احتضار الدولة ذاتية التدمير
هل يمكن للقمع، والدعاية، وإقصاء الإصلاحيين أن يسد الفجوة العميقة في الشرعية في إيران ما بعد الحرب؟ أم أن الحكومة تسير أكثر من أي وقت مضى على طريق عدم الاستقرار البنيوي؟

شيلان سقزي
مركز الأخبار ـ عقب الحرب التي استمرت 12 يوماً بين إيران وإسرائيل، والتي انتهت بهدنة غامضة بوساطة الولايات المتحدة وقطر، دخلت إيران مرحلة معقدة ومتعددة الأوجه، فالهدنة الهشة لا تعني نهاية التوترات، بل تشكّل بدايةً لمرحلة قلقة غير قابلة لإعادة البناء في بعض المجالات، وزيادة حدة الأزمات الداخلية السياسية والاجتماعية والأمنية في إيران ما بعد الحرب.
إيران القائمة على الشريعة لم تسقط جسدياً، لكنها من حيث الشرعية الاجتماعية والهيبة الرمزية تعرضت لضربة تاريخية. الهجوم المباشر من القوات الإسرائيلية على البنية التحتية الأمنية والعسكرية، التي كان يُروَّج لها سابقاً على أنها منيعة، أضعف صورة السلطة الاستعراضية. ورغم أن المؤسسات الأساسية للنظام لا تزال قائمة ظاهرياً، إلا أنها باتت تعاني بوضوح من التآكل الوظيفي وفقدان الثقة.
والآن، بحسب آخر تصريحات المرشد الأعلى لإيران، تسعى السلطة من خلال الإعلام المحلي والجهات التابعة لها لترويج رواية "الانتصار المعنوي" أو "الصمود أمام الصهيونية العالمية"، لكن من غير المرجح أن يكون لهذا النهج تأثير يُذكر على الرأي العام المرهق والمتألم، خاصةً بعد انتفاضة "jin jiyan azadî" التي كشفت عن استعداد المجتمع لعصيان مدني سريع الاشتعال.
النظام الإيراني المأزوم يحاول التنصل من المسؤولية، محمّلاً من يصفهم بـ "الخونة الداخليين" مسؤولية الضعف والأزمات الحالية، وذلك لتبرير تحويل المناخ المجتمعي إلى مناخ أمني متشدد. غير أن هذا الأسلوب سيزيد من عمق الغضب المكتوم وانعدام الثقة. المسألة الجوهرية هي أن هذا النظام الديني ـ الولائي لم يعد قادراً على العودة إلى ما قبل الحرب، ولا يمتلك القدرات اللازمة لإجراء إصلاحات جوهرية. هذا الوضع يمكن وصفه بـ "اللااستقرار المستدام بعد الحرب"، أي استقرار ظاهري تخفي تحته أزمات مزمنة متعددة الطبقات، مثل أزمة الشرعية، العجز الاقتصادي، الاضطراب الأمني، والقمع الاجتماعي، والتي تتراكم يوماً بعد يوم.
في هذا السياق، تبدو التوقعات بالنسبة لإيران تتجه نحو استمرار حالة شبه الحرب، تصاعد حملات القمع، التآكل الداخلي، وتزايد حالات العصيان الاجتماعي في المستقبل القريب، ورغم أن النظام قد تجاوز أزمات سابقة، فإن شدة الضربة الأمنية الأخيرة جعلت منها أزمة من نوع "الهشاشة البنيوية"، وطالما أن النظام يواصل تبني سياسة الإنكار، ولا يعترف بأزمة النفوذ هذه ويعتبرها مجرد "حرب نفسية من العدو" ضمن فرضية "نظرية المؤامرة"، فإن أحد أكثر ردود أفعاله ترجيحاً سيكون زيادة القمع الداخلي كوسيلة للبقاء واستعادة السلطة المتداعية.
بمعنى آخر، في ظل تعرّض البنية الأمنية الإيرانية لهزيمة معنوية ووظيفية نتيجة الحرب، فإن إعادة بناء السلطة المنهارة تستند فقط إلى العنف الداخلي، وهو الخيار الوحيد المتاح في هذا السياق.
قمع الصحفيين والنشطاء المدنيين والأكاديميين والأقليات القومية والإثنية بل وحتى التيارات الإصلاحية التي قد تلعب دوراً نقدياً في إعادة تفسير الحرب، يمثل جزءاً من محاولة لبث الرعب العام.
وقد شهدنا نماذج مشابهة لذلك بعد احتجاجات كانون الأول/ديسمبر ۲۰۱۷، وتشرين الثاني/نوفمبر ۲۰۱۹، وثورة "jin jiyan azadî" في عام ۲۰۲۲، لكن هذه المرة سيتم تغليف الاتهامات الباطلة بتهم أمنية مثل "التعاون مع العدو في زمن الحرب". في مثل هذه الأجواء القمعية، لا وجود لتوافق سياسي لإجراء إصلاحات، ولا مكان لمشاركة النخب.
بالتوازي مع القمع الجسدي، يجري قمع رمزي عبر هندسة الرأي العام، إغلاق وسائل الإعلام، فرض رقابة مشددة، إقصاء الشخصيات الثقافية الناقدة، وضخّ سرديات بطولية في الإعلام الرسمي مثل "المقاومة البطولية في وجه إسرائيل" أو "خيانة الداخل".
من منظور آخر، قد نشهد ضمن سيناريو ضعيف محاولات انحراف وصور زائفة لإصلاح سياسي، من خلال إعادة بعض الوجوه الإصلاحية القديمة لإحياء الثقة العامة، لكن ذلك سيكون تكتيكياً ومؤقتاً، لا تغييراً استراتيجياً.
بشكل عام، ورغم لجوء النظام إلى بعض المناورات السياسية أو الاقتصادية السطحية لخداع الرأي العام والسيطرة عليه، فإن ردّ فعله الرئيسي هو القمع الأمني، الذي لا يهدف فقط إلى كبح الاحتجاجات بل أيضاً إلى ترميم الشرعية المتداعية وزرع الخوف من جديد في المجتمع.
غير أن هذا المسار لا يقدّم حلاً للأزمة، بل يؤسس لقمع مستمر سيفضي إلى انفجارات مستقبلية، تظهر بوادرها في حركة "jin jiyan azadî".
في الخطاب الرسمي الإيراني في مرحلة ما بعد الحرب، لا تظهر أي مؤشرات على تحمّل المسؤولية أو الانفتاح السياسي، بل على العكس، يُرجع المسؤولون الأمنيون والعسكريون الأزمة إلى "تسلل الأعداء" ويتهمون المعارضين بالخيانة أو الضعف، مطالبين بإعادة تعريف النظام الداخلي على النهج الولائي، لا من خلال الإصلاح أو الحوار.
المسار التاريخي للجمهورية الإسلامية في الأزمات الأمنية لطالما اتجه نحو تركيز السلطة والقمع، لا نحو المشاركة السياسية؛ كما حصل بعد احتجاجات 2009، حين بدأت هندسة الانتخابات واستبعاد الإصلاحيين، وتكرّر ذلك بعد انتفاضة تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وصولاً إلى انتفاضة "jin jiyan azadî" حيث استُخدمت رمزية إزاحة إبراهيم رئيسي لفتح مساحة شكلية للإصلاحيين تحت رقابة تامة.
في ظل هذه المعطيات، أصبح النظام الديني الولائي أداة لتعميق الإقصاء السياسي وتكريس السلطة الموحدة، لا منصة للمراجعة أو الإصلاح.
ومن جهة أخرى، إن التطلعات الشعبية بعد انتفاضة "jin jiyan azadî"، خاصة من النساء والشباب، تجاوزت الحلول الإصلاحية الشكلية، حتى إذا أعيد بعض الوجوه الإصلاحية مثل محمد خاتمي أو حسن روحاني، فسيكون ذلك كـ"درع ناعم" لمواجهة الضغط لا كمشروع مستقل.
الفضاء السياسي المحتمل سيكون ضيقاً، محكوماً ومصطنعاً دون قدرة حقيقية على التنظيم الاجتماعي أو السياسي، ويهدف أساساً إلى التجميل الخارجي.
وبالتالي، يبدو أن السيناريو الأكثر ترجيحاً لمرحلة ما بعد الحرب هو استمرار الإغلاق والقمع والاعتقالات والمحاكمات الصورية، بل وحتى استبعاد رموز النظام السابق نفسه، فإيران ذات الطابع الديني الأمني تتجه لتكون "دولة ثكنة" قائمة على ولاية الفقيه المطلقة، وهو مسار يفضي إلى الانهيار التدريجي لا إلى تجاوز الأزمة.
ومع تعمق السخط والفجوات داخل المجتمع، خاصة بين النساء والأقليات والشباب، فإن هذا النهج لا يضمن الاستقرار بل يعجّل بانفجارات قادمة.