حي الجمارك ذاكرة كوباني الحية وإرثها المتنوع

تحولت كوباني بإقليم شمال وشرق سوريا من قرية صغيرة إلى مدينة متعددة الأعراق، شكّلت رمزاً للصمود والتعايش المشترك، ويجسّد حي جمارك إرثاً تاريخياً ومعمارياً يعكس هذا التنوع، ولا يزال حتى اليوم شاهداً على تجربة إنسانية فريدة رغم الهجرات والاضطرابات.

برجم جودي

كوباني ـ تقع مدينة كوباني على الحدود الفاصلة بين شمال كردستان وإقليم شمال وشرق سوريا، وقد تحولت عبر السنوات إلى رمز بارز للصمود والدفاع عن الوجود بالنسبة للعديد من المكوّنات والأعراق، حيث جسّدت إرادة الحفاظ على الهوية ومقاومة التحديات.

في بداياتها، لم تكن مدينة كوباني سوى تجمع بسيط يقتصر على منطقتي كانيه كردان ومشدي، ثم أخذت الحياة الاجتماعية في التوسع تدريجياً، فإلى جانب طابعها القروي بدأت ملامح التحول إلى مدينة بالظهور.

قبل عام 1915 كانت كوباني تُعرف كقرية صغيرة، لكن مع اندلاع المجازر التي ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن، لجأت مئات العائلات الأرمنية إلى المنطقة واستقرت فيها، ولم يقتصر الأمر على الأرمن، إذ انضم إليهم العديد من العائلات التركمانية والكردية التي هربت من بطش السلطنة العثمانية، لتتشكل بذلك نواة مجتمع متنوع ومتعدد الأعراق في كوباني.

اختارت العديد من العائلات المدينة لتكون موطناً لها، فاستقرت في حي الجمارك الواقع على الحدود، حيث شاركت إلى جانب الكرد المحليين في بناء الحي وإرساء حياة مشتركة. ويعود تاريخ تأسيس هذا الحي إلى ما بعد عام 1915، وهو ما مثّل بداية تحول كوباني من قرية إلى مدينة.

وما يزال حي الجمارك حتى اليوم يحافظ على بيوته القديمة وأزقته الضيقة، ليبقى شاهداً على لوحة إنسانية زاهية جمعت بين قوميات ومعتقدات متعددة. ويضم الحي معالم بارزة مثل الجسر المائي، المسجد الكبير، والسينما، التي تضفي عليه طابعاً ثقافياً وحضارياً مميزاً.

يتميّز الحي بأزقته الضيقة وبيوته المشيّدة من الحجارة السوداء والطين، حيث يعكس طرازاً معمارياً فريداً يختلف عن غيره، ورغم اتساع الحي وبناء منازل حديثة فيه، ما زال الزائر يشعر عند التجوّل بين أزقته وكأنه يعيش أجواء الحقبة التي تأسس فيها.

حرصت بلدية كوباني على حماية هذا الإرث عبر جهود متواصلة للحفاظ على الحي ومعالمه. وتشير روايات السكان إلى أن نحو 70% من أهالي الحي كانوا من الأرمن، كما سكنت فيه أيضاً عائلات يهودية وتركمانية وعربية، مما جعله لوحةً إنسانية متعددة الأعراق والمعتقدات.

ولعل أبرز ما يميز الحي هو معالمه التاريخية والدينية، إذ احتضن ثلاثة دور عبادة، إضافة إلى مقبرة للأرمن وأخرى لليهود، ومدرسة أرمنية ومسجداً كبيراً، ليبقى شاهداً على تنوعه الثقافي والديني عبر الزمن.

نعيمة عقيل، البالغة من العمر 60 عاماً، والتي عاشت أكثر من أربعة عقود في حي الجمارك، تُعد شاهدة حيّة على تاريخه وتفاصيله، قالت "حيّنا من أقدم أحياء كوباني، ومنه بدأ العمران في المدينة، اسمه ارتبط بالجمارك التي أنشأتها الحكومة السورية آنذاك، حيث كانت خطوط السكك الحديدية تمر عبر الحدود، فتم إنشاء مركز للجمارك، ومن هنا جاء اسم الحي، لكنني أعتقد أن اسمه كان مختلفاً قبل ذلك".

وأضافت "لم أكن كبيرة بما يكفي لألتقي بالعائلات الأرمنية والتركمانية الأولى، لكنني مع ذلك التقيت بالعديد من العائلات وتعرفت عليها، ولا يزال بعضها يعيش في كوباني حتى اليوم، مما يجعل الحي شاهداً على تنوعه الاجتماعي والثقافي عبر الزمن".

وتروي نعيـمة عقيل، التي عاشت عقوداً طويلة في حي الجمارك، أن هذا المكان كان نموذجاً للحياة الجماعية المشتركة التي جمعت مختلف المكوّنات دون تفرقة، حيث بدأت ملامح المجتمع والمدينة بالتشكل معاً "بعد تقسيم كردستان، تفرقت الكثير من العائلات؛ بعضها بقي داخل الحدود وأخرى خارجها، أما التركمان فقد لجأوا إلى هذه المنطقة هرباً من بطش العثمانيين، في حين جاء الأرمن إليها طلباً للحماية من المجازر، الكرد كانوا يعملون في الزراعة، بينما امتهن الأرمن الحِرَف والصناعات، وبفضل هذه الحياة التشاركية، تعلّم الجميع من بعضهم البعض، ففتحوا الأسواق معاً ووسعوا الحي".

وأوضحت أن هذا التداخل الاجتماعي والثقافي انعكس حتى على تفاصيل الحياة اليومية، من العادات الاجتماعية إلى أسلوب المعيشة والطعام، مما خلق روابط قوية بين السكان وجعل الحي شاهداً على تجربة إنسانية فريدة من التعايش والتنوع.

غادر معظم الأرمن هذه المنطقة بعد الهجمات التي شنّها داعش، ليستقروا في مدن سورية أخرى أو في دول مختلفة، ومع ذلك، ما تزال الكثير من منازلهم وأراضيهم قائمة في كوباني، حيث تقوم بعض العائلات بزيارتها بين الحين والآخر للحفاظ على صلتها بها.

ورغم هذه الهجرة، لا يزال حي الجمارك يحتضن حتى اليوم عدداً من العائلات الأرمنية والتركمانية، ليبقى شاهداً على التنوع الاجتماعي والثقافي الذي ميّز تاريخ كوباني.