سبعينية ترهن حياتها في خدمة نزلاء المصحة العقلية
رغم كبر سنها جعلت السبعينية مريم صالح من العمل التطوعي التزاماً روحياً ورسالة حياة، لتصبح وجهاً مألوفاً وملاذاً لمرضى مستشفى الأمراض النفسية ونزلاء السجن المركزي، الذين وجدت بينهم معنى آخر للوجود.
رحمة شنظور
اليمن ـ لم يكن عمل مريم صالح التطوعي مجرد مبادرة عابرة، بل تحول إلى رسالة حياة، تروي من خلالها كيف يمكن للإنسان أن يحول الألم إلى قوة تمنح الآخرين الأمل.
في أحد أحياء مدينة تعز جنوبي اليمن، تمضي السبعينية مريم أحمد عبده صالح التي يعرفها أبناء المدينة بلقب "أم الخير"، بخطوات ثابتة كل اثنين وخميس نحو مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، محمّلة بما تيسر من طعام وكسوة، مواصلةً عملاً إنسانياً بدأته قبل أكثر من أربعين عاماً دون انقطاع، رغم الصراع والأوضاع الاقتصادية التي أثقلت كاهل اليمنيين.
أربعون عاماً من الزيارات المنتظمة لم تنقطع فيها يوماً كما قالت "لا حرب... ولا فقر… ولا وجع" استطاع أن يبعدها عن أبواب المستشفى، وبرغم التزامها الطويل، لم تتلقى يوماً دعماً من جمعية خيرية أو مؤسسة إنسانية، بل اعتمدت دائماً على ما يتيسر من رزقها، ثم لاحقاً من دعم أبنائها.
الإصرار رغم الصعوبات
تعود حكاية مريم صالح إلى نحو 45 عاماً، حين كانت في الثلاثين من عمرها، لم تكن تفكر يوماً أنها ستصبح جزءاً من حياة المرضى النفسيين، إلى أن بدأت تزور المستشفى بدافع العمل التطوعي ثم تحوّل العمل التطوعي إلى عادة، والعادة إلى التزام روحي لا تستطيع التخلي عنه.
تستعيد بدايات رحلتها بالقول "في البداية كان لدي دكان صغير كنت أعمل فيه، لكن الإفلاس أجبرني على إغلاقه والبحث عن عمل آخر، انتقلت بعدها إلى بيع الخضار لأعيل نفسي، لتراودني لاحقاً فكرة العمل التطوعي، وجدت نفسي أتنقل بين مستشفى الأمراض النفسية ونزلاء السجن المركزي، أمد يد العون وأكتشف معنى آخر للحياة".
كانت ظروفها المعيشية قاسية، لكنها تعتبر أن الخسارة المالية لم تكن نهاية الطريق، حيث كانت تساعدهم وتقدم لهم ما تقوى عليه، لكن هذا النشاط الخيري لم يكن يروق لعائلتها "أولادي كانوا يقولوا لماذا لا تجلسين في دكان بيع البطاطا؟ وإلى أين تذهبين؟ كنت أقول لهم إنني ذاهبة لزيارة صديقتي المريضة خوفاً من أن يخبروا والدهم ويمنعني من زيارة نزلاء المستشفى".
تغيّرت حياتها حين توفي زوجها، وتقول "أجبرت أن أكون لهم الأم والأب وألا يحتاجوا لأحد"، عملت مريم صالح لسنوات في تربية أبنائها وتعليمهم، متحدّية ظروفاً اقتصادية صعبة حتى كبروا الأطفال ودرسوا واستطاعوا الاعتماد على أنفسهم، ثم بدأوا يساعدونها فيما تقدمه للنزلاء.
واجب أخلاقي قبل أن يكون عمل تطوعي
منذ عام 2011، انتقل أبناء مريم صالح إلى صنعاء للعمل، وباتت تعيش وحيدة، لكنها ترى في زياراتها الأسبوعية ما يعوّضها عن هذا الفراغ.
تدخل المستشفى وهي تحمل ما توفره من إمكانياتها البسيطة الخبز، التمر، الفاكهة أو قطعة ملابس، تتفقد النزلاء تعرف أسماءهم وحكاياتهم، وتقدم لهم ما تعتبره واجباً أخلاقياً قبل أن يكون عملاً تطوعياً.
أكثر ما يؤلم مريم صالح اليوم ليست الوحدة، بل عدم قدرتها على توفير ما كانت تقدمه سابقاً بسبب الغلاء، والوضع الاقتصادي، وتقدمها في العمر كلها عوامل جعلت زياراتها أصعب "قديماً كنت أجلب للنزلاء الكثير من الاحتياجات، واليوم لا استطيع".
ورغم ذلك، لم تفكر يوماً في التوقف عن هذا العمل، بالنسبة لها المرضى جزء من عائلتها، ووجودها معهم أصبح فرضاً لا تستطيع التخلف عنه.