وقود من الكتب والنفايات وطحين مشبوه... صراع نساء غزة مع الجوع والنار
شهادة مؤلمة عن واقع منسي تعيشه الكثير من النساء في غزة، حيث تتحول أبسط تفاصيل الحياة اليومية إلى معركة وجودية مليئة بالخطر واليأس.

رفيف اسليم
غزة ـ لطالما كان إشعال النار للطبخ والحصول على الدقيق النظيف الصالح للاستخدام هاجس يؤرق نساء قطاع غزة منذ بدء الحرب في عام 2023، فحرقن البلاستيك والملابس والقمامة والكتب الدراسية لتشعلن النار، وأعددن الطحين وداخله السوس وكافة أنواع الديدان ليسكتن جوع أطفالهن، لينتهي الحال بهن إلى إيجاد حبوب مخدرة داخله.
طعام ممزوج برائحة البلاستيك
خلود أبو شرار إحدى النساء اللواتي عانين من أزمة الحطب، فوصل الحال بها لحرق الملابس، الأحذية، الكتب الدراسية، ألعاب الأطفال البلاستيكية، والقمامة الناتجة عن الاستخدام اليومي، كل تلك الاحتمالات كانت متوافرة للحرق كي تحضر طبق من العدس أو كأس مياه ساخنة لإعداد كوب شاي بدون سكر.
"تعبت.. وأشعر أن صحتي باتت تسوء يوماً بعد يوم"، تقول خلود أبو شرار، بات إشعال النار كابوساً بالنسبة لها، كما تشعر أن السموم التي تحرقها تخترق الجهاز التنفسي لديها مسببة أمراض تنفسية وصداع شديد، واحمرار وتهيج بالعينين، بل وتشعر بطعم حرق البلاستيك أو القمامة قد تسرب إلى الطعام فلا تستطيع في بعض الأحيان إكمال طبقها.
وتنظر إلى طفلاتها بشفقة متسائلة "ماذا ستفعل تلك السموم التي تنطلق من نار الطهي متسربة للطعام الذي يدخل معدتكن لأجسادكن الصغيرة"، منذ آذار الماضي قصف بيتها من قبل القوات الإسرائيلية، فأصبحت تستخرج الخشب الذي لم تحرقه نيران الصواريخ وتستعمله للطهي، لكنها اليوم بعد نفاذ الأثاث لا تستطيع شراء كيلو الحطب الواحد بما يعادل 3 دولارات.
مضاعفات صحية خطيرة
وتسببت النار لخلود أبو شرار، بمضاعفات صحية خطيرة، فنقلت إثرها للمشفى بعد حالة من الإغماء ووصف لها دواء في الوريد لمدة أسبوع بعد تشخيص الطبيب لمرضها بالتهابات بالصدر، مضيفة أن الحروق تتربص بها، فمن المستحيل إشعال النار دون حروق تطال يدها وما يزيد ذلك العبء هو الصغار الذين يرون تلك الحالة لعبة يريدن المشاركة بها، بالتالي تصبح لا تعرف هل عليها حماية نفسها أم أطفالها.
ومما زاد الطين بلة على حد وصف خلود أبو شرار، هو غلاء الولاعة التي تشعل بها النار فقديماً كان سعرها سنتات معدودة لا تصل ربع دولار بينما اليوم يصل ثمنها 20 دولار، بالتالي من لا تمتلك تفتش بالمخيم عن عائلة كانت تطهي بالفعل وتضع قدرها بدلاً منها، أو تدفع لصاحب الفرن مبلغ دولارين، أو تبقى بدون طعام مطهو أو ماء ساخن تعد لرضيعها به بعض الأطعمة التي أوجدها الهجوم بسبب نقص الغذاء.
وتتمنى دخول غاز الطهي عما قريب إلى قطاع غزة وإنهاء معاناة نساء القطاع وطي حقبة عيشهن في العصر الحجري التي بدأت ما بعد السابع من أكتوبر، لافتة إلى أنها عندما وصل سعر الكيلو الواحد لغاز الطهي 70 دولار اشترته كي تتجنب المشكلات التي تسببها لها إشعال النار والذهاب للمشفى إثرها، بينما اليوم لا أثر له في قطاع غزة.
حبوب مخدرة في الطحين
وعن الطحين بينت ميساء حبوش، أن أزمة الطحين بدأت منذ 5 أشهر فلم تتمكن غالبية العائلات من تحصين نفسها وتخزينه لأن الجميع كان يعتقد أن الهدنة ستستمر عدة أشهر، مشيرة إلى أنها في بداية الأزمة اشترت العائلات الطحين الفاسد والملوث بالديدان، فكان من يأكله يشعر بالغثيان ووجع حاد في معدته مما تسبب في تكدس حالات النزلات المعوية في النقاط الطبية بلا دواء.
وما لبث الطحين الفاسد سوى عدة أيام ومن ثم انسحب من الأسواق وفرغت بالكامل، وتقول ميساء حبوش "من يتقن فن السرقة والبلطجة يذهب ويسرق من الشاحنات ومن لا حول له ولا قوة يبقى جائع في غابة غزة التي صنعتها القوات الإسرائيلية"، لافتةً إلى أنها وعائلتها لم تستطع شراء كيلو الطحين الذي وصل لأضعاف مضاعفة من ثمنه الفعلي، كون الكيلو الواحد منه لا ينتج سوى 6 أرغفة فبقوا جائعين يتدبروا أمرهم بالعدس فقط.
اليوم ومع الحديث عن هدنة وشيكة أشارت إلى أن سعر الكيلو الواحد انخفض لكن النساء اصطدمن بهاجس آخر وهو إيجاد حبوب مخدرة تسبب الوفاة بأكياس الدقيق، بالتالي وإن توافر المال لشراء ما يلزم تخشى الأم على أطفالها مما يطحن داخل المسحوق الأبيض، لذلك بتن تفضلن طهي العدس كونه لا احتمالات للموت فيه.
تضحك ميساء حبوش، وهي تشير "انظري تلك هي أكياس الطحين لكنها لم تعد مملوءة بالدقيق بل بالملابس والاحتياجات الشخصية، فبعدما عجن ما بداخله وتحول لأرغفة قمت أنا بغسله للاستفادة منه في ظل أزمة خانقة أخرى تعاني منها النساء خلال النزوح وهي توافر الحقائب"، مضيفةً أن صغيرها دوماً ما يبكي يريد الطحين الذي كان بالكيس ليسد جوعه.