الاغتصاب كابوس ـ 1

تعد العائلة إحدى المؤسسات التي يجب على النساء أن تناضلن فيها ضد ثقافة الاغتصاب، وليكلل نضالهن بالنجاح عليهن أن تتحلين بإدراك فلسفي كلياتي.

مقال بقلم عضوة منسقية حزب حرية المرأة الكردستانية بلشين تولهلدان

الاغتصاب مصطلح يرى الطريق إلى خلجات أرواحكم، وحتى إن طردتموه أو رفضتموه يعاند البقاء معكم، ومهما ساوركم الظن أنكم تخلصتم منه يلتقي بكم في الحياة اليومية، ويجسد ذاته في مخيلاتكم وفي أماكن لن تتوقعونها داخل المنزل إلى ساحات أعمالكم اليومية، يطفو ساخراً منكم على قمة التراجيديا في لحظة تعتقدون ضياعه، لا يتلفظ أحد بهذا المصطلح ولكن معناه يتوغل في الروح، ويذكركم بقول جبران خليل جبران "الفكر طائر إن سُجن في قفص الكلام تعذر عليه أن يطير".

مع ذكر هذا المصطلح الذي ينهدم كجدار على روحكم يطير مسخراً ليضع أوزاره في زمان ومكان آخر، يتحول إلى كابوس للذي يقر التخلص منه، يختفي بلحظة أو في مرحلة ما، حتى عندما تعتقد بأنه انتهى تراه يحيا بين صفحات الإبادة الجماعية، يفوق ليدق في انكسار اجتماعي وروحي، ويهب برياحه كلعنة عناداً مع جميع الآلام، ويجعلكم تعتقدون بأنكم أمام غضب الآلهات، ولكن عندما تسألون "ما هو ذنبي أو ذنبنا"، ستجدونه.

هل تعلمون ما السبب الذي دفعني إلى كتابة هذه الأسطر عن مصطلح الاغتصاب؟ بداية أريد أن أشير إلى أن هذا الكابوس ليس بأمر شخصي، بل كابوس اجتماعي يمتد إلى آلاف السنين، حطم روح المجتمعات، فلا يعرف الجغرافيا ولا الزمان ولا الجنسية ولا العرق، يخلق بنفسه وللآخرين معاً كوابيس أخرى ويتم تقويته عن قصد وبمعرفة من قبل السلطات المهيمنة والرأسمالية، ليلتهم الروح والجسد.

لا ينتهي الاغتصاب بذكره بل يصبح أكثر وحشية، فنحن المضطهدين لا نملك طريقة لكشف المصطلحات التي تستعمرنا وتحول أرواحنا وأجسادنا إلى كابوس، إلا بفضحها والحد من تأثيرها وخلاص ذهنيتنا من الاستعمار والاغتصاب، وللاستيقاظ من هذا الكابوس علينا الإحساس بوجوده ومعرفته، ومن ثم البحث عن كيفية وضع نهاية له، ولكن في البداية ينبغي البحث في المصطلح الذي يحي هذا الكابوس، ومتابعة البحث لإيجاد مصدره، هناك بعض الحركات وكأنها ترجع إلى الوراء لكنها ضرورية للتقدم إلى الأمام، فالعودة إلى التاريخ أمر ضروري لتخطي هذا الكابوس، فإذا واجهنا كابوسنا أو المصطلحات التي تدعمه وأبدينا استعدادنا لخلق ذهنية قادرة على تخطيها ذاك الوقت نستطيع التقدم نحو أول خطوات النجاح.

ما عانيناه أو نعانيه يعود سببه إلى مجتمع المدينة عهد السومريين، وفق الكثير من الأبحاث من أحد القيم التي خلقت باسم المدينة وتعتبر نسخة حقيقية منها هو الاغتصاب والمغتصبين.

مثلما لظاهرة كابوس الاغتصاب حكاية التكوين والنمو والتطور، هناك حكاية لمكافحتها ومناهضتها أيضاً، في الحقيقة لا النساء ولا المجتمعات استسلموا يوماً لثقافة الاغتصاب، ومثلما بات الاغتصاب في كل عصر كوسيلة للسلطة وواقعة حقيقية، فإن المقاومة والتصدي والنضال ضدها حقيقة بالمثل أيضاً، لم يكن هناك أثر للاغتصاب والتحكمية والاستيلاء في بداية تكوين البشرية، لم يكن هناك إرغام "أنت لي وكافة حقوقك الحياتية تحت تصرفي"، لأن التلاحم والتضامن والوئام والوجود على أساس التوازن كان النموذج الحقيقي للوجود.

الاغتصاب انحراف عن الأصل والأصيل، كجميع وسائل النظام السلطوي وما خلقته من ثقافة، كذلك هو شكل من أشكال قضاء الواحد على الآخر والحفاظ على وجوده بالاستعمارية، لذا فإن الكفاح ضد كل ما سلبتها ثقافة الاغتصاب هي وقفة عزٍ للوجود بالمعنى الحقيقي.

أعلم بأن الحياة أغنى وأكثر أدبية من كافة أنواع الشروحات والإيضاحات الأخرى، الآن علينا أن نشعر بسير حياة هذه الحكاية بمغزاها الكلي، ونعلم بأن المقاومة لم تتوانى ضد ثقافة الاغتصاب في جميع العصور، فحتى إن تلحف الاغتصاب بقدسية العلم واختبأ في بطولة أبطال الحكايات الأسطورية، ولجأ إلى القوة الأعلى للدولة القومية المدمرة أو دخلت في أكذوبة "لنستولي عليها فهي لي" أو حتى لو تستر بين طيات حكاية عشق خادعة، لكنه لم ينفذ من مشاعر الإنسان والمرأة وومضات الذكاء العاطفي، جاءت لحظات ليسرق شرعنته بألف قناع وستار، وجاءت لحظات لتُقدَس أكبر المغتصبين بمغالطاتهم الاقتصادية - السياسية والعلمية والدينية والقوموية، فحتى إنه كاد أن يثبت الليبرالية والحداثة بمفهومه المزيف للحرية، ولكن عرف الإنسان كيف أن يحمل في حوض جيناته كل المقدسات الأصلية والحقيقة التي كانت موجودة في بداية التاريخ وحريته وما عاشته المجموعات الإنسانية والأفراد في كل الأزمنة، كذلك عرف كيف يحمي أحاسيسه وشعوره وعلومه الملتقية مع الحقيقة والنور الساطع من هذا الحوض حتى في أحرج وأحلك اللحظات، وقد نكون مديونين لذلك في المقاومة المناهضة لثقافة الاغتصاب والتي كانت موجودة في كل عصر والمستمرة إلى يومنا الراهن.

عندما كانت الشعوب على شكل قبائل ومنظمة بنماذج اجتماعية موسعة، لم ترضخ للقمع التحكمي ضد قيم جهدها وروحها وعواطفها أو ترضى به، حتى إن هزموا، فلم يتواروا عن ترك تفاصيل حقيقة هزيمتهم الأبدية كميراث للأجيال اللاحقة، فاليوم عدم الانفصال عن ميراث هذه المقاومة هام للغاية في سبيل الكفاح ضد ثقافة الاغتصاب، عندما نغض النظر عن ميراث هذه المقاومة أو لم نعييها الأهمية كما المطلوب، وادعينا بأنها نتيجة من نتائج نضال الحركات الفامينية في أعوام السبعينات المتطورة في الغرب؛ فإنه مغالطة وضلال وخاطئ وفي النتيجة نكون قد سلكنا طريق الانحراف.

لا يمكن تعريف ثقافة الاغتصاب المنحرفة عن الأصل والأصيل بانحراف آخر مهما كانت حسن نيتنا، حتى إن بدى هذا الانحراف صغيراً في بدايته، لكنه سيفتح الأبواب لنتائج وخيمة وقضايا عقيمة أمام تدفق الحياة مع استمراره وتنوعه.

مهما كان تعمق وشمولية ثقافة الاغتصاب مقنعة بالدينوية والعلموية والقوموية والجنسوية، هناك مقاومة شاملة وكثيرة الأبعاد ضدها إلى أعوام السبعينات وفي كافة أرجاء العالم، إن ما تمارسه الرأسمالية من سياسة احتكار رأس المال وتوسعها وهرولتها وراء الربح وامتدادها نحو أراضي الشعوب في الشرق الأوسط والكثير من بقاع العالم بذهنيتها وروحها المسلوبة، وما حققته بأفواه بنادق القوى العسكرية التي تدخلت في الأراضي بالعنف والاستيلاء، إلا تعبيراً عن حالة "الدخول" أي (عملية اعتداء رجل على المرأة جنسياً)، "الدخول" عملية غير معنية باعتداء رجل على بدن امرأة فحسب، بل إنها هجمة ضد جميع القيم التي عرفها وأدركها ووجدها وقلب الذكورة بالأنوثة، إن الاعتداء على القيم الجوهرية للشعوب هو اغتصاب بقدر اعتداء رجل على بدن امرأة بالشدة والعنف، إنه شكل هجومي يغذي بعضه البعض وينتج باستمرار، تفيد الكاتبة كاثرين ماكينون في كتابها "نحو نظرية الدولة الفامينية" هذه الحقيقة بجمل رائعة "الاغتصاب عملية ذكورية، وليس من المهم أن يكون فاعلها ذكراً أو أنثى أو يكون بشكل مستمر أو مؤقت، المرأة عليمة بماهية الاغتصاب جيداً".

لم يتوقف أي شعب أو فرد "هُيأً للاغتصاب" عن المقاومة ضد هذه الهجمة بأي شكل من الأشكال، إن تسميم أوروبا الشرق الأوسط بالقوموية وكفاح شعوبها ضد هذا التسمم هو كفاح ضد الاغتصاب، كذلك فإن مقاومة سكان القارة الأوروبية والأمريكية بعد كشفها وانتشارها ضد الاستيلاء والسلب يعني مقاومة ضد الاغتصاب، إن مقاومة الكثير من المجتمعات حفاظاً على معتقداتهم ضد الكثير من الأديان الكبرى التي حاولت التحكم بقوة السيف وحاربوا لحمايتها حتى لا يسلموا أرواحهم هي مقاومة ضد الاغتصاب.

إن مقاومة الكثير من الشعوب التي تواجه خطر الإبادة وإنكار الهوية الوطنية مثل الشعب الفلسطيني والكردي ضد التحكم والاستيلاء في العالم هي مقاومة ضد الاغتصاب، كما أن نضال الملايين من الناس بطرق مختلفة ضد وحشية الحداثة الرأسمالية فكر وروح وبدن الإنسان يومياً؛ أي نضالهم ضد الوحش الذي يهدد وجودهم ويحاول قمعهم يعني المقاومة ضد ثقافة الاغتصاب، ما زالت المقاومة مستمرة في جميع أصقاع العالم، وهناك بحث عن البديل حتى لو كان ضعيفاً، ضد هذه الهجمة الرأسمالية المنطوية بعرض وطلب المزيفين وكأنها خيار جوهري للإنسان، بالرغم من تسترها بألف قناع وقناع، فالتاريخ مليء بملاحم مقاومات النساء حتى وإن ما زال الكثير منها لم ترى النور بعد، ضد فرض الاستسلام الروحي والبدني والاغتصاب، يمكننا تعداد الكثير من الأمثلة التاريخية واليومية أيضاً.

لذا فإن تقييم المقاومة ضد الاغتصاب على أنها مبتدئة من الحركات الفامينية في أوروبا منذ أربعين عاماً، يعني انفصالها عن ثقافة المقاومات السابقة، هذه هي إحدى الأجوبة الملموسة في عدم تخطي ثقافة الاغتصاب جذرياً والحد منها أو إيقافها، إن إشارتي إلى ذلك؛ لا يعني إنكار نضال الحركات الفامينية في الغرب أو في أي بقاع من العالم، أو تضليل حقيقة النضال الموجود في تلك الساحات، هناك نتاج قيم لأعمال الحركات الفامينية التي بدأت من الغرب منذ ما يقارب أربعين عاماً ضد الاغتصاب على الصعيد الحقوقي، الأيديولوجي، النظري والسياسي، إلى جانب تنمية وعي هام أحدث تغييراً في القوانين أيضاً، وما زال هذا النضال يستمر في البعض من جوانبه، ما اقصده هو مثلما للاغتصاب تعريف أو نطاق من الناحية التاريخية والسياسية والاجتماعية والإيديولوجية والثقافية في الحياة؛ فإن الكفاح ضده والمستمر إلى الآن يشمل نفس النطاق أيضاً، كل نظام منتج للاغتصاب ويستمر به ضد المرأة، أسرَّ المجتمع بالثورة المضادة، كذلك الأنظمة اللاحقة اتبعت نفس الاستراتيجية مهما تغيرت أسمائها، إن الحقيقة التي ما تزال تحيا هي مناهضة الحرية والقيم الإنسانية من خلال المرأة، انطلاقاً من ذلك لا يمكن تسمية القضية بأنها تقرب النظام من المرأة فحسب وتجزئتها، القضية هي تقرب النظام من المرأة ومن خلالها للمجتمع والإنسانية، لذا فإن نطاق كل قضية معنية بالمرأة قضية اجتماعية، كل هجمة تستهدف المرأة أو تستثمرها هي هجمة ضد المجتمع، مثلاً، عندما تفرض القوى العظمى الاغتصاب الجماعي على النساء في زمن الحرب فهي استراتيجية الإبادة الاجتماعية، لذا فإن كافة النضالات التحررية التي تستهدف هذا النظام وتناهضها، تعني التصدي لهذه الهجمات في نفس الوقت أيضاً، لهذه النضالات خاصية الوقوف ضد جميع ما تفرضه الثورة المضادة في الساحة الاجتماعية، بالطبع للنضالات التحررية الموجودة إلى الآن جوانب لم تتخطى الجنسوية الاجتماعية وحتى تحمل آثار تكوين المجتمع الجنسوي ومخلفاتها، إن عدم إيقافنا ثقافة الاغتصاب بشكل كامل له دور في نواقص الحركات الثورية الاجتماعية وعدم تخطي تأثيرات الجنسوية الاجتماعية، باتت حقيقة بأن هذه النضالات هي نضالات وحركات مناهضة للاغتصاب، بالرغم من جميع جوانبها الناقصة، من دون ضياع هذا التوجيه لو أدركنا حكاية النضال المتبع ضد الاغتصاب، سنصل إلى معرفة الغنى التاريخي لكافة جوانب نضالنا الراهن أيضاً، كذلك سنرى مدى متن الاتفاق الذي سنقيمه بنضالنا هذا في نفس الوقت.

لو تداولنا الموضوع من هذا الجانب، ينبغي أن يكون أولى المكتسبات التي نجنيها من النضال ضد ثقافة الاغتصاب هي التحلي بفلسفة تاريخية صائبة، واكتساب وجهة نظر فلسفية للحياة والأحداث والأنظمة ولكل ظاهرة، فإن لم نكتسب ذلك لا يمكننا النفاذ من مصيدة الحداثة الرأسمالية المنطوية على ألف حيلة وحيلة، وبالتالي التخلص من موضع "مُهيأَ للاغتصاب"، لأن النظام قام بأول عملية اغتصاب قبل آلاف الأعوام ضد ساحتنا الفكرية وفلسفتنا الحياتية "جعل ثقافة الاغتصاب حاكم بدل الأخلاق" كما قال القائد عبد الله أوجلان، أقنعهم وجعلهم عبيد ليكونوا أرضية جاهزة للاغتصاب، لهذا السبب على المفهوم الفلسفي أن يحتل مكانه دوماً في حكاية نضالنا.

بدأت حكاية الاغتصاب بالفلسفة التي حملتها الميثولوجيا السومرية، لا يمكن مشاهدة الاغتصاب من دون تسمية الإلهة "نينليل" والإله "إنليل" فلسفياً وتحليل التسميات والنماذج الراهنة، لم يُدرك الاغتصاب كاغتصاب، لأنه أصبح من الحقوق الطبيعية بين صفوف المهيمنين ويتم تقديسه في مواجهة المجتمع، ويستمر مبايعته كحق من الدولة إلى الأزواج واحد تلو الآخر، ومن ثم من الأزواج بالإجماع إلى الدولة مرة أخرى، فحتى لو تبين بأن الاغتصاب هو عملية اعتداء على بدن وروح المرأة من خلال تواطؤ الرجل - الدولة المهيمنة فحسب، فإنه حق فرض على المجتمع بعد تقديسه. شخص القائد عبد الله أوجلان هذا الحق بقوله "ما تحتويه الدولة القومية من إكثار للسلطة الدينَوِيّة والقوموية والجنسوية والعلموية، وشروع بعض الفلاسفة وعلى رأسهم نيتشه وفوكو وأدورنو، بإقامة القيامة باسم الحقيقة، وتصريحاتهم بشأن كون الحداثة فرداً مخصيّاً وخارجاً من كونه اجتماعياً؛ إنما يشرحُ هذا الواقع".

أما بالنسبة لنا فإن هذا التشخيص يبين بشكل مذهل إمكانية تخطي ثقافة الاغتصاب الممتدة إلى آلاف السنين بالمفهوم الفكري والفلسفي، لو أدركنا بأن ثقافة الاغتصاب هي إيديولوجية السلطة الجنسوية بعمق واستمرار، سندرك فلسفتها بشكل كلي لا جزئي. وهذا هو استعداد هام لا يمكن استصغاره لنجاح النضالات.

هذا الإدراك الفلسفي الكلياتي سيؤدي بنا إلى نقطة أساسية، وهي أن ثقافة الاغتصاب بنية سلطوية كلياتية، إذا لم يكن النضال ضدها بهذا الشكل، فلن يكتب له النجاح أبداً، يمكننا التعبير عنه بهذا الشكل أيضاً، إذا كانت ذهنية النظام مهيمنة فإن النظام ينطوي على الاغتصاب تماماً وجريمة مشتركة، علينا أن نسعى جاهدين إلى إيجاد آثار هذه الجريمة في جميع ميادين النظام وتعريفها والكفاح ضدها، قد ننجح على الصعيد الحقوقي ولكننا سنخسر على الصعيد الاجتماعي، إذا نجحنا في الميدان السياسي سنخسر في الثقافي والفني، لأن النظام الاغتصابي نظم نفسه ذهنياً وعملياً بشكل متداخل ومتراصن، علينا أن نستهدف جميع ميادينه المتوحدة والمغذية لبعضها البعض ونهزمها، تصوروا إحدى النساء المعتديات جنسياً، عليها قبل أن تلجأ إلى المحكمة لتقديم الشكوى أن تنجح في صراعها مع نفسها أولاً، هل ستتحمل ردود أفعال الوسط وهل بإمكانها الحسبان له؟ هل ستتحمل "وصمة العار" بالتسمية التقليدية؟ لنقل إنها نجحت في التغلب على مخاوفها وقدمت الشكوى إلى المحكمة، وهنا هل بإمكانها الصمود أمام ما ينتظرها في المحكمة أم لا؟ وإن نجحت الدعوة في المحكمة، هل سيكون هناك أب أو زوج في انتظارها بعد ذلك؟ لنقل إنها تخطت ذلك أيضاً، الاغتصاب ظاهرة تحدث دوماً وإذا ما واجهتها مرة ثانية، هل بإمكانها أن تتغلب على هذا الحكم "لماذا تتعرض هذه المرأة بالذات إلى ذلك"؟ لتكن هذه المرأة من الشعوب التي لا تعترف بهويتها الثقافية والسياسية أي من الشعوب المضطهدة، لتكن من الآخرين، لنقل بأنها تغلبت على جرح الاعتداء بقوتها ووعيها ولها استعداد ثقافي ونفسي، ولكن إلى متى بإمكانها الحصول على حقوقها المسلوبة كل يوم بالاغتصاب؟ لتكن هذه المرأة إحدى مواطنات الدول المستقلة، كيف لها أن تتحمل الاغتصاب الروحي والبدني المتبع من خلال القصف الإعلامي والفني والرياضي والجنسي والاقتصادي وإلخ، كيف يمكن العيش في أحضان طبيعة نظيفة صحية وسليمة، وكيف يمكن تنمية وحماية حق حريات المجتمع والفرد تجاه ثقافة الاغتصاب هذه؟ إذا تم إدراك الاغتصاب بشكل كلياتي، فإن وعي النضال ضد ثقافة الاغتصاب ستكون كلياتية أيضاً، علينا أن نتراجع عن الإدراك المحدود للاغتصاب، وهو تعرض إحدى النساء أو الرجال لاعتداء جنسي مثلما يمر في الشريط الإخباري على شاشات التلفزة أو تعرض كذا عدد من الأطفال في الحرب إلى اعتداء جنسي وفق الإحصائيات والأرقام، لنتراجع حتى نتعرف على كيفية استلاب حقوقنا في ممارسة السياسة بفكرنا الحر.

لو لم نرى سياسات القوى التي تدير العالم برأسمالها وبعض الدول التي ما هي إلا دمى متحركة بيد هذه القوى وما تمارسه في المجال الاقتصادي والإيكولوجي والاجتماعي والتعليمي والسياسي وفي الحرب والسلام وإلخ رغماً عن إرادة الملايين من الناس وعلى أساس مناهضتهم على إنها اغتصاب، فلا يمكننا رؤية هذه الثقافة أو التغلب عليها، إن العائلة من إحدى المؤسسات التي يجب على النساء أن تناضلن فيها ضد ثقافة الاغتصاب، يأتي القائد عبد الله أوجلان بتشخيص مذهل لهذا السبب "إذا ما تَمَعَّنَّا في عبودية المرأة عن كثب أكثر، فسيَلفِتُ انتباهنا جانبُها الساحق والغالب للغاية، والذي يخرجها من إنسانيتِها. فحبسها في البيت ليس مجرد أسر مكاني، بل وليس بسجن فحسب، بل إنه يفيد بوضع الاغتصاب من الجذور، دخل "الرجل القوي الماكر" بيت المرأة واقتصادها خلسة كاللص، لَم يَكتَفِ بالنهبِ والسلب، بل والأنكى من ذلك أنه حول خلِية العائلة المقدسة إلى مرتع الأربعين حرامي، بإبقائه على المرأة تئن تحت نيرِ اغتصابِه الدائمِ لها".

لو قبلنا حقيقة العائلة مثلما هي موجودة، سنكون قد تغاضينا النظر عن مركز هذه العائلة كمؤسسة لإنتاج العبودية باستمرار، إذا ما لم نحرر مؤسسة العائلة من الدور الذي كلفها به النظام ولم نجعلها أرضية لعلاقات تستند على الإرادة الحرة والمساواة، ستحمي دوماً الأرضية الاجتماعية لثقافة الاغتصاب، مازالت هذه المؤسسة تستعمر حرية وجنسية وبدن الملايين من النسوة في العالم، حتى وإن لم يكن بنفس المستوى والشكل، حتى أن الكثير من الدول التي وقعت على معاهدة الأمم المتحدة "سيداو" تتقرب بارتياب من توقيعها تحت اسم قدسية العائلة وعرضها والخاصيات الدينية والتقاليدية، تم نص هذه المعاهدة لإيقاف التمييز الجنسي ضد المرأة ولكنها مشلولة عملياً، لذا لا يمكن إيقاف الاعتداء على النساء باسم مؤسسة العائلة أو بالاستناد على القوانين من دون ضغط اجتماعي، إذا تحررت العائلة وأصبحت ديمقراطية من خلال تجانس اتفاقيات موسعة بين النساء والأطفال والرجال المطالبين بالحرية؛ لن تتغير الذهنية التي تحسب جنسية وبدن المرأة والأطفال كمُلك، وكذلك سيستمر المنطق الذي يتهم المرأة بالخطيئة (تستحق العقاب في حال تعرضها لاعتداء جنسي) في الكثير من بلدان العالم التي يتمحور فيها مفهوم الشرف حول المرأة، هناك وضع مشابه في الغرب أيضاً، بالرغم من حصول المرأة على بعض حقوقها بعد فترة نضالية طويلة في المجال الحقوقي، لهذا السبب تحمل ساحة النضال تغيير الرجل أهمية بالغة في مسألة النضال ضد ثقافة الاغتصاب، لأن المجتمع الذكوري المهيمن المتكون في أساسه من وحدة الرجل والمرأة، له نفس المحتوى في استهلاك الجنسين، العلاقات الموجودة بين الجنسين بهذا التكوين تغذي ثقافة الاغتصاب وفي مركز مقاومة مستمرة ضد تخطي هذه الثقافة، يشير القائد عبد الله أوجلان، إلى هذه الحقيقة بهذا الشكل "إن الحداثة الرأسمالية تحرف علاقات الحب والعشق، ولكن في الحقيقة إذا كان العشق على أساس الحب أو قبول الإرادة بشكل متبادل ويحترم إرادة المرأة وطبيعتها ومناسب مع جوهرها فهو ذا معنى، السؤالُ الأساسيُّ الواجب طرحه هو "لماذا يصبح الرجل حسوداً ومتحكماً وجانياً لهذه الدرجة بشأن المرأة، ولِمَ لا يتخلى عن العيش في وضعِ المغتصب المُعتَدي أربعاً وعشرين ساعةً في اليوم؟ ما من ريب في أنّ الاغتصاب والتحكم مصطلحان استغلاليان، فهما يعَبّران عن الماهية الاجتماعية للمجريات، وغالباً ما يذَكِّران بالهرمية والبطريركية والسلطة، أما معناهما الكامن في الأعماق، فهو تعبير عن خيانة الحياة، لكنّ تَشَبُث المرأة بالحياة من نواحي عديدة، بمقدورِه الكشف عن الموقف الجنسويِّ الاجتماعيِّ للرجل".

كما يفيد بأن أحد أهم دعائم نضال حرية المرأة هو الكفاح ضد ثقافة الاغتصاب المزينة بالزواج وعلاقات الحب والعشق، إن اختيار المرأة نموذج حياتها والرجل المناسب وفق مقاييسها في الرفض والقبول هام للغاية في هذه النقطة، عند الحديث عن النضال ضد ثقافة الاغتصاب، في حين تقبل المرأة بالرجل صاحب الذهنية الاغتصابية وتحبه وتتزوج به وتعيش معه، ما هو إلا حالة من الكوميديا التراجيدية، لذا فإن "الطلاق الأبدي" من ثقافة الاغتصاب في مسألة النضال ضد الاغتصاب ذو أهمية حياتية.

تفيد الكاتبة كاثرين في كتابها "نحو نظرية الدولة الفامينية" عن أهمية النضال في المجال الحقوقي ضد الاغتصاب بالإضافة إلى مصاعبه "لم يمنع الاغتصاب في نظر المرأة، بل تم ترتيبه، فحتى النساء اللواتي تم الاعتداء عليهن لا يؤمنون بأن مسألة الأنظمة القانونية أن تنظر إلى المسالة بنفس منظارهن، وأغلبيتهن على حق، فوفق تجارب الكثير من الضحايا، بدل من أن تسد الدولة الطريق أمام الاغتصاب تساهم في استمراريته، تذكر الكثير من النساء اللواتي قدمن دعوات الاعتداء الجنسي بأنهن تعرضن مرتين للاعتداء، المرة الثانية تحدث أثناء جلسات المحاكمة، يحمل تجاوز حدود خفايا المرأة معنى آخر تحت هيمنة الدولة الذكورية التي تحط من شأنها وتجعلها عرضة جنسية للعالم معنى آخر، الاغتصاب الذي كسب المسامحة القانونية يحول النساء إلى مواطنات من الدرجة الثانية".

 

غداً: الاغتصاب كابوس ـ 2