هدنة على صفيح ساخن... هل هي بداية الحل أم تمهيد لانفجار جديد؟
هل سيجلب هذا الوقف المؤقت لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران الهدوء، أم أنه مجرد قناع لانهيار وشيك للنظام الإيراني؟ بينما تستمر المفاوضات الصعبة في ظل التوترات المشتعلة.

ماريا كرمي
عُقدت الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في الأردن؛ وبذلك تكون الجلسة الخامسة، لكن قبل أن تُفضي إلى أي انفراج، شنّت إسرائيل في 13 حزيران/يونيو هجماتها على القواعد العسكرية، المراكز اللوجستية، مستودعات الأسلحة، أنظمة إطلاق الصواريخ، وقادة ومسؤولي النظام الإيراني.
استمرت هذه الهجمات اثني عشر يوماً، واتسعت رقعتها مع دخول قاذفات B-52 الأمريكية وقصفها لثلاثة مراكز نووية رئيسية في إيران نطنز، فوردو، وأصفهان، ثم تم التوصل إلى وقف إطلاق نار شكلي بوساطة دونالد ترامب بين الطرفين، لكن لا شيء يشير إلى انحسار الأزمة، فالأنظار تتجه مجدداً نحو المستقبل، وتطرح أسئلة منها، إلى متى ستستمر هذه التوترات؟ إلى أي مدى سيلتزم الطرفان باتفاق غير مكتوب؟ ومن سيخطو الخطوة التالية؟
ورغم أن هذه المواجهات مهّدت الطريق لجولة جديدة من المفاوضات، إلا أن المرحلة الأولى من الحوار أظهرت تمسك الطرفين بمطالبهما الأساسية، فإيران رفضت وقف تخصيب اليورانيوم، والولايات المتحدة لم تُبدِ استعداداً لتقديم ضمان واضح بشأن السماح باستمرار محدود للتخصيب، وكأن كل اتفاق يقف على حافة سكين بين التهديد والمصلحة.
وقد أعلنت إيران بوضوح أن التدخل في ملفها النووي ومسألة تخصيب اليورانيوم من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها، وأنها لن تتسامح مع خرقها، وبذلك انتهت خمس جولات من التفاوض بين طهران وواشنطن دون نتائج، رغم أن البيانات الرسمية أظهرت بصيص أمل في تقارب وجهات النظر.
لكن بعد أن أدركت الولايات المتحدة أن إيران، بعد استغلالها للفرص والمكاسب، سمحت لإسرائيل بشن هجمات على أهداف محددة داخل إيران، ردّت السلطات الإيرانية للحفاظ على هيبتها وتعويض ضعفها الأمني، بشن هجمات انتقامية لعدة ليالٍ متتالية باستخدام طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية مثل "فتح" و"خرم آباد".
وفي خضم ذلك، دفع الطرفان ثمناً باهظاً، قُتل مدنيون أبرياء، دُمّرت منازل، وتضررت البنى التحتية الاقتصادية والخدمية بشكل كبير.
الآن، وبعد أيام من إعلان وقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق أولي، تبرز عدة أسئلة جوهرية، هل يمثل هذا الاتفاق نهاية التوترات؟ أم أن الأمور ستعود إلى سابق عهدها، ويعود الطرفان إلى لغة التهديد والنار؟ يعتقد كثيرون أن إيران لا تزال جريحة، لكنها تترصّد، كأفعى تنتظر الفرصة للانقضاض مجدداً.
وهذا وضع لا تقبل به إسرائيل والولايات المتحدة، فهما لا ترغبان في منح إيران فرصة لإعادة بناء قدراتها أو التخطيط لهجمات معقدة ضد مصالحهما في المنطقة، ففي نص الاتفاق، دعت الولايات المتحدة مرة أخرى إيران إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، مؤكدةً أن الوقف غير المشروط لتخصيب اليورانيوم يُعد أحد الشروط الأساسية لأي اتفاق شامل.
في المقابل، تُظهر التصريحات الرسمية الإيرانية أنها لا تزال متمسكة بمواصلة برنامجها النووي، والاختلاف الوحيد هو أنها قد تنقل فائض اليورانيوم إلى دول مثل روسيا أو الصين، وهو اقتراح ورد في البيانات الرسمية، ويُعد أكثر دلالة على عدم استعداد إيران لقبول حل شامل.
ولهذا السبب، دخلت فرنسا مؤخراً على خط الأزمة، مطالبةً باستئناف المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، وإلى جانب ذلك، أُعيد ملف تطوير الصواريخ الباليستية إلى طاولة الحوار، وكان من المتوقع تماماً أن تقدم فرنسا مثل هذا الاقتراح في هذا التوقيت، إذ إن القوى الكبرى مثل ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إسرائيل والولايات المتحدة، قد أحالت الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، وتكوّن إجماع واسع على ضرورة احتواء هذه الأزمة، ومنع إيران من امتلاك سلاح نووي بأي شكل من الأشكال.
وعلاوة على الملف النووي، تطالب الدول الغربية وحلفاؤها الإقليميون بأن تتوقف إيران عن دعم وكلائها، وتوسيع البنية التحتية الصاروخية، والاتجار غير المشروع بالأسلحة، وشبكات التهريب، وغسل عائدات النفط والأموال على المستويين الإقليمي والدولي.
وقد تكررت هذه المطالب على لسان المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، وجاءت في البيانات الرسمية التي تصف إيران بأنها ليست فقط مصدراً لعدم الاستقرار في المنطقة، بل تهديداً عالمياً للسلام، من خلال دعمها للجماعات الوكيلة والمزعزعة في أنحاء العالم، مما يُلقي بظلاله الثقيلة على أمن الشرق الأوسط.
فمن أشعل فتيل النار في المرحلة الأولى من الهجمات؟ وما هي الأهداف التي وُجهت إليها الطلقات الأولى؟ في المرحلة الأولى من الهجمات الإسرائيلية، كان التركيز منصباً على أهداف عسكرية بحتة منها قواعد، مقار، مستودعات، وقوات تابعة للحرس الثوري، أنصار الله، وقوات الباسيج، وحملت هذه الهجمات رسالة مباشرة وتحذيرية إلى أعمدة السلطة وغرف القيادة في النظام الإيراني؛ رسالة واضحة مفادها أن إسرائيل والولايات المتحدة لا تعتزمان في الوقت الراهن استهداف القوات الجوية والبحرية، الشرطة، المراكز الدينية أو رجال الدين.
هذا القرار أتاح فرصة جديدة للحوار وإمكانية العودة إلى طاولة المفاوضات، وقد أُكد في بيانات بدء العمليات أن الهدف هو المراكز السرية التي أنشأها النظام وشبكاته التابعة لتنفيذ أجنداته العابرة للحدود، وليس المدنيين العاديين، بل طُلب من السكان إخلاء بعض المناطق حفاظاً على سلامتهم ولزيادة الضغط على النظام لإدارة الأزمة.
في هذا السياق، مضت الولايات المتحدة وإسرائيل في استراتيجيتهما بناءً على تصور مفاده أن إيران قد ترضخ في الجولة الثانية من المفاوضات تحت ضغط المؤسسات الدينية أو الصين، وخلال الهجمات، وردت تقارير تفيد بأن بعض المرجعيات الدينية في قم اقترحت على خامنئي فتح نافذة للتوافق، لكن هذه المقترحات قوبلت بالتجاهل نتيجة تدخل الحرس الثوري.
ولا تزال الولايات المتحدة وإسرائيل تعتقدان أنه من دون الحاجة إلى تصعيد العقوبات الاقتصادية أو المواجهة المباشرة، يمكنهما دفع النظام الإيراني نحو التسوية من خلال استهداف دقيق للبنى، المؤسسات الروحية، والمراكز الرسمية الخارجة عن الإطار القانوني للدولة، وتعتبران هذه المرحلة فرصة ذهبية لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية، وهي فرصة تم اختبارها بعناية حتى الآن.
لكن إذا تجاهلت إيران هذه الفرصة ورفضت المصالحة، فإن احتمال الدخول في مرحلة أكثر عنفاً واتساعاً ووضوحاً يصبح أقوى، وفي مثل هذا السيناريو، قد تنخرط الدول الأوروبية، التي بات دعمها لإسرائيل أكثر وضوحاً، في موجة أعنف من العمليات؛ موجة لا تقتصر على القواعد العسكرية ومراكز الدعم، بل تستهدف أيضاً الشخصيات القيادية في النظام.
وفي تحليلات المرحلة الثانية من الهجمات، ورد حتى اسم علي خامنئي، المرشد الأعلى ضمن قائمة الأهداف المحتملة؛ وهو سيناريو يرسم مستقبلاً مشابهاً لمصير صدام حسين ومعمر القذافي، مستقبلاً قد يمثل نهاية نظام وبداية فصل جديد في معادلات المنطقة.
هذا الوضع يُظهر أن وقف إطلاق النار الحالي هو وقف مؤقت وتكتيكي بأهداف محدودة، وليس حلاً جذرياً لأزمات إيران الداخلية وبنية النظام الإيراني، فموجة الهجمات القادمة لن تقتصر على تفكيك البنية السياسية والإدارية والأمنية والخدمية للنظام، بل ستدفع بمستقبله نحو مصير مشابه لأنظمة متزعزعة مثل بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي.
من جهة أخرى، يسعى المهاجمون بدقة إلى تحويل السخط الشعبي المتراكم في إيران إلى شرارة لانتفاضة شاملة وانفجار اجتماعي وأزمة داخلية تهز استقرار النظام من جذوره، وقد أدركت إيران منذ الموجة الأولى من الهجمات أن الهدف الأساسي لم يكن البنية التحتية العسكرية فحسب، بل التمهيد لانتفاضة شعبية، ولهذا، سارعت أجهزة القمع إلى التحرك، ووجهت نيرانها مجدداً لا نحو العدو الخارجي، بل نحو الشعب، والنشطاء، والوجوه الاجتماعية، والشباب، وخاصة النساء.
تصاعد الضغط على السجناء، لا سيما السجينات السياسيات، وتم الحكم على أكثر من ألف شخص بالسجن فقط بتهمة التواصل أو التعاون مع إسرائيل؛ كما أُعدم عدد منهم دون محاكمات عادلة.
هذه الردود العنيفة تعكس رعباً عميقاً داخل بنية السلطة؛ رعباً ليس من قصف إسرائيل أو هجمات أمريكا المباشرة، بل من ثورة شعبية لا يمكن كبحها، لا تزال جذوتها مشتعلة في نفوس من حملوا شعار Jin Jiyan Azadî.
إنه خوف من أن تندلع نيران الغضب الشعبي مجدداً، وهذه المرة تربط مصير إيران بمصائر دول مثل سوريا، ليبيا، اليمن، مصر أو العراق؛ مصير لا يُتصور له رجعة.