الحداثة والتكنولوجيا لا تعني النسيان أو طمس التاريخ
التماثيل ليست مجرد أحجار هي ذاكرة متجسدة لغة صامتة تنقل ما عجزت الكتب عن اختصاره.

مقال بقلم الصحفية روشيل جونيور
في قلب مدينة حلب السورية حيث تتداخل الأزقة القديمة مع الذاكرة، أزيل تمثال الشهداء من ساحة "سعد الله الجابري" التمثال الذي بقي منذ عام 1985 شاهد على تحولات المدينة وحاملاً لرمزية المدينة، ما يثير الأسى أن الإزالة لم تكن بسبب زلزال أو ضرر هيكلي، بل بحجة التطوير واستخدام التكنولوجيا، وكأن الشاشات العملاقة باتت أهم من الرموز التي تختزن ذاكرة أجيال.
التمثال لم يكن مجرد شكل فني، بل كتب بالحجر قصة مدينة بأكملها، لقد بني من حجارة المدينة الصفراء، تلك الحجارة التي لطالما شكلت ملامح حلب المعمارية وروحها العتيقة، فكان امتداداً بصرياً ومعنوياً مرتبطاً بذاكرة سكان حلب.
فهل أصبحت رموزنا البصرية والتاريخية عائقا أمام التقدم؟ وهل يفهم التحديث على أنه إقصاء للماضي لا امتداد له؟ ما حدث لا يعبر عن رؤية عمرانية حديثة بقدر ما يكشف عن موقف مقلق لطمس من التاريخ والهوية وكأننا نعيد رسم مدننا بأدوات الحاضر فقط متناسين أن الحاضر بلا تاريخ دون جذور ليس إلا فراغاً متغير الشكل.
في مدن العالم مثل "باريس لا تزال التماثيل القديمة موجودة ويساهمون في ترميمها وتزويدها بأنظمة إضاءة ذكية أو شاشات إلكترونية صغيرة تشرح للزوار قصة كل تمثال وتاريخه"، تستخدم التكنولوجيا لتعزيز حضور الرموز لا لإزالتها تعرض التماثيل بوسائط تفاعلية وتدمج في تجارب رقمية تحافظ على المعنى وتعمقه. أما في حلب، فقد تحولت التكنولوجيا إلى أداة لإلغاء رمز بصري وثقافي، دون تقديم بديل يوازي قيمته الرمزية، ودون توثيق يحفظه للأجيال القادمة.
التماثيل ليست مجرد أحجار هي ذاكرة متجسدة لغة صامتة تنقل ما عجزت الكتب عن اختصاره. فإزالة تمثال بهذه الطريقة دون أدنى حماية أو شرح، تعني إقصاء للذاكرة من المشهد العام وكأنها باتت عبئاً يفضل التخلص منه بدل التفاعل معه.
المشكلة ليست في التكنولوجيا ذاتها بل في الكيفية التي نستخدمها بها. فهي قد تكون وسيلة للحفاظ على الذاكرة كما قد تستخدم لطمسها بحسب من يمسك بزمامها، وما جرى في ساحة سعد الله الجابري كان يمكن أن يكون مشروعاً للتوثيق والبناء على التاريخ، لا محوه.
وأخيراً المدن التي تنسى رموزها تفقد بوصلتها وما حدث في حلب لا يجب أن يمر كحدث إداري أو تصميمي عابر، بل كتجربة يجب الوقوف عندها طويلاً. فالحداثة الحقيقية لا تقصي الماضي بل تبنى عليه.