحالية لا تهدد فقط استقرار المنطقة، بل تُشكّل أيضاً تحدياً لمصداقية سياستها الخارجية في النظام العالمي الناشئ.