نساء وأطفال غزة يتضوّرون جوعاً... المجاعة تفتك بأجسادهم والعالم يصمت

يتفشّى سوء التغذية في قطاع غزة بشكل مروّع وسط حصار خانق وانهيار شبه كامل للمنظومة الصحية ما يهدد حياة آلاف الأطفال والنساء يومياً.

نغم كراجة

غزة ـ  تعيش غزة واحدة من أسوأ الأزمات الغذائية في العالم حيث تفشّى سوء التغذية بين الأطفال والنساء بشكل كارثي نتيجة الحصار المشدد واستمرار الحرب، فقد تحوّل الجوع إلى سلاح يُستخدم ضد أكثر من مليوني إنسان بينما تنهار المنظومة الصحية وتعجز المستشفيات عن توفير الحد الأدنى من العلاج.

تشير تقارير أممية إلى أن المجاعة في غزة باتت واقعاً يومياً يهدد حياة الآلاف وخاصة الأطفال دون سن الخامسة.

 

"أيُعقل أن تُهان امرأة من أجل لقمة لأطفالها؟"

في أزقة الخيام التي امتدت غرب مدينة غزة كامتداد للفقر والموت، تقف راوية حلس الأم الثكلى والنازحة منذ أكثر من تسعة أشهر فوق حفنة تراب تملكها وحدها في هذا العالم، تشعل ناراً على موقد مهترئ فوق أرض مغبرة، تضع فوقه إناءً فارغاً لا ماء فيه ولا طعام كأنها تطبخ السراب لأطفالها الثمانية الذين أرهقهم الجوع وأبكاهم الظمأ.

الحرب التي لم تُبقِ حجراً على حجر، لم تُبقِ أيضاً لقمة على طاولة راوية حلس ولا في جرابها المدقع، منذ مقتل زوجها رامي في نيسان 2025 إثر محاولته الوصول إلى منزله المهدم في حي الشجاعية بحثاً عن بقايا طعام لأطفاله، دخلت نفقاً لا يشبه إلا الموت البطيء "لم يكن ذهابه إلى الشجاعية للمرة الأولى لكنني توسّلت إليه ألا يذهب صباح ذلك اليوم، كنت أشعر أن شيئاً مروّعاً سيحدث، السماء كانت تمطر صواريخ لكنّ بكاء أيوب طفلي ذو الثلاثة أعوام اخترق صدر أبيه كطعنة، لم يكن في خيمتنا حينها حفنة طحين ولا حتى حبة عدس، فقرر أن يغامر".

لم تبدأ مأساتها مع مقتل زوجها بل مع بدء الحرب في السابع من تشرين الأول 2023 حين اضطرت للنزوح من بيتها في حي الشجاعية إلى منزل شقيقتها في حي الصبرة ثم إلى مركز إيواء في شرق غزة، وأخيراً إلى خيمة على رصيف مخيم غرب المدينة، لا تملك شيئاً من أدوات الحياة، ولا حتى قدرة على إشعال نار تطهو بها طعاماً، تُرسل فتياتها للبحث عن قطع خشبية أو بقايا بلاستيك بين أكوام النفايات وركام البيوت علّهن تجدن شيئاً يمكن حرقه للطهي "أعجز حتى عن شراء الحطب أو البلاستيك، أضطر للمشي أميالاً حتى أصل إلى شاطئ غزة أبحث عن بقايا تصلح لإشعال نار، أحياناً أعود مكسورة الخاطر، أتساءل: أيُعقل أن تُهان امرأة بهذا العمر وتُذل بهذا الشكل من أجل لقمة لأطفالها؟".

لم يبقَ في حياة راوية حلس ما يثير الأمل، منزلها دُمّر، زوجها قُتل، ومدخراتهم تبخرت، كانوا يعيشون على راتب زوجها المحدود من السلطة الفلسطينية، وكانوا يستدينون على أمل أن تنتهي الحرب ويتمكنوا من سداد الديون "حتى ذلك الأمل انتهى.. الجوع ينهش أجساد أطفالي، وأنا عاجزة تماماً عن فعل شيء سوى أن أبكي خلسة حين ينامون".

 

 

"مأساة لا يمكن احتمالها"

وفي زاوية قاحلة من المستشفى، تسهر هبة طوطح، أخصائية التغذية في مستشفى أصدقاء المريض تتابع الحالات التي تنهار واحدة تلو الأخرى بسبب الجوع وسوء التغذية، وتقول "نستقبل في قسم المبيت الطارئ خمسة أطفال على الأقل كل يوم، يعانون من مضاعفات حادة بسبب سوء التغذية الذي تفشى نتيجة المجاعة وإغلاق المعابر، والمأساة أن سوء التغذية لا يقتصر على الأطفال فوق السنة بل يمتد حتى إلى الرضع دون سن الستة أشهر، وقد شاهدتُ بأمّ عيني أطفالاً في عمر شهر واحد يعانون من هزال شديد وجفاف قاتل؛ لأن الحليب الصناعي غير متوفر، والأمهات أنفسهن يعانين من سوء تغذية فلا يستطعن الإرضاع".

وأوضحت "انتشرت أمراض نقص المناعة، والإسهال، والتقيؤ، والالتهابات الجلدية وكلها نتيجة الجوع والبيئة غير الصحية، فقط في هذا الشهر سجلنا ٨٥ حالة سوء تغذية بين الأطفال توفي منهم ثلاثة بسبب تدهور حالتهم الصحية، والتحسن إن حدث فهو بطيء جداً، هذه مأساة لا يمكن احتمالها".

وتحذر هبة طوطح من أن نقص الحليب والمكملات الغذائية في المستشفى بلغ مرحلة حرجة "نضطر لتقنين التغذية المقدمة لكل طفل، وهذا يُخالف كل المعايير الطبية، لدينا أطفال وضعهم خطير، ونحن نخشى أن نُبلغ عن وفيات جديدة خلال الأيام القادمة".

 

"مجاعة من صنع الإنسان"

وبحسب تقارير الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، فإن المجاعة في قطاع غزة باتت تتخذ شكلاً ممنهجاً وخطيراً، فقد ارتفعت نسبة الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية حاد إلى أكثر من ١ من كل ٦ أطفال دون السنتين مع تسجيل آلاف الحالات الحرجة شهرياً ووفق تقرير أصدرته منظمة IPC في حزيران/يونيو 2025 فإن 71 ألف طفل دون سن الخامسة في غزة معرضون لخطر سوء التغذية الحاد بينهم أكثر من 14 ألف حالة شديدة بالإضافة إلى 17 ألف امرأة حامل أو مرضعة بحاجة لتغذية علاجية عاجلة.

كما تؤكد منظمة الصحة العالمية وفاة 21 طفلاً على الأقل بسبب سوء التغذية خلال الأشهر الماضية وسط عجز تام في النظام الصحي ومراكز العلاج.

المنظمات الدولية تصف ما يجري بأنه "مجاعة من صنع الإنسان" فكل المؤشرات تؤكد أن الحصار هو السبب المباشر في منع وصول المساعدات الإنسانية، وتظهر صور الأقمار الصناعية أن آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات مكدّسة على حدود غزة لكنها لا تدخل بسبب القيود الأمنية والسياسية المفروضة.

وتوجه هبة طوطح مناشدة للعالم "افتحوا المعابر فوراً، أنقذوا ما تبقى من أطفالنا، نحن نخسرهم واحداً تلو الآخر، والعالم يرى ويصمت، لا نطلب شيئاً أكثر من أن يُسمح للطعام والدواء بالوصول إلينا.. فقط افتحوا الطريق".

في ظل هذه الحرب التي لا ترحم ومع استمرار الحصار، كل دقيقة تمرّ هي حياة تُسلب، وطفولة تُغتال، وأم تُكسر، وإذا لم يتحرك العالم الآن فسيكتب التاريخ أن غزة ماتت جوعاً لا بالغارات الإسرائيلية بل بصمت العالم.