اكتئاب ما بعد الولادة... حين تتحول الأمومة إلى معركة نفسية صامتة

يغيب عن الخطاب العام حقيقة أن بعض النساء تخضن بعد الولادة واحدة من أصعب المعارك النفسية في حياتهن، فبين التغيرات الهرمونية الحادة، الضغوط الاجتماعية، وتوقعات المحيط، تجد المرأة نفسها أحياناً وحيدة في مواجهة مشاعر ثقيلة لا يُعترف بها.

ابتسام اغفير

بنغازي ـ يُعد اكتئاب ما بعد الولادة من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً بعد الإنجاب، وهو حالة تتجاوز الحزن العابر لتتحول إلى صراع داخلي عميق يؤثر في الأم وطفلها وعائلتها، وتتداخل في هذه المرحلة عوامل هرمونية ونفسية واجتماعية، تجعل الأم أكثر عرضة للقلق والعزلة والشعور بالذنب، مما يبرز أهمية الدعم الأسري والمجتمعي, وكسر الصمت عنه.

خلال الأشهر الماضية تم وبشكل موسع تداول خبراً عن طبيبة نساء أقدمت على الانتحار برمي نفسها في البحر بسبب اكتئاب ما بعد الولادة، الناس تعاطفت بشكل كبير مع الطبيبة، وبدأت ليبيا كلها متضامنة معها، وانصب الاهتمام الأكبر بعد ذلك بالحديث عن خطورة اضطراب الاكتئاب ما بعد الولادة، ولكن بعد ذلك ظهرت الرواية الحقيقية لموت الطبيبة والتي قتلتها أسرتها بالتواطؤ مع زوجها عمداً وإخفاء جثتها في خزان الصرف الصحي في منزلهم.

فاضطرابات ما بعد الولادة تُعتبر مشكلة صحية عامة مهمة حيث تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن حوالي 10% من النساء الحوامل و13% من النساء بعد الولادة قد يصبن باضطرابات نفسية، وغالباً يكون الاكتئاب أكثرها شيوعاً، في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، وقد تكون النسب أعلى (15.6% أثناء الحمل و19.8% بعد الولادة)، وفي الحالات الشديدة يمكن أن تكون المعاناة النفسية كبيرة وقد تصل إلى أفكار إيذاء النفس أو الانتحار لدى بعض النساء.

واكتئاب ما بعد الولادة ليس حالة نادرة، ولا ضعفاً عابراً، بل اضطراب نفسي قد يمتد أثره لسنوات إذا لم يُنتبه إليه مبكراً، وإذا لم تُحاط الأم بالدعم الطبي والأسري اللازم. في هذا التقرير، سنسلط الضوء على اكتئاب ما بعد الولادة من خلال تجربة شخصية، وآراء مختصين في الصحة النفسية، وطب النساء والولادة، والإرشاد الأسري، في محاولة لفهم أعمق لهذه المعاناة الصامتة.

 

أمومة مثقلة بالصراع الداخلي

تصف هناء بودبوس اكتئاب ما بعد الولادة بأنه من أقسى التجارب التي مرت بها كامرأة وأم، مؤكدة أن المجتمع لا يزال غير متقبل ولا متفهم لطبيعة هذه الحالة، فالنظرة السائدة تعتبر أن ما تمر به المرأة بعد الإنجاب أمر طبيعي وسهل، وأن جميع النساء يختبرنه بوصفه شعوراً عابراً لا يستدعي القلق، في حين أن الواقع مختلف تماماً.

وتوضح أن الآثار النفسية للولادة قد تكون شديدة العمق، وقد تمتد لسنوات إذا لم تهتم المرأة بصحتها النفسية وتعالج ما تمر به في الوقت المناسب، مشيرةً إلى أنها عاشت تجربتين مع اكتئاب ما بعد الولادة؛ الأولى قبل سبع سنوات عقب إنجاب طفلتها الأولى، وكانت تجربة صعبة ومربكة، والثانية تعيشها حالياً بعد ولادة طفلتها الجديدة.

وتصف هذه المرحلة بأنها صراع نفسي حاد، يزداد تعقيداً عندما يأتي الاكتئاب بعد إنجاب الطفل الثالث أو الرابع، حيث تدخل المرأة في حالة شدّ داخلي بين مسؤوليات أطفال موجودين بالفعل وطفل وُلد للتو، وتقول إن أكثر ما كان يرهقها خلال هذه المرحلة هو تدفق الأفكار المختلطة التي تدفعها إلى إعادة التفكير في كل تصرف وكل إحساس.

 

أعراض تتجاوز الحزن العابر

تتحدث هناء بودبوس عن مجموعة من الأعراض التي رافقتها خلال هذه المرحلة، من بينها الحساسية المفرطة، والبكاء لأبسط الأسباب، وأحياناً دون سبب واضح، كما تشير إلى التفكير المستمر في موضوعات متعددة، مع شعور دائم بالذنب، خاصة تجاه الطفل، إذ تشعر بأنها مقصرة بحقه رغم الجهود التي تبذلها، كما عانت من اضطرابات في النوم، شراهة في الأكل، ورفض رؤية الآخرين أو الحديث معهم، لما قد يترتب على ذلك من أفكار مؤذية للنفس.

وترى أنه على المرأة، عند شعورها بهذه الأعراض، أن تحيط نفسها بأشخاص يمنحونها الأمان والدعم، حتى تتمكن من تجاوز هذه المرحلة بأقل الأضرار الممكنة، مشيرةً إلى أن بعض النساء يلجأن إلى الأدوية، لكنها تفضل في المقام الأول التوجه إلى استشارة نفسية أو الحديث مع أشخاص موثوقين وأكثر فهماً للتجربة.

 

كسر الصمت ضرورة علاجية

تؤكد هناء بودبوس أن الحديث عمّا تشعر به المرأة في هذه المرحلة أمر بالغ الأهمية، وأن الخوف من فكرة "لن يفهمني أحد" لا يؤدي إلا إلى تعميق الإحساس بالوحدة والاكتئاب، مبينة أنها لم تفكر في الانتحار، ولم تفكر في إيذاء نفسها بشكل مباشر، لكنها لجأت أحياناً إلى الأكل المفرط حتى دون شعور بالجوع، أو فقدان السيطرة على أعصابها تجاه أمور بسيطة.

وتضيف أنها في تجربتها الأولى وجدت متنفساً في الكتابة العلاجية التي ساعدتها على التفريغ النفسي، لكنها في هذه المرة تشعر بتشتت وفقدان الرغبة في الكتابة، ولا تزال تبحث عن وسيلة تساعدها على الخروج من حالة الاكتئاب التي تمر بها.

 

 

اضطراب له مستويات ومخاطر

وتعرّف عزيزة الطبولي، الأخصائية النفسية، اكتئاب ما بعد الولادة بوصفه اضطراباً نفسياً يرتبط بالحالة النفسية للمرأة تحديداً بعد الإنجاب، موضحةً أن هذا الاضطراب يختلف كلياً عن "حمى النفاس"؛ فالأخيرة تُعدّ عرضاً عضوياً، بينما يُصنّف الاكتئاب كعارض نفسي بحت.

وتذكر أن هذا المرض لم يكن معروفاً سابقاً على نطاق واسع داخل الأوساط النسائية، لذلك لا يوجد له اسم شعبي متداول في ليبيا، وتصف الحالة بأن المرأة تشعر بالكدر والضيق، وهو شعور ناتج أساساً عن التقلبات الهرمونية؛ إذ تكون الهرمونات خلال فترة الحمل في أعلى مستوياتها، ثم تنخفض بشكل ملحوظ بعد الولادة، وهو أمر طبيعي.

وتوضح أن هذا التغير قد يؤدي إلى اضطراب واضح في الصحة النفسية من حيث القلق، وتقلب المزاج، ومشاعر أخرى مشابهة، وتؤكد أن هذه الحالة لا ينبغي أن تستمر لأكثر من ثلاثة أيام، فإذا تجاوزت هذه المدة فإننا نكون أمام تسميات وتشخيصات أخرى.

وتبين عزيزة الطبولي أن الصورة الكاملة لهذا الاضطراب تتطلب التمييز بين عدة مستويات، فالمستوى الأول يتمثل في اضطراب الكدر، وهو حالة من التقلبات المزاجية تصيب المرأة مباشرة بعد الولادة، وإذا استمرت هذه التقلبات لأكثر من ثلاثة أيام، ننتقل إلى مرحلة الاكتئاب أو اضطراب الاكتئاب، حيث تبدأ بالظهور علامات نفسية تعطي مؤشراً واضحاً على أن المرأة تمر فعلياً بهذا الاضطراب، لافتةً إلى أن هذه المرحلة قد تمتد من أسبوعين بعد الولادة وحتى ستة أشهر، ثم قد تدخل المرأة لاحقاً في مرحلة ما بعد اكتئاب النفاس.

وتشير إلى أن اكتئاب ما بعد الولادة قد يتطور في بعض الحالات إلى المرحلة الذهانية، والتي تُصنف إلى ثلاثة أنواع: الذهان الفصامي، والذهان الوجداني، والذهان الهذياني. وتعد هذه المراحل من أخطر المراحل، مؤكدةً أنه بمجرد دخول المرأة في مرحلة الاكتئاب، يصبح من الضروري التوجه فوراً إلى الطبيب النفسي لصرف العلاج المناسب أو الخضوع لجلسات نفسية تساعد على السيطرة على الاضطراب.

وتحذر من أن الوصول إلى مرحلة الذهان يعني فقدان القدرة على الإدراك، وهي مرحلة تمهيدية خطيرة تترافق مع سلوكيات مضطربة، وسماع أصوات، وشعور بأن هناك من يتآمر عليها، وقد تصل إلى رغبة شديدة في إيذاء الطفل.

وعن أكثر الأساليب العلاجية نجاعة وقبولاً مجتمعياً، تقول عزيزة الطبولي إن الاهتمام بالمرأة يجب أن يبدأ منذ بداية حياتها الزوجية وخلال فترة الحمل خاصة إذا كانت المرأة بكراً، موضحة أن المرأة تمر في هذه المرحلة بتحديات متعددة، اجتماعية واقتصادية، إضافة إلى الانتقال من بيت الأهل إلى بيت الزوج وكل ما يرافق ذلك من تغييرات.

وتضرب مثالاً بما تشهده العيادات النفسية من إقبال عدد كبير من النساء اللواتي وقعن في براثن الاضطرابات النفسية نتيجة تأخر الكشف المبكر، وعدم انتباه المحيطين بهن لما كنّ يمررن به بعد الولادة مباشرة، مشيرةً إلى أن المجتمع لا يزال يخشى الوصمة المرتبطة بزيارة العيادات النفسية أو استشارة الطبيب النفسي.

وتشدد عزيزة الطبولي على أهمية الرضاعة الطبيعية، لما لها من دور في إفراز هرمونات تساعد على الاسترخاء والشعور بالسعادة والتعافي النفسي، وأن هذا التعافي العاطفي ينعكس إيجاباً على المرأة وطفلها معاً، مؤكدة أن الاضطراب النفسي، شأنه شأن المرض الجسدي، يحتاج إلى علاج ومتابعة، وعلى المجتمع أن يعي ذلك.

 

 

الهرمونات في قلب المعادلة

بدورها توضح الطبيبة رشا أهنيد أن الأيام الأولى بعد الولادة (24ـ 48 ساعة) تشهد تقلبات هرمونية حادة وسريعة، حيث تنخفض بعض الهرمونات بنسبة تصل إلى 90%. هذا الانخفاض المفاجئ يؤثر مباشرة على المزاج والعاطفة لدى المرأة، ما قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية قد تتطور لاحقاً إلى اكتئاب ما بعد الولادة.

وتشير إلى أن النساء المصابات باضطرابات الغدة الدرقية أكثر عرضة لاكتئاب ما بعد الولادة، وأن هرمون الكورتيزول قد يسبب اضطرابات نفسية، بينما ارتفاع البرولاكتين يزيد من حساسية المرأة وانفعالها دون أن يسبب الاكتئاب مباشرة، موضحة أن هذه التغيرات الهرمونية طبيعية لدى جميع النساء بعد الولادة، باستثناء من لديهن مشاكل في الغدة الدرقية.

 

"البيبي بلوز"... تقلب المزاج الطبيعي

وتعلق رشا أهنيد أن "البيبي بلوز" هو تقلب مزاج طبيعي يصيب 70ـ80% من الأمهات بعد الولادة، ويظهر في صورة قلق بسيط، اضطراب عاطفي، ونوبات بكاء خفيفة، ويختفي تدريجياً خلال أسبوعين، أما إذا استمرت هذه الأعراض لأكثر من أسبوعين وترافقت مع رفض الطفل وصعوبة التعامل معه ومبالغة في ردود الأفعال، فهذا يُعد مؤشراً على تطور الحالة إلى اكتئاب ما بعد الولادة.

وتوضح أن طبيبة النساء والولادة يمكنها ملاحظة مؤشرات لاحتمالية إصابة المرأة باكتئاب ما بعد الولادة، مثل وجود تاريخ مرضي سابق، أو إصابة سابقة بالاكتئاب بعد الولادة، أو وجود تاريخ عائلي للاكتئاب، لكنها تؤكد أن التشخيص والعلاج من اختصاص الطبيب النفسي، فيما يقتصر دور طبيبة النساء والولادة على متابعة الجانب الجسدي.

وتشير إلى أن تحويل المرأة إلى الطبيب النفسي في حالات اكتئاب ما بعد الولادة يتم في مرات قليلة، لأن الطبيب النفسي هو الأكثر قدرة على وصف الأدوية الآمنة للمرضعات، مبينة أن الحمل عالي الخطورة مثل سكري الحمل، انفصال المشيمة أو تسمم الحمل يزيد احتمالية الإصابة بالاكتئاب، وهنا يبرز دور طبيبة النساء في تقديم الدعم النفسي. مبينة أن الحمل غير المخطط له والظروف المادية والاجتماعية تُعد من العوامل المؤدية لاكتئاب ما بعد الولادة.

 

 

الدعم الأسري والاجتماعي... خط الدفاع الأول

من جانبها تؤكد المستشارة التربوية والأسرية فاطمة التائب أن اكتئاب ما بعد الولادة غالباً ما يُساء تفسيره داخل الأسرة، ويُختزل في مفاهيم شعبية خاطئة، في حين أن له أعراضاً نفسية وسلوكية واضحة، مثل البكاء المستمر، القلق، العزلة، فقدان الثقة بالنفس، واضطرابات النوم والغذاء.

وترى أن غياب الدعم الأسري، خاصة للأم التي تنجب طفلها الأول، يزيد من احتمالية الإصابة بالاكتئاب، لافتةً إلى أن اكتئاب ما بعد الولادة لا يؤثر في الأم فقط، بل يمتد أثره إلى الطفل والعائلة ككل، من خلال ضعف الرابط العاطفي، تراجع الاهتمام، وزيادة التوترات الأسرية، ما قد يهدد استقرار الأسرة على المدى البعيد.