لبنان... المرأة وأزمة الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
من الجنوب إلى البقاع، ومن المخيمات إلى الفضاء الرقمي، تتعدد ساحات القمع، لكن صوت النساء اللبنانيات لا يخفت. فكل حكاية نجاة تُروى، تقابلها قصة أخرى تُدفن في الظل، في بلد تتهاوى فيه العدالة، وتُختبر فيه قدرة النساء على الصمود.
فاديا جمعة
لبنان ـ في خضم الدمار الذي خلّفته الحروب وموجات النزوح والهجرة، لم تكن النساء مجرد ضحايا لأدوار ثانوية؛ بل كنّ في قلب المأساة، واجهن عنفاً متجدداً يتسلل إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية. لم يعد هذا العنف صارخاً كما في الماضي؛ بل أصبح أكثر خفاءً، أكثر مكراً. تسلل إلى البيوت المعتمة، إلى مكاتب المساعدات، إلى نظرات المجتمع، وإلى جميع مؤسسات الدولة التي تعمق العداء تجاه النساء.
في هذا الجزء من ملفنا، لا نكتفي بتوثيق تجليات العنف؛ بل نسعى لتحليل جذوره الممتدة إلى السياسة والاقتصاد والقانون. إنها محاولة لفهم كيف تحوّل العنف ضد النساء من أحداث فردية إلى منظومة منهجية وبُنية هيكلية. هذه المنظومة تتغذّى من ثقافة الهيمنة الذكورية - الدولتية، وتُشرعنها السياسات الفاسدة، وتتغاضى عنها المؤسسات.
لم يكن هذا العام استثناءً بالنسبة للنساء في لبنان؛ بل على العكس، فكلما تعمقت أزمات الدولة، تفاقمت الأزمة الاجتماعية، وكان العام مرسوماً بالحروب والمجازر. هذا المشهد جعل البلاد أكثر هشاشة من أي وقت مضى بالنسبة للنساء. فإلى جانب الحرب، أدّى الانهيار الاقتصادي والشلل في النظام الإداري إلى شلل شبه تام في الخدمات العامة. وترافق ذلك مع انفلات في رموز النوع الاجتماعي التي تشرعن كل أشكال العنف. النساء اليوم في قلب حرب غير مرئية؛ حرب لا تُخاض بالسلاح فقط، بل أيضاً بالفقر، والعزلة، والصمت، والخيانة القانونية.
لم يعد العنف مجرد ظاهرة فردية أو حالة استثنائية؛ بل أصبح لغة تحكم الحياة في ظل غياب العدالة. هذا الواقع هو نتيجة مباشرة لانهيار النظام السياسي، وفشل السياسات في بناء الثقة لدى المجتمع والنساء، وتواطؤ القوانين مع ثقافة الهيمنة. إن تفشي العنف ضد النساء بلا حدود لم يعد مجرد ظاهرة؛ بل يجب اعتباره مرآة لبلد انهارت فيه القيم والعدالة.
لكل قصة تحرر تُروى، تقابلها قصة أخرى مدفونة في الظلال؛ في بلد انهارت فيه العدالة، وتُختبر فيه قدرة النساء على الصمود. معظم حالات العنف التي تشهدها لبنان لا تُوثّق، وغالباً لا تُعترف بها قانونياً. يتسلل العنف بصمت، كوجه غير مرئي للبنان؛ يمكن مواجهته في الأسرة، وفي بيئة العمل، وفي كل تفاصيل الحياة اليومية. ومع ذلك، يُتجاهل هذا الواقع في كثير من الأحيان من قبل الدولة. ولا يبقى سوى آثار لا تُمحى. هذا المشهد يكشف عن حرب غير معلنة ضد النساء، تمتد عبر الأسرة، وساحات العمل، وعلى مستوى القوانين، لتشمل البلاد بأكملها.
العنف يتضاعف في ظل صمت رسمي
مع تصاعد وتيرة الحرب وموجات النزوح في الربع الأول من العام الجاري، ارتفعت مخاطر العنف المنزلي والمؤسسي، لا سيما في المخيمات الواقعة في الجنوب والبقاع والشمال. أدى غياب الخدمات الأساسية إلى إعادة إنتاج الحماية عبر شبكات تقليدية غير عادلة في معظم الأحيان.
أكدت رئيسة لجنة المرأة والطفل النيابية عناية عز الدين أن تصاعد وتيرة الهجمات، وتوسيع إسرائيل لنطاق عملياتها، وازدياد عدد المهجّرين قسراً، قد خلّف آثاراً خطيرة على قطاعات التعليم والصحة والغذاء والاقتصاد.
في الجرائم المرتكبة ضد النساء والأطفال، تظل آليات الدولة في محاكمة الجناة وفرض العقوبات ضعيفة. هذا الضعف يؤدي إلى تجاهل حقوق النساء والأطفال، وغضّ الطرف عن الجرائم المرتكبة بحقهم. وعلى الرغم من أن الجرائم ضد النساء غالباً ما تُوثّق وتبدو شفافة، إلا أن التحقيق مع الجناة ومسارات المساءلة تبقى في الغالب غامضة أو تُحجب عن الأنظار. هذا الواقع يُفضي بشكل أو بآخر إلى تبرئة الجناة الذكور بيد الدولة نفسها. وكما وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن الإفلات من العقاب يُكرّس عبر القانون، ويؤدي إلى تصاعد العنف ضد النساء في ظل صمت رسمي وتواطؤ مؤسسي.
العنف الرقمي ساحة جديدة للقمع
شهد عام 2025 انتشاراً واسعاً لتيارات العنف المنظّم ضد النساء في مجال الإعلام الرقمي، ويعود ذلك إلى أن العديد من المنصات الرقمية باتت تتشكّل وفق رؤى تُطبع وتُعيد إنتاج جميع أشكال العنف ضد النساء، وقد تجلّى هذا الواقع بشكل واضح في لبنان، حيث أصبحت النساء ولا سيما الصحفيات والسياسيات، أهدافاً لهجمات إلكترونية مرتبطة بحملات تشويه السمعة، ومحاولات ابتزاز، وخطابات انتقامية أو ذات طابع سياسي. وقد كشفت تقارير "مهارات" و"SMEX" أن 8 من كل 10 نساء تعرّضن لنوع من أنواع العنف الرقمي، ما يوضح أن الفضاء الرقمي تحوّل إلى أداة فعّالة تُستخدم لإسكات النساء وإقصائهن من المجال العام.
ففي بيروت تعرضت ناشطة وإعلامية لهجوم رقمي شرس شمل تسريب صور خاصة وحملة تشويه منظمة، بسبب مواقفها النسوية، وقد أدّى هذا الحادث إلى إطلاق أول تحقيق رسمي من قبل النيابة العامة في قضية عنف رقمي قائم على النوع الاجتماعي. وبهذا، فُتح الباب للاعتراف بالعنف الرقمي كأداة منهجية تُستخدم لإسكات النساء في المجال العام.
وكشف تقرير المركز اللبناني للدراسات (LCPS) بوضوح أن الدولة تمارس عنفاً مؤسسياً مباشراً ضد النساء. ووفقاً للتقرير، فإن هذا العنف يتجسّد من خلال الثغرات القانونية والتمييز الكامن في السياسات العامة. لا تزال قوانين الأحوال الشخصية رهينة الدين والسياسة، ما يجعلها تتعارض مع مبادئ المساواة والإصلاح.
الإعلام اللبناني ليس بمنأى عن المسؤولية في هذا السياق. فبحسب مركز "مهارات"، غالباً ما تُصوَّر الصحفيات الضحايا وكأنهن المسؤولات عن العنف الذي يُمارس ضدهن، مما يكرس ثقافة لوم الضحية ويُضعف من فرص المساءلة والعدالة.
كما أن الهجمات الإسرائيلية المستمرة على لبنان دفعت البلاد إلى حافة انهيار اقتصادي خطير. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، تصاعدت أيضاً وتيرة العنف. تحاول الدولة التستّر على مأزقها من خلال وضع النساء في قلب هذه الأزمة، وتكريس التمييز الجندري في جميع المجالات، بحيث تُصوَّر النساء كأنهن المسؤولات عن الأزمة وفي الوقت نفسه من يدفعن ثمنها.
تواجه النساء سلسلة من الممارسات التمييزية، مثل الحرمان من الدخل، وتقييد الوصول إلى الموارد، والزواج القسري أو المبكر، والإقصاء من التعليم. ولا تعكس هذه السياسات هشاشة الوضع الراهن فحسب، بل تعزز أيضاً تبعية النساء لشبكات السلطة الذكورية، وتمنعهن من تحقيق الاستقلال الاقتصادي أو الاجتماعي.
أمام هذا المشهد، لا يمكن اعتبار العنف ضد النساء في لبنان مجرد ظاهرة اجتماعية؛ بل هو نتاج لبنية سياسية واقتصادية وقانونية متصدعة، تتواطأ في إنتاج القمع وتغذي استمراريته. تشير بيانات نظام إدارة معلومات العنف القائم على النوع الاجتماعي للفترة بين كانون الثاني/يناير وحزيران/يونيو 2025 إلى أن 12% من الحالات المُبلّغ عنها تخص فتيات قاصرات، وأن 34% من هذه الحالات مرتبطة بزواج قسري.
ورغم أن هذه النسب لا تعكس الحجم الكامل للعنف والضغط، إلا أنها تُظهر بوضوح هشاشة الفتيات أمام الانتهاكات التي تهدد أمنهن ومستقبلهن، وتكشف عن مدى تغلغل العنف في البنية المجتمعية والسياسية التي تُقصي النساء وتُضعف حمايتهن.
في تعلبايا، قُتلت امرأة على يد زوجها طعناً أمام أعين أطفالها، رغم أنها كانت قد تقدّمت بشكوى مسبقاً دون أن تُفتح دعوى قضائية بحق الجاني. أعاد هذا الحادث تسليط الضوء على الثغرات الموجودة في قانون حماية النساء من العنف الأسري.
وفي الأشرفية، عُثر على شابة في العشرينات من عمرها مقتولة داخل منزلها، بعد أن تعرّضت للضرب والخنق. فرّ المشتبه به خارج البلاد، وصُنّف الحادث على أنه "جريمة قتل نسوي". هذه الوقائع المؤلمة تكشف عن هشاشة منظومة الحماية القانونية، واستمرار الإفلات من العقاب في قضايا العنف ضد النساء.
وفي مدينة صور، لقيت لاجئة سورية مصرعها داخل خيمتها نتيجة تعرّضها المستمر للعنف من قبل أحد أقاربها، هذا الحادث يسلّط الضوء على العنف الذي تتعرض له النساء في المخيمات، وعلى الثغرات القانونية والسياسات الرسمية التي تفتقر إلى الحماية الفعّالة في هذه البيئات الهشّة.
أما في طرابلس، فقد قُتلت امرأة في الثلاثينات من عمرها حرقاً داخل منزلها. حاول الجاني الادعاء بأن الحادث كان انتحاراً، إلا أن تقرير الطب الشرعي كشف عن آثار تعذيب واضحة، ما يؤكد أن الجريمة كانت متعمّدة. هاتان الحادثتان تعكسان بوضوح مدى هشاشة حماية النساء في لبنان، خصوصاً في ظل غياب المساءلة وتفشي الإفلات من العقاب.
وفي مدينة النبطية، تعرّضت امرأة لإطلاق نار من قبل الرجل الذي تعيش معه، بذريعة "الغيرة"، ما أدى إلى إصابتها بجروح. أعاد هذا الحادث المطالبة بتسريع إصدار أوامر التوقيف إلى الواجهة، في ظل تكرار حالات العنف وعدم اتخاذ إجراءات قانونية رادعة في الوقت المناسب. هذه الواقعة تسلّط الضوء مجدداً على الحاجة الملحّة لتعزيز آليات الحماية القانونية للنساء وتفعيل المساءلة الفورية للجناة.
في مدينة صوفر، قُتلت امرأة حامل وزوجها على يد أفراد من عائلتها، بذريعة أنهما تزوجا دون موافقة الأسرة. أما في البقاع الغربي، فقد أنهت فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً حياتها بعد أن أُجبرت على الزواج القسري؛ وقد صُنّف الحادث على أنه "جريمة شرف مُقنّعة".
هاتان الحادثتان تعكسان بوضوح مدى تغلغل العنف القائم على النوع الاجتماعي في البنى العائلية والاجتماعية، وتُظهران كيف تُستخدم مفاهيم مثل "الشرف" لتبرير انتهاكات جسيمة بحق النساء والفتيات، في ظل غياب الحماية القانونية والمساءلة الفعلية.
وبحسب تقديرات منظمتي "كفى" و"مهارات"، تم توثيق أكثر من 20 جريمة قتل بحق نساء في لبنان حتى تشرين الأول/أكتوبر 2025. وكان معظم الجناة من الأزواج أو الآباء أو الإخوة أو أفراد من العائلة الموسّعة. وتشير البيانات إلى أن 60% من الضحايا كنّ قد أبلغن الجهات المختصة بتعرّضهن للتهديد أو العنف قبل وقوع الجريمة، إلا أن الدولة لم تتخذ أي إجراءات وقائية فعّالة.
وتتفاقم هذه الأزمة بشكل خاص في المناطق الريفية ومخيمات اللاجئين، حيث لا تُتخذ أي تدابير رادعة بحق الجناة، ما يعكس غياب الإرادة السياسية لحماية النساء، ويكرّس ثقافة الإفلات من العقاب التي تسمح باستمرار العنف وتكرار الجرائم.
معاناة الحرب والنزوح
لم تقتصر الحرب على تدمير المناطق السكنية، بل مزقت أيضاً الأمن النفسي والاجتماعي للنساء. في خضم هذا الواقع، دُفعت النساء إلى بيئة أكثر قابلية للاستغلال، حيث تتداخل الهيمنة الذكورية مع السلاح والسياسات المتعفنة، ويُعاد إنتاج القمع بأشكال أكثر تعقيداً وخفاءً. وباتت النساء يدركن أن العنف لم يعد مجرد اعتداء جسدي أو لفظي، بل تحوّل إلى بنية متكاملة تغذّيها الدولة نفسها، وتُكرّس عبر مؤسساتها، وتشريعاتها، وصمتها الرسمي. هذا الإدراك يعكس عمق الأزمة، ويُبرز الحاجة إلى تفكيك المنظومة التي تجعل من العنف ضد النساء جزءاً من النظام لا استثناءً عنه.
لم تفرق الحرب المستمرة والاستهداف الإسرائيلي بين النساء والرجال، ولا بين المدنيين والمسلّحين. حتى بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، قُتل المئات من النساء والأطفال. خلّفت الحرب أيضاً مئات المصابات واللواتي يعانين من إعاقات، وسط غياب الإحصاءات الرسمية ونقص في الرعاية الطبية والنفسية. وفي تعليقها على هذا الوضع، قالت عناية عزالدين "ما تتعرّض له النساء في الحرب يمكن اعتباره شكلاً ممنهجاً من أشكال العنف".
كما حُرمت آلاف النساء من حقهن في العودة إلى منازلهن وأراضيهن، ومُنعن من المشاركة في جهود إعادة الإعمار، ما شكّل تهديداً مباشراً لحياتهن. في مناطق النزوح، تواجه النساء ظروفاً معيشية قاسية، وغياباً للمساحات الخاصة بهن، إلى جانب تصاعد السرديات الجندرية التمييزية. كل ذلك فاقم الأعباء الاقتصادية والنفسية الملقاة على عاتقهن. وقالت عناية عزالدين "عندما تُستهدف البُنى التحتية والخدمات الأساسية مثل المدارس والمستشفيات ومراكز الرعاية، تكون النساء أول من يشعر بتبعات ذلك؛ لأن أدوارهن داخل الأسرة والمجتمع تضعهن في موقع المواجهة المباشرة مع آثار النزاع".
وترى عناية عز الدين أن "العنف لا يقتصر على الاعتداء الجسدي أو الجنسي فحسب؛ بل يشمل أيضاً الحرمان من الحقوق الأساسية، وانعدام الأمن الغذائي والصحي، وفقدان المأوى والدخل، وتحمل أعباء مضاعفة داخل الأسرة والمجتمع، ولهذا، فإن العنف ضد النساء في فترات النزاع يُعد شكلاً متعدد الطبقات من العنف؛ وهو نوع بنيوي ومنهجي ناتج عن تقاطع عوامل مثل الحرب، والنزوح، والفقر، والتمييز الاجتماعي".
وفيما يتعلق بآليات التدخل، قالت عناية عزالدين "لقد تم تناول هذا الموضوع بشكل مباشر خلال مراجعة خطة الطوارئ من منظور المساواة الجندرية، وذلك ضمن أعمال لجنة المرأة والطفل. وطالبنا بشكل خاص وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الداخلية والبلديات بأخذ الظروف الخاصة بالنساء في حالات النزاع بعين الاعتبار، وتوفير خدمات الحماية والدعم الاجتماعي والنفسي لهن".
تقدم رقمي لا يترجم سياسياً
رغم مرور أكثر من سبعة عقود على منح المرأة اللبنانية حق التصويت والترشح، لا تزال مشاركتها السياسية محصورة في هامش ضيق، فمنذ عام 1953، لم تدخل البرلمان اللبناني سوى 17 امرأة، وهو رقم يعكس فجوة كبيرة بين الحقوق المكتسبة نظرياً والتمثيل الفعلي على أرض الواقع.
يشهد لبنان تحوّلات اجتماعية وثقافية عميقة، إلا أن هذه التغيّرات لا تنعكس في التمثيل السياسي، ما يطرح تساؤلات حول فعالية السياسات القائمة، ومدى استعداد النظام السياسي لاستيعاب مشاركة نسائية حقيقية تتجاوز الأرقام الرمزية.
هذه الفجوة الصارخة بين الواقع الاجتماعي والواقع السياسي تكشف خللاً بنيوياً في آليات الديمقراطية اللبنانية، فالنظام لا يزال عاجزاً عن احتضان التنوع الجندري بشكل فعلي، ويكتفي بمظاهر شكلية لا تعكس مشاركة حقيقية للنساء في صنع القرار.
وبحسب التقارير الرسمية، تشكّل النساء ما بين 15% إلى 58% من أعضاء الأحزاب السياسية، وهي نسبة تبدو مشجعة ظاهرياً، إلا أن هذه النسبة تنخفض بشكل كبير عندما يتعلق الأمر بالمناصب القيادية، حيث لا تتجاوز 20%، وتصل إلى حدود 5% فقط في مواقع السلطة التنفيذية. هذا الانحدار يُظهر أن التمثيل النسائي لا يزال محصوراً في الهامش، وأن الطريق نحو مشاركة سياسية عادلة يتطلب إصلاحاً جذرياً في البنية الحزبية والمؤسساتية.
رغم ارتفاع نسبة المرشحات في الانتخابات النيابية اللبنانية من 12.1% عام 2018 إلى 15.7% عام 2022، إلا أن هذا التقدّم العددي لم يُترجم إلى تمثيل فعلي، إذ لم تفز سوى خمس نساء من لوائح الأحزاب، ما يؤكد أن الترشّح لا يعني بالضرورة وجود دعم فعلي أو فرص متكافئة للفوز.
أما في الانتخابات البلدية لعام 2025، فقد طرقت النساء اللبنانيات أبواب المجالس البلدية بثقة أكبر، حيث بلغت نسبة الفائزات 10.37%، ووصلت إلى 16.4% في مجالس المخاتير. ومع ذلك، لم تتجاوز نسبة النساء المنتخبات كمخاتير فعليين 2.42%. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام تُعدّ مشجعة مقارنة بالدورات السابقة، إلا أنها لا تزال بعيدة عن تحقيق التمثيل المتكافئ أو ضمان حضور نسائي فعّال في عمليات اتخاذ القرار.
هذا التناقض يفضح الطبيعة الذكورية المتجذّرة في هياكل الأحزاب السياسية، ويثير تساؤلات جدّية حول مدى التزام هذه الأحزاب بخطاب المساواة. فخلف هذه النسب الظاهرة، تقف نضالات يومية تخوضها المرشحات، لا في صناديق الاقتراع فحسب، بل في مواجهة ثقافة أبوية متجذرة. فالكثيرات منهن تعرضن لتشكيك في قدراتهن، أو لخطاب اجتماعي يربط أهليتهن السياسية بوضعهن العائلي، ففي بعض الحالات، يُعتبر الزواج من شخص من قرية أخرى سبباً كافياً لرفض ترشّحهن. هذه الذهنية لا تعكس فقط إقصاءً سياسياً، بل تكشف أيضاً عن فهم مشوّه لحقوق المواطنة والمشاركة، حيث تُختزل المرأة في انتماءاتها العائلية لا في قدراتها ومواقفها.
كما هو معروف، تُدار الانتخابات البلدية في لبنان غالباً وفق منطق التحالفات بين العائلات والأحزاب، وليس على أساس البرامج السياسية. هذا النمط التقليدي يُكرّس هيمنة الرجال على هذا المجال، الذي لطالما كان حكراً عليهم تاريخياً. ويُسهم غياب قوانين تُشجّع على المساواة الجندرية أو تُلزم بتطبيق الكوتا النسائية، في جعل مشاركة النساء استثناءً لا قاعدة، ويُضعف فرصهن في الوصول إلى مواقع اتخاذ القرار. في ظل هذا الواقع، تبقى مشاركة النساء في الحياة السياسية المحلية رهينة بنية اجتماعية وسياسية لا تزال تُقاوم التغيير البنيوي الحقيقي.
الحركة النسائية مقاومة تنهض بقوتها الذاتية
لا يمكن تجاهل الحركة النسائية المتنامية في لبنان، التي نشأت كردّ فعل على العنف الناتج عن الأزمة السياسية المستمرة. هذه الحركة، التي تزداد قوة يوماً بعد يوم، تعبّر عن إرادة نساء يسعين لاكتساب الخبرة رغم كل العوائق، ويطالبن بدور فعّال في التنمية المحلية وبيئة سياسية أكثر عدالة.
في ظل غياب الدعم المؤسسي، تتجه النساء نحو بناء تنظيمات أكثر تماسُكاً واستقلالية، تُعبّر عن قوتهن الذاتية وتُعيد تعريف المشاركة السياسية والاجتماعية من منظور نسوي مقاوم. هذه الدينامية لا تُعد فقط ردّاً على التهميش، بل أيضاً مشروعاً لتحويل الواقع السياسي والاجتماعي نحو مزيد من الشمول والمساواة.
في ساحات النضال، بادرت النساء في لبنان، بالتعاون مع منظمات محلية وشبكات شبابية، إلى إطلاق مبادرات تهدف إلى تقديم الدعم النفسي وزيادة الوعي حول العنف الرقمي، كما أنشأن خطوطاً ساخنة لحماية الناشطات من التهديدات والانتهاكات.
وتُعد تجربة التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني (RDFL) نموذجاً ريادياً في هذا المجال، إذ وفّر ملاذات آمنة للنساء المعنّفات، وساهم في تعزيز قوتهن النفسية والاجتماعية. ومع ذلك، تواجه هذه المؤسسات تحديات بنيوية تؤثر مباشرة على قدرتها في الاستمرار، أبرزها نقص التمويل، وضغوط التقاليد التي تتشكّل وفق رموز اجتماعية ودينية، فضلاً عن العقبات الكبيرة في الحصول على الدعم المؤسسي والقانوني. هذا الواقع يُظهر أن النضال النسوي لا يقتصر على مواجهة العنف، بل يمتد إلى تفكيك البُنى التي تُكرّس التهميش وتُعيق الوصول إلى العدالة والمساواة.
تقول مسؤولة الحماية في التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني رانية ميلع "النساء المعنّفات لا يعبّرن عن آلامهن إلا في جلسات مغلقة، بسبب وصمة العار التي يحمّلها المجتمع لهن وكأنهن المسؤولات عمّا تعرّضن له".
وتُشير إلى أن العوائق القانونية، من تكلفة الطلاق إلى التمييز الطائفي، تجعل من الحصول على الحماية القانونية مطلباً شبه مستحيل. هذا الواقع يُنتج مشهداً لا يعترف بحقوق النساء ولا بإرادتهن، بل يُمعن في تهميشهن، ويُخفق في توفير الدعم لهن عند تعرّضهن للعنف. والأسوأ أن بعض القوانين القائمة تُكرّس هذا الوضع، وتُضفي عليه شرعية مؤسسية تُعيق أي تغيير جذري نحو العدالة الجندرية.
وشددت أيضاً على نقطة جوهرية، قائلة "التراجعات الحاصلة لا تعود إلى ضعف الجمعيات، بل إلى سياسات الدولة تجاه النساء. فحتى عندما تكون هناك قوانين، فإنها لا تُطبّق؛ كما أن القرارات تُتخذ بمعزل عن الأشخاص الذين هم على تماس مباشر مع الضحايا"، مضيفةً "النهج الذي نعتمده، وهو نهج 'يرتكز على الناجيات'، يطالب بأن تُبنى السياسات انطلاقاً من احتياجات النساء أنفسهن، وأن تنبع من الميدان لا من مكاتب منفصلة عن الواقع".
المساءلة وتطبيق القوانين... ماذا تغيّر في 2025؟
على الرغم من تصاعد العنف ضد النساء طوال عام 2025، لم يشهد هذا العام أي تحوّل قانوني جذري يعيد تشكيل إطار الحماية القانونية للنساء في لبنان. لا يزال "قانون حماية النساء من العنف الأسري"، الذي أُقرّ عام 2014، يشكّل الإطار التشريعي الوحيد المعمول به، لكنه يُظهر محدودية كبيرة على مستوى التطبيق. هذه المحدوديات تنبع من ثغرات إجرائية، وضعف تنفيذ قرارات المحاكم، ونقص الموارد المخصصة للحماية.
كما أن استغلال الثغرات القانونية، إلى جانب الأداء المتذبذب للمؤسسات الرسمية، يُعيق محاسبة الجناة بشكل فعّال، ويُبقي النساء في دائرة الخطر دون ضمانات حقيقية للعدالة أو الأمان.
المشهد الراهن يُظهر بوضوح أن العنف ضد النساء لم يعد مجرد مجموعة من الحوادث المنفصلة، بل أصبح نتاجاً لنظام تمييز بنيوي متجذّر يمتد من الأسرة إلى مؤسسات الدولة. هذا العنف ليس عرضياً، بل هو نتيجة لتراكمات ثقافية وقانونية واجتماعية تُكرّس التهميش وتُضعف الحماية، ما يجعل النساء في مواجهة دائمة مع منظومة لا تعترف بحقوقهن بشكل فعلي.
إن فهم العنف كجزء من بنية أوسع يُحتّم إعادة النظر في السياسات العامة، وتطوير استجابات شاملة لا تكتفي بردود فعل مؤقتة، بل تسعى إلى تفكيك الأسباب الجذرية للتمييز، وتمكين النساء من المشاركة الكاملة والآمنة في الحياة العامة والخاصة.
اليوم، يكمن التحدّي الأكبر في تحويل هذا الوعي المتزايد إلى فعل سياسي وتشريعي ملموس. فإعادة تعريف مفهوم الحماية من العنف لا تُعدّ مجرد خطوة قانونية، بل هي مرآة تعكس مدى إنسانية المجتمع، وتُظهر إلى أي حدّ هو مستعد لمواجهة الظلم بدلاً من التعايش معه بصمت.