بين الولادة والفقد... مأساة عائلة في غزة
تُواجه أمل عمار قدرها بين لحظة ميلاد طفلتها وساعة مقتل زوجها، فتتحول فرحة الحياة إلى وجع لا يهدأ وذاكرة لا تُشفى.

نغم كراجة
غزة ـ تروي أمل عمار مأساةً لا تتقاطع مع الخيال إلا لتتجاوزه، كانت تحبس أنفاسها بين جدران غرفة عمليات متواضعة في "مجمع الصحابة الطبي" شمال غزة، تقاوم الألم والانهيار، تنتظر الخلاص من ولادة عسيرة وسط انعدام كامل للرعاية الطبية حين وضعت طفلتها الثالثة في الساعة التاسعة صباحاً، لم تكن تدري أن هذه اللحظة ستطوى بعدها بخمس ساعات فقط لتصبح عنواناً للفقد والحرمان، ولتتحول طفلتها من مولودة جديدة إلى يتيمة حديثة الولادة.
قالت الإعلامية والزوجة المكلومة أمل عمار، وهي تمسح دمعة لم تجف منذ شهور "احتضنها والدها للحظة قصيرة لكنها حملت في طياتها الدفء كله، بكت بكاءً عميقاً، وكأنها تشعر أن هذا الحضن هو الأول والأخير، ذهب ليجلب الحلوى احتفالاً بميلادها، وعاد إليّ محمولاً على الأكتاف، غارقاً في دمائه".
لم تمضِ خمس ساعات على لحظة الميلاد حتى جاءها الخبر صاعقة كسرت ما تبقى من تماسكها، لم يخبرها أحد في البداية، خشية على صحتها بعد العملية، لكن شيئاً ما في صدرها انكسر فجأة "شعرتُ بالاختناق، أردتُ أن أصرخ، وأُمسك بهاتف وأتواصل معه، لكن الحقيقة كانت أسرع من أي اتصال".
"الجوع أهون من التهجير، والظلام أرحم من اقتلاع الجذور"
خرج زوجها، الصحفي يحيى صبيح، متعباً من السهر خلال تغطيته لأحداث الحرب في قطاع غزة، لكنه لم يكن ليفوت لحظة فرح نادرة وسط جحيم لم يتوقف منذ اندلاع الحرب في 2023، وما هي إلا دقائق حتى تحوّلت اللحظة إلى ذكرى، استهدفته غارة اسرائيلية بينما كان في طريقه إلى المستشفى الذي ولدت به طفلته وأسفر هذا الاستهداف عن مقتل ٤٥ شخص بينهم نساء وأطفال.
لم تكن هذه أولى لحظات الألم في حياة أمل صبيح، فمنذ اندلاع الحرب، اختارت أن تبقى في شمال غزة رافضة النزوح نحو الجنوب رغم الجوع والحصار والقصف، وقالت "لم يكن قرار البقاء بطوليّاً بل كان قسراً من ذاكرة المكان… هذا بيتي، ومكاني لم أستطع أن أترك هذه الأرض، حتى وإن سقطت من تحت أقدامي، لا يمكنني النزوح من أجل الطعام والشراب نحو الجنوب، كنت على يقين أن المحنة ستزول".
تروي أمل عمار معاناتها مع الجوع وانعدام الغذاء، وعن اللحظات التي اضطرت فيها لتطعم أطفالها خبزاً مصنوعاً من أعلاف الحيوانات "كنا نطحن علف الدواب لنصنع خبزاً لأطفالنا، وأقطع حصتي من الرغيف لأمنحها لأطفالي، ولم أندم، فالجوع أهون من التهجير، والظلام أرحم من اقتلاع الجذور".
تعجز الكلمات من وصف المعاناة
ومع اتساع دوائر الألم، لم يتوقف النزيف عند فقدان الزوج، ففي كانون الأول/ديسمبر 2023، قتل شقيقها وشقيقتها وأطفالهما في قصف عنيف على شقة سكنية قرب مجمع الشفاء على بعد أمتار فقط من منزلها، لكن ضعف الاتصالات منعها من معرفة الخبر إلا بعد عشر ساعات "أحسست أنني متُّ ثانيةً لم أودعهم لم ألمس جباههم الباردة".
والأدهى أن أمل عمار عادت بعد أحد عمليات الإخلاء لتجد مالك الشقة قد ضاعف أُجرة السكن، مستغلاً حاجة النازحين للملاذ "هل هناك أقسى من أن يدفعك الفقد لتتوسل للبقاء في بيت الموت؟، نُجلى من بيوتنا ثم نُعاد إليها وكأننا دخلاء، لا نملك ما ندفعه، ولا نجد ما نأكله، ومع ذلك يُطلب منا دفع أضعاف الأجرة، كأننا نُعاقب على بقائنا أحياء".
في آب/أغسطس 2024، اكتشفت أنها حامل مرة أخرى في خضم الفقر، والعتمة، وانعدام الرعاية الصحية لكن الفرحة كانت ناقصة، محاطة بالخوف وغياب أي متابعة صحية، تقول "فرحت، نعم لكنني كنت خائفة، لا طبيب، لا دواء، حملتُ حياةً بداخلي بينما كانت الحياة حولي تُنتزع منا بكل قسوة".
وحين وصلت شهرها التاسع، أصبحت حالتها الصحية تستدعي عملية قيصرية في ظروف طبية تفتقر إلى الحد الأدنى من الإمكانيات "حتى المسكنات لم تكن متوفرة، خضعتُ للعملية وأنا أرتجف من الألم والخوف لكنني مضطرة فلا خيار أخر لدي، وأردت لطفلتي أن ترى النور رغم كل هذا الظلام".
لكن النور انطفأ بسرعة، تروي بصوت مرتجف "في اليوم الذي أبصرت فيه طفلتي النور، فقدتُ زوجي، كيف أخبرها حين تكبر أن أول يوم في حياتها كان آخر يوم في حياة أبيها؟ كيف أشرح لها أن حضنه لم يكن وعداً بالحياة، بل وداعاً لا يتكرر؟".
الصحفية التي لطالما نقلت قصص الشهداء، وجمّلت وجوه الموتى بالكلمات، أصبحت اليوم وجهاً من وجوه الحكاية، وصوتاً من أصوات الأسى الصامت، تقول "كنت أشاهد زوجات الصحفيين على الشاشات، أذرف دمعة وأغيّر القناة، لم أتخيل أنني سأصبح إحداهن، أحمل لقبه وأدفن صورته".
وتختتم أمل عمار حديثها قائلةً "لم نرتكب ذنباً سوى أننا أردنا أن نعيش، ونبني مستقبلاً ونحلم بغدٍ مختلف، لكنهم لا يريدون لنا حتى هذا الحلم، ما هذا الإجرام؟ ما الذنب الذي اقترفناه؟".