"ماما منيرة"... قصة امرأة تحدت المجتمع لتكون أماً لأطفال فاقدي السند

في تجربة إنسانية استطاعت أن توفر منيرة الكسراوي رغم المصاعب دفئ العائلة للأطفال فاقدي السند وترشدهم إلى الطريق، إلى أن يبلغوا مرحلة الاستقلال بالذات.

إخلاص حمروني

تونس ـ اختارت منيرة كسراوي الملقبة بـ "ماما منيرة"، أن تكون أم لعدد من الأطفال فاقدي السند يعيشون في مؤسسة تسمى بـ "قرية الأطفال" خصصت لرعاية هؤلاء الأطفال وحمايتهم من التشرد.

عند زيارة قرية الأطفال "س و س قمرت" وبمجرد القيام بجولة سريعة في رحاب القرية وفضائها المفتوح الممتد على مدى 4 هكتارات، يدرك الزائر كيفية عيش أطفال وشباب/ات هذه القرية داخل مبيتات مغلقة كتلك المخصصة لطلاب الجامعات.

تزينت تلك البيوت باللونين الأبيض والأزرق وأزقة مشابهة لمدينة سيدي بوسعيد التي تعتبر من أجمل الأماكن السياحية في تونس، وهي عبارة عن مجمع سكني يجمع بيوتاً متجاورة تسكنها عائلات تونسية مكوّنة من الأم "الأم الحاضنة" وأولادها الذين تتراوح أعمارهم بين 4 أشهر و14 عام.

عن تجربتها في القرية وتربيتها لعدد من الأطفال منذ عام 1986 وإلى الآن رغم إحالتها إلى التقاعد، تقول منيرة كسراوي "عملت هنا طيلة 35 عاماً وأنا الآن متقاعدة، وأسكن في بيت مستقل رفقة أولادي الأربعة الذين كانوا يعيشون معي في القرية، لقد تحملت مسؤوليتهم وهم صغار، والآن لا أستطيع تركهم إنهم فلذة كبدي وسيبقون معي حتى يكبروا".

وحول اختيارها لتكون أماً لأطفال فاقدي السند بينت "دخلت معترك هذا العمل في "س و س قمرت"  عام 1986، وكنت أماً لعدد كبير من الأطفال وسهرت على تربية جيل تلو الآخر، أولادي الذين ترعرعوا في إحدى منازل هذه القرية نجحوا في مسارهم الدراسي وشقوا لوحدهم طريق النجاح، ومنهم الآن يعمل صحفي، ممرض، مضيفة طيران وأساتذة، والذين لم ينجحوا في دراستهم التحقوا بإحدى المهن"، مشيرةً إلى أنها الآن تربي أطفالاً تتراوح أعمارهم بين الثامنة والـ 14 عاماً.

وأوضحت أنها تحدت الجميع من أجل أن تكون أماً لهؤلاء الأطفال "عندما أردت الالتحاق بهذه المؤسسة للعمل معهم، رفضت عائلتي ذلك بحجة أنني صغيرة في العمر، ومن الضروري أن اهتم بمستقبلي والتحق بوظيفة أخرى، وأتزوج وأنجب أطفال من رحمي وأسهر على تربيتهم عوض تربية صغار لا أعرفهم، ورفضوا أن أضحي بشبابي من أجل هذا العمل، حيث كان يتوجب عليّ الإقامة في قرى الأطفال، ولكني أصريت على موقفي ودافعت عن اختياري، وتحديت العائلة، وقمت بتقديم طلب للالتحاق بالعمل".

وأضافت "عندما أتيت لإجراء المقابلة، رفضت الإدارة طلبي كون عمري لا يتجاوز العمر المطلوب ولا أستطيع تحمل مسؤولية الأطفال، ورأوا أنه من الأفضل أن اهتم بمستقبلي خارج سور هذه القرية، ولكني اقترحت على أعضاء الإدارة أن أقوم بتجربة مدة ثلاثة أشهر ويقوموا بمراقبتي من ثم تقييم أدائي، وقد نجحت في هذه التجربة وتم قبولي في العمل، والتحقت بالعمل رسمياً وأصبحت أماً لـ 5 أطفال، لنا منزل صغير يملأه الحب، ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 2021 وأنا أعمل في قرية الأطفال".

وحول سبب اختيارها لهذا العمل أوضحت "شاهدت في إحدى المرات على التلفاز أطفالاً فاقدي السند، ومنذ أن رأيتهم شعرت أن مكاني الطبيعي بالقرب منهم، خاصةً أنني عشت وسط عائلة كبيرة تملؤها أجواء الحب والحنان، لذلك أردت أن اتقاسم هذا الحب مع صغار حرموا من هذا الاحساس وبحاحة إلى الحنان العائلي".

وعن خصائص العيش في القرية تقول "تعيش كل أم رفقة أبنائها الأربعة أو الستة في مملكتها الصغيرة التي ترعاها بكل ما لديها من طاقة إيجابية وحب وتفاؤل، فهي تحاول أن توفر لهم بما تضعه إدارة القرية على ذمتها من إمكانيات، كل مستلزماتهم منذ صغرهم إلى غاية بلوغهم سن الرابعة عشر عاماً، سنّ الانتقال إلى مرحلة ثانية من عالم SOS"" وهو المبيت الذي يشرع الشبان/ات فيه بتحمل المسؤولية والاعتماد على الذات تمهيداً لمرحلة أكثر صرامة وهي الاندماج الاجتماعي في الدورة الاجتماعية والاقتصادية".

وبينت "كل البيوت مرتبة ومزينة وفق ذوق الأم التي تسعى إلى تكوين شخصية طفل متوازن وناجح، فهي تجتهد في توفير كافة المستلزمات التي يمكن أن توفرها أي عائلة لأبنائها، غرفة استقبال الضيوف يجاورها مطبخ متكامل، وهنالك غرف النوم الخاصة بالصغار التي تحتوي على لعبهم ولوازم الدراسة".

وككل الأمهات تسعى "ماما منيرة" لتوفير كل ما ينبغي توفيره لنجاح أبنائها، فبالنسبة لها هم الأفضل والأحسن على جميع المستويات "أعطيت أبنائي كل وقتي، وسعادتي الحقيقية تتحقق عند رؤيتهم سُعداء، وحتى الكثير ممن يتوجهون إلى المبيتات يعودون إلى هذا البيت ليزوروا إخوتهم، وهذا يسعدني".

وعن حياة الصغار في هذه القرية تشير إلى أنهم يواجهون بعض الصعاب في الاندماج داخل المجتمع التونسي، فمجرد التعرف على انتساب الطفل لقرية "SOS"، قد يعرضه إلى رفض التعامل معه من قبل بقية التونسيين أو بشيء من الاحتراز أو على أساس التمييز السّلبي الذي يصل أحياناً حدّ الوصم، لأن الكثير من التونسيين يعتقدون أن القرية مخصصة لاستقبال الأطفال المولودين خارج إطار الزواج، لكن القرية توفر خدمات الرعاية لأطفال آخرين ينتمون إلى عائلات ولكن ظروفاً قاسية جعلت منهم أطفالاً مهددين واستوجبت الظروف إيوائهم بالقرية من أجل حمايتهم