الاغتصاب كابوس ـ 2
الحرب والاقتصاد أبرز الأسباب الكامنة وراء تحويل النساء إلى ضحايا ثقافة الاغتصاب في العالم، ولا يمكن لحركات حرية المرأة مناهضته من دون إدراك ثقافة الحرب وفضحها، وهو ما يتوجب على المرأة التعرف على مصدر تلك الثقافة لخلق اسطورتها الحقيقة.

مقال بقلم عضوة منسقية حزب حرية المرأة الكردستانية بلشين تولهلدان
مهما شكل مناهضة الاغتصاب مصاعب للحركات النسائية في أية بقعة من العالم، عليهن البحث والتحري في القوانين الخاصة بتلك البلاد التي تغذي الاغتصاب وتثبيتها وخوض نضالاً حقوقياً ضدها، فإذ لم تساند الحقوق المكتسبة في مجال القانون بتغيير وتحول ديمقراطي في الساحة الاجتماعية فلا فائدة من اكتسابها، وبقدر ما يدفع كل مكتسب في الساحة الحقوقية نحو التغيير والتحول الاجتماعي، فإنه مهم لتحلي المرأة بالجسارة في البحث عن حقوقها، خاصة في مجتمعات الشرق الأوسط التي لا تعكس حالات الاغتصاب في المجال الحقوقي، وذلك تحت الضغط الاجتماعي التقليدي، وسيكون له دور في التأثير على وجهة نظر القوانين الحقوقية والثغرات الموجودة فيها، لهذا السبب فإن كسب النساء وعي حقوقي وقوة تنظيمية من القضايا العملية لحركات النساء الآن.
يرجع سبب تحويل النساء إلى ضحايا ثقافة الاغتصاب في كل بقاع العالم إلى سببين مؤثرين هما الحرب والاقتصاد، عندما تتحول أوطانهن وشعوبهن وكل قيمهن إلى ساحة حرب يبقون وجهاً لوجه أمام كابوس الاغتصاب، فإذ تواجدت الحرب في بلد ما فإن السياسات المعنية بالمرأة والاستراتيجيات المرسومة والممارسات لها خصوصية أكثر بكل تأكيد، تُخطط خصيصاً لتوضع حيز التنفيذ، لو أننا نظرنا إلى الحرب المتبعة ضد الشعب الكردي سنرى ذلك بوضوح من خلال الحوادث والمعطيات الموجودة، تم تحليل حقيقة المجتمع الكردي من قبل النظام واتبعت السياسات المعنية بالمرأة، ومنها تفشي الدعارة والآخر نشر "الأفلام الإباحية البورنو"، إن انتشار ومتابعة الأفلام الإباحية التي يمكننا تسميتها بـ "الاغتصاب القانوني" في مجتمع ما، يغذي ثقافة الاغتصاب، الارتباط الأعمى بالاغتصاب الإباحي الذي يستند على الاعتداء الجنسي والدعارة واستثمار الأطفال جنسياً، يجعله مقدساً ومسموحاً وشرعياً، تُعرف إحدى أهم ممثلي الحركات الفامينية المناهضة للبورنوغرافية في شمال أمريكا كاثرين ماكينون "البورنوغرافية" بهذا الشكل "البورنوغرافية تثير العنصرية العرقية في نفس الوقت، ولو فكرنا بحدوثها من جديد وخاصة في الأراضي التي تعاني من الحروب سندرك جيداً مدى ما تتضرر منه المرأة، من إحدى السياسات التي تتبع زمن الحرب هو استعراض المرأة لـ "اللهو"، هذا أيضاً نوع من الاستيلاء على حقوق المرأة"، تم شرائها، سرقتها، انخدعت بأخذ الوعود الكاذبة بالعمل بسبب المشاكل "الاقتصادية" ويستند هذا على إنكار الحقوق العالمية، لذا مهما منع تجارة النساء قانونياً في كافة أرجاء العالم لن تعاق أبداً، فإن توجيه تجارة النساء صوب المراكز العسكرية لن تكون مفاجئة في العالم الذي نعيش فيه، مثلاً تم بيع أكثر من خمسمائة امرأة من الفلبين والاتحاد السوفيتي القديم في منتصف أعوام التسعينات وإرسالهن إلى كوريا الجنوبية وخاصة في البارات القريبة من المراكز العسكرية للأمم المتحدة باسم العمل ولكن لأجل "اللهو والاستعراض".
إن الرجال الذين يقرون الحرب والذين يديرونها والذين يعرضون بدن المرأة وينكرون هويتها يغذون خاصية الاغتصاب الأساسية للنظام الذكوري باستمرار، كلما تم تقديس ثقافة الحرب فلن يتوقف الاغتصاب، وفي البلدان التي يستمر الحرب فيها يتم تخطيط واتباع سياسات من قبل النظام الحربي السلطوي ضد المرأة.
لا يمكن لحركات حرية المرأة مناهضة الاغتصاب من دون إدراك ثقافة الحرب وفضحها، إن الكاتبة الفامينية لوسيندا مارشيل تثبت صحة ذلك بقولها "بقدر ازدياد شدة سُم العسكرتارية واستمرار العنف ضد المرأة، فلن يتحقق السلام بالمعنى الحقيقي"، أي ستتغذى ثقافة الحرب ما لم يتوقف العنف ضد المرأة، وتقدم الكاتبة الجزائرية "فضيلة فاروق" في روايتها "تاء الخجل" على اسم بطلتها الصحفية، بعض الإحصائيات حول اختطاف واغتصاب النساء في الجزائر على الشكل التالي "سنة العار... سنة 1994 التي شهدت اغتيال 151 امرأة، واختطاف 12 امرأة من الوسط الريفي المعدوم. ثم ابتداءً من عام 1995 أصبح الخطف والاغتصاب استراتيجية حربية، إذ أعلنت الجماعات الإسلامية المسلحة "GIA" في بيانها رقم 28 الصادر في 30 نيسان/أبريل أنها قد وسعت دائرة معركتها "للانتصار للشرف بقتل نسائهم، ونساء من يحاربوننا أينما كانوا، في كل الجهات التي لم نعترض فيها لشرف سكانها، ولم نحاكم فيها النساء، وسنوسع أيضاً دائرة انتصاراتنا بقتل أمهات وأخوات وبنات الزنادقة اللواتي يقطن تحت سقف بيوتهن واللواتي يمنحن المأوى لهؤلاء... 550 حالة اغتصاب لفتيات ونساء تتراوح أعمارهن بين 13 و40 سنة سجلت تلك السنة، تضاربت الأرقام بطريقة مثيرة للانتباه في حضور قانون الصمت. 1013 امرأة ضحية الاغتصاب الإرهابي بين سنتي 1994 و1997، إضافة إلى ألفي امرأة منذ سنة 1997، والبعض يقول أن العدد يفوق الخمسة آلاف حالة، ولا أحد يملك الأرقام الصحيحة والدقيقة، إن السلطات مثل الضحايا تخضع لقانون الصمت نفسه".
السبب الثاني هو عدم وجود مشاكل اجتماعية مستقلة عن ثقافة الحرب، في الحقيقة المجتمعات التي تعاني من حالة حرب مؤقتة أو دائمة أو تلك المفتقرة تحت نير سياسات الدولة المتنوعة، مفتوحة للتعرض إلى اغتصاب النظام الرأسمالي كلياً، فالنساء ترين ذلك بأم أعينهن وتعشنه، ولكون المجتمعات تكافئ ظاهرة الشرف مع المرأة في فكرها، لا ترى الاعتداءات على الشرف والكرامة. والإرغام على "إذا لم تكن تملك المال فبع نفسك"، ليس من مساعي الرجل ضد المرأة فحسب، بل هي حقيقة يفرضه النظام الرأسمالي الذكوري على الإنسانية جمعاء، الذي لا يملك المال في رحى تدور بالمال سيتحول إلى ضحية بين مسنناتها، لذا عندما نتداول ثقافة الاغتصاب والنضال ضدها؛ سندرك بوضوح كيفية استخدام الرأسمالية الاقتصاد ضد المجتمعات والاعتداء بذلك عليها، فما يفرض على المجتمعات من خلال الاقتصاد ليس اغتصاباً فحسب، بل إبادة شاملة.
ففي البلدان الفقيرة تُحدد سياسات خاصة ضد المرأة مثل التي تحكمها الحرب تماماً، وتُحسب كالساحات التي تحصل على ربح الرأسمالية، تسير ذهنية الرأسمالية على منوال "مادام هناك من يعانون من المشاكل الاقتصادية، ومضطرين إلى تربية أطفالهم يجب استمرار عرضها في الأسواق"، جنسية المرأة كملك في الميدان ينتظر "التجار العقلاء"، ويقدمون على ذلك من دون خجل خاصة كونهم الرابحين من هذا العمل، لو تحرينا خصوصيات كل بلد ستظهر هذه اللوحة المؤلمة أمام ناظرنا، تعطينا هذه اللوحة الرسالة التالية "لو ناضلت المرأة ضد ثقافة الاغتصاب بشكل جذري، عليها أن ترى الاقتصاد من اختراعاتها وتثابر في الأبحاث وتتعرف على مصدر القضايا الاقتصادية وتحللها، إذ لم يتحرر الاقتصاد من ذهنية وثقافة الاستيلاء، لن تتحقق سياسة اقتصادية لصالح الشعوب والنساء، كذلك إذا استمر حكم السياسات الراهنة فلا النساء ولا الشعوب سيتخلصون من موضع "هُيأَ للاغتصاب"، عندما يكون ذلك ساري المفعول بالنسبة للبلدان التي تعاني من الفقر وبحاجة للنظام الرأسمالي، فلن تكفي قوة الفرد لتخطي ذلك، لذلك فإن الطلاق من ثقافة الاغتصاب يستوجب وعي وسياسة اقتصادية بديلة في نفس الوقت أيضاً، كما بينا في البداية فإن النظام السلطوي نظام كلياتي، وتنتج الاغتصاب وتستمر به في جميع الميادين، ضمن الكلياتية هذه يحتل الاقتصاد مكانة هامة، حتى نستطيع النضال ينبغي ألا نتغاضى عن هذه الحقيقة أبداً، لو تداولنا الموضوع بهذا الشكل يمكننا عقد روابط السياسة الاقتصادية مع ثقافة الاغتصاب والنضال ضدها، سندرك مدى قوة هذه الرابطة إذا ما درسنا الأرباح الجانية من الإباحيات التي تحولت إلى مهنة عملاقة لتنتج الاغتصاب من جديد، إلى جانب أهمية التوجيه الفلسفي والسياسي في نضالنا ضد الاغتصاب فإن الاقتصاد ساحة هامة أيضاً.
ففي شمال كردستان عندما تعرضت فتاة تدعى (ن. ج) في الثانية عشرة من عمرها إلى اعتداء جنسي من قبل 28 موظفاً عمومياً، استمرت الدعوة التي رفعتها سبعة أعوام، هذه الفتاة بقولها "سأبلغكم ولكن هل ستفهمون؟ لم أتذوق النوم خلال تسعة أعوام" تعبر عن تراجيدية يحس بها المرء حتى أعمق خلاياه، لذا علينا أن نكون مقاومين ومصرين إلى درجة معالجة الجوانب التراجيدية في هذه الحكاية.
استقبلت حركة حرية المرأة الكردستانية الثامن من آذار في عامها المائة كعام المحاسبة مع ثقافة الاغتصاب، وبدأت بحملة مناهضة لثقافة الاغتصاب لمدة عام تحت شعار "لنصعد من نضال الحرية ونتخطى ثقافة الاغتصاب"، الشكل الذي تبنته الحركة في الحساب مع ثقافة الاغتصاب هو محاسبة هذه الثقافة باسم الكرامة والشرف، لذا على كافة الفئات الاجتماعية التي تصبح ضحايا ثقافة الاغتصاب وفي البداية النساء أن تحيا حكاية "الطلاق الأبدي من الاغتصاب"، لو نظر كل مجتمع إلى تاريخه بنظرة ساطعة وبوجدان حي سيرى ميراث النضال ضد ثقافة الاغتصاب قابع فيه، وقد تكون مشكلتنا هي المسافة الشاسعة بيننا وبين هذا الميراث أو هذه الحكايات، عندما نسيناه احتل الكابوس الاجتماعي ثقافة الاغتصاب، لذا علينا ولهذا السبب أن نتحول إلى أبطال هذه الحكايات، حتى يمكننا أن نجد فلسفة تخطي كابوس الاغتصاب الذي يصرخ يومياً في آذاننا، وليكن هذا هو الميراث الذي نتركه للأجيال القادمة من بعدنا، علينا أن نؤمن بأن النجاح في انهيار ثقافة الاغتصاب الممتدة إلى آلاف الأعوام قبل كل شيء أهم من انهيار إمبراطورية.
قد لم أسرد حكاية مناهضة ثقافة الاغتصاب مثل حكاية ظهورها وتطورها بلغة مقالتي السابقة، وذلك لأن القضية ذات أبعاد كثيرة يومية ومؤلمة ولها الملايين من ضحاياها، يجر بالإنسان هذه الحكاية أحياناً ومع الأسف إلى الإحباط واليأس والمنحدرات لتقل "اقفز، اقفز" من كثرة الألم، عندما يلف هذا الكابوس المجتمع كالإخطبوط، يحس المرء وكأنه لن يستطيع الاستيقاظ منه أبداً، حاولت في مقالتي السابقة أن اسرد حكاية ظهور وتطور هذا الكابوس خطوة بخطوة، ولكن في مقالتي هذه حاولت أن أشير إلى مهامنا ووظائفنا في هذا الخصوص، وقد شعرت بضرورة استيقاظكم من هذا الكابوس، خاصة نحن النساء علينا أن نؤمن بأن الحياة مع هذا الكابوس ليس بقدر مكتوب على جبيننا، وعلينا أن نوقظ بعضنا البعض والمجتمعات التي نعيش فيها في كل وقت، بقدر ما يكون هذا الكابوس مصر وعنيد علينا أن نكون بالمثل أو حتى أكثر منه إصراراً، وقد يكون هذا هو نقص وضرورة هذه المقالة، من دون التراجع أو اليأس والاستسلام، كأننا نتشاجر مع نفس المشاكل وكأنه شيء لن يتغير أبداً لهذا الكابوس الذي هو ليس بكابوسنا أصلاً، لأنه علينا ألا ننسى بأنه كابوس السلطة والأنظمة المناهضة للمجتمع والإنسان والذهنية التي خلقتها وعيب الناس الذين خلقوا هذه الذهنية، علينا بالنضال من دون هوادة، للقيام بذلك علينا أن نعلم أين وكيف وبأي شيء نحارب، لذا علينا أن نتعرف على مصدر ثقافة الاغتصاب ونحللها إذا ما جاءت لتضربنا مجدداً، علينا أن نخلق أسطورتنا الحقيقية أمام الكثير من الأكاذيب التي خدعونا بها من خلال أساطير الميثولوجيا السومرية.