شادن... صوت السلام الذي أسكته الصراع في السودان
للحكّامة مكانة كبيرة وسط القبيلة في غرب السودان وتُعامل معاملة خاصة ويسعى الجميع إلى كسب رضاها حتى لا تهجرهم، فموهبة الشعر التي تمتلكها هي سلاح ذو حدين.

ميساء القاضي
السودان ـ يطلق لقب (حكّامة) في غرب السودان على المرأة التي تكتب الشعر، وتجيده، فعند اندلاع الحروب تلعب الحكامة دوراً كبيراً، إذ تقوم بتشجيع الفرسان على الذهاب إلى الحرب وتمدح من يتقدم الصفوف منهم وتذم من يتأخر أو يتقهقر وتسارع في هجائه، وهو أمر لا يمكن أن يريده عاقل، وما حرب دارفور ببعيدة عن الأذهان إذ قامت الكثير من الحكامات بالوقوف مع طرف أو آخر وكتبن الشعر والأغنيات، ولكن بالمقابل كانت هناك حكامات تغنين للسلام وأخريات كان لهن الدور المقدر في نشر السلم الاجتماعي في مجتمعاتهن.
"الحكامة شادن" هكذا كانت تكتب المغنية السودانية شادن محمد حسين اسمها، وتعرف نفسها بـ "أنا شادن محمد حسين باحثة ومتحدثة في التراث عن (إيقاعات البقاره والآباله والغنامة والجباله مع الإيقاعات الأفريقية) وعلاقة الإنسان بالبيئة (الأرض والحيوان). شاعرة، ملحنة، ومغنية ومن أهم مشروعاتي نشر ثقافة السلام في مناطق الحروب، كردفان ودارفور.
كانت شادن عبر مشروعها الكبير ناشطة في العمل الطوعي والتوعية المجتمعية (التعايش السلمي، الديني، العرقي).
تُعرّف شادن نفسها أيضاً بأنها أمينة الحكامات والميارم (لقب يطلق على ذوات الشأن)، في مؤسسة عتاب الثقافية ومديرة شركة "حكامة" للإنتاج الفني والإعلامي، وتضيف في تعريفها "أعشق القرى والبوادي وأهتم جداً لنشر جميل العادات السودانية الأصيلة، وتحبيب الناس في الأصل والموروث".
بالزي الشعبي المميز وجدائل الشعر المعروفة محلياً بـ "المشاط" وإكسسواراتها الشعبية، ظهرت المغنية الشعبية شادن في أغنياتها، هذا المظهر لم يكن مألوفاً للمشاهد غير الشابة العشرينية آنذاك، لفتت أنظار الجمهور الذي عشقها وعشق ما تقدمه من أغنيات ذات لون مختلف، فأصبحت في فترة وجيزة في صفوف المغنيات المعروفات ولها جمهور كبير.
شكلت تجربة شادن الفنية شكل جديد ومختلف في مجال الغناء، وأصبحت إضافة حقيقية لتجارب من سبقوها، تمتلك قدراً من الوعي والمسؤولية تجاه بلدها، فحملت أغانيها رسائل السلام والمحبة وقيم المجتمع المتسامح المتكافل.
ولدت شادن محمد حسين إبراهيم في مدينة الأبيض عام ١٩٨٦، درست الاقتصاد بجامعة أم درمان الأهلية. البيئة الغنية بالتراث التي نشأت فيها شادن تركت بصماتها على شخصيتها ولونها الغنائي، فكانت أغانيها تحمل قيم الموروث الشعبي والإرث الثقافي لمجموعات ذات تركيبة سكانية كبيرة تعايشت وتمازجت وشكلت نسيج اجتماعي متماسك ومنسجم، بالإضافة إلى البعد الجمالي المستمد من إنسان المنطقة وجغرافيتها كاملة التنوع.
لكن هذا المشروع الكبير انطفأت شمعته مبكراً بسبب رياح الصراع دون أن يكتمل أو يجد حتى التقدير والاحترام الذي يليق به، ففي الثالث عشر من أيار/مايو 2023 وفي مدينة أم درمان، رحلت شادن صوت السلام الذي لن ينساه السودانيون بسبب الصراع الذي اندلع في العاصمة منتصف نيسان/أبريل من نفس العام، بقذيفة أصابتها في منزلها ليصمت إلى الأبد صوت لا يمكن تعويضه، فقد كانت شادن مشروع وعي ومقاومة ونموذج للعودة للهوية.
في تلك الأيام التي كان المشهد فيها قاتم في الخرطوم، إذ لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص والقذائف، كما أن الكهرباء كانت مقطوعة والجميع أصبحوا حبيسي منازلهم، كانت شادن وعبر خاصية البث المباشر عبر صفحتها على موقع التواصل الافتراضي "فيسبوك" تشارك جمهورها إحساسها نتيجة الصراع، وكيف أنها آثرت البقاء في المنزل رغم دوي القذائف وأصوات الرصاص، لتبعث الأمل في قلوب متابعيها وتدعو للسلام، لكن قذائف الصراع أصابتها في منزلها وأفقدتنا روحاً محبة، صوتاً جميلاً، ومشروعاً فنياً لن يتكرر.