المغرب... المرأة وأزمة الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

جمالية النص القانوني وحدها لا تكفي فالعنف ضد النساء في المغرب ليس سلوكاً فردياً، بل انعكاس لثقافة مجتمعية وتقصير مؤسساتي وبينما تراهن الحكومة على التشريعات، يراهن المجتمع المدني على التربية والتمكين الحقيقي.

حنان حارت

المغرب ـ تتزايد المخاطر التي تواجه النساء حول العالم، من عنف مادي ورقمي إلى انتهاكات اقتصادية واجتماعية، ما يجعل قضاياهن من أبرز الملفات التي تحييها الأمم المتحدة سنوياً من خلال اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة المصادف 25 تشرين الثاني/نوفمبر وحملة الـ 16 يوماً المرافقة له.

في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تتشابك التقاليد والثقافات والديناميات السياسية، تظل قضية العنف ضد النساء جرحاً مفتوحاً في نسيج الحياة اليومية. هذا العنف، الذي يتخذ أشكالًا متعددة من الجسدي إلى النفسي، ومن الاقتصادي إلى القانوني، لا يمس النساء فحسب، بل يهزّ أسس العدالة والكرامة الإنسانية.

وبالتزامن مع اقتراب اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة الذي يصادف الـ 25 تشرين الثاني/نوفمبر، وحملة الـ 16 يوماً أعدت وكالتنا سلسلة من الملفات لتسليط الضوء على واقع العنف ضد النساء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من خلال تحليل السياقات الاجتماعية والقانونية، عرض قصص وتجارب حقيقية، وتقديم رؤى نقدية حول السياسات والممارسات القائمة.

في المغرب، ورغم مرور أكثر من سبعة عقود على الاستقلال، لا يزال العنف ضد النساء من أبرز مظاهر التفاوت الاجتماعي، ويتخذ أشكالاً متعددة؛ جسدية ونفسية واقتصادية ورقمية؛ ويكشف عن خلل بنيوي في منظومة الحماية والعدالة.

يأتي هذا الملف في سياق الأيام الأممية الخاصة بالمرأة وحقوق الإنسان، لإلقاء الضوء على ظاهرة العنف ضد النساء في المغرب من خلال وقائع ميدانية، ومعطيات رسمية، وشهادات من جمعيات نسوية وحقوقية.

 

بين النصوص والقدر حين يقتل التشهير مرتين

لم تكن وفاء، الشابة التي تقطن في إحدى قرى جهة بني ملال خنيفرة وسط المغرب، تتخيل أن تتحول صداقة عابرة إلى مأساة تنهي حياتها.

في أيلول/سبتمبر الماضي، انتشرت صورها الخاصة على مواقع التواصل الافتراضي بعد أن سربها شاب كانت تعرفه، وفي قريتها الصغيرة، حيث "الكلام يدور أسرع من الريح"، وجدت نفسها محاصرة بنظرات الاتهام وصمت المجتمع عن الجاني.

الأم التي استدعتها الشرطة لم تجد سوى البكاء وهي تردد أن ابنتها كانت "ضحية لا مذنبة"، وفي مساء ملبد بالحزن، أنهت وفاء حياتها، تاركة سؤالاً موجعا: كيف يمكن لصورة واحدة أن تسلب حياة كاملة؟

وبعد أقل من شهر، تكررت المأساة بشكل آخر في مدينة تازة شمال شرق المغرب. إيمان، شابة في مقتبل العمر، تعرضت لاعتداء بالسلاح الأبيض من طرف طليقها في الشارع العام، ما تسبب لها في إصابات بليغة على وجهها وعينها، وقد سبق وأن تعرضت لاعتداء جنسي من الشخص نفسه، ووجدت نفسها مضطرة للزواج به لتسجيل المولود، قبل أن ينتهي الزواج بالطلاق والعنف.

تدخلت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان لتوفير الدعم القانوني والنفسي، فيما أوقفت الشرطة الجاني، وخرجت فعاليات نسائية في نداء عاجل لمراجعة الثغرات القانونية التي تكرس الخطر على النساء.

قصتا وفاء وإيمان تعكسان وجهين متوازيين للعنف ضد النساء في المغرب: عنف رقمي يلاحق الضحايا على الشاشات، وعنف جسدي يترك جروحاً لا تندمل، وكلاهما يكشف هشاشة الحماية وضعف الاستجابة، رغم ما تحقق من إصلاحات قانونية وتشريعية.

 

أرقام تكشف عمق الجرح

حسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط الصادر في آذار/مارس الماضي، تعرضت نحو 825 ألف فتاة مغربية تتراوح أعمارهن بين 15 و19 سنة لشكل واحد على الأقل من العنف، فيما واجهت أكثر من نصف النساء والفتيات بين 20 و74 سنة العنف داخل الأسرة أو خارجها.

وتشير الأرقام الرسمية إلى أن 56.5% من النساء المغربيات ما زلن يتعرضن لأحد أشكال العنف، أغلبها داخل الوسط الأسري. أما العنف الاقتصادي فقد تضاعف من 8.2% سنة 2009 إلى 15.1% سنة 2019،

وفي تقرير شامل للفترة 2020 ـ 2023، أفيد بأن معدل حالات "العنف الاقتصادي والاجتماعي" بلغ 24.8%، يشمل حرمان النساء من الموارد أو اتخاذ القرار المالي داخل الأسرة، ما يجعل كثيرات غير قادرات على مغادرة بيئة العنف أو التبليغ عنه.

وتصف المندوبية هذا الشكل من الانتهاك بأنه "الوجه الجديد للهشاشة"، إذ إن 19.9% فقط من النساء المغربيات يعملن بانتظام، ما يعزز التبعية الاقتصادية ويزيد من احتمالات الابتزاز والاستغلال.

أما العنف الرقمي فقد أصبح امتداداً للعنف التقليدي؛ إذ تشير المعطيات إلى أن 58.1% من النساء تعرضن لشكل من أشكال العنف الإلكتروني، وثلثهن أفدن بأن الاعتداء الرقمي انتقل إلى الواقع الفعلي.

ويبرز التقرير أن 70% من الفتيات بين 15 و19 سنة واجهن شكلاً من أشكال العنف خلال سنة واحدة، ما يطرح سؤال الحماية المبكرة لهذه الفئة الحساسة.

 

العنف المؤسسي حين تخذل المنظومة الأمهات

العنف في المغرب لا يقف عند حدود البيت أو الشارع، بل يمتد إلى المؤسسات نفسها. في مستشفى الحسن الثاني بأكادير، توفيت ثماني حوامل في فترة قصيرة، ما أثار احتجاجات شعبية واسعة خلال الأشهر الماضية، واعتبرت فيدرالية رابطة حقوق النساء أن هذه الحوادث تكشف استمرار هشاشة المنظومة الصحية، خاصة في المناطق القروية والجبلية.

ووفق معطيات المندوبية السامية للتخطيط ومنظمة الصحة العالمية، يبلغ معدل وفيات الأمهات في المغرب 72 وفاة لكل 100 ألف ولادة حية، أي ضعف المتوسط في شمال إفريقيا، وتصل النسبة إلى أكثر من 100 حالة في المناطق النائية.

وترى الجمعيات النسوية أن الخلل بنيوي، مرتبط بضعف التمويل العمومي ونقص الأطر الطبية، وتقول الناشطة رجاء حمين، منسقة جمعية التحدي للمساواة والمواطنة أن "العنف ضد النساء ظاهرة تنخر المجتمع المغربي، وهو ليس مجرد فعل فردي ناتج عن الغضب أو الفقر، بل وسيلة لترسيخ نموذج المرأة الخاضعة. نحن نرى العنف في كل مكان، من المؤسسات إلى البيوت، ومن الشارع إلى الشاشات، وقد بات هذا العنف أكثر تنوعاً وابتكاراً في أشكاله، لدرجة يصعب أحياناً رصده أو التبليغ عنه".

وتضيف "الحالات الوافدة إلى مراكز الاستماع التابعة للجمعية سجلت تضاعفاً في نسب العنف خلال السنوات الأخيرة، إذ تجاوز عدد الحالات التي نستقبلها سنوياً ألف حالة. هذا يدق ناقوس الخطر، لأن الضحايا ينتمين إلى فئات اجتماعية هشة وأعمار مختلفة، ما يؤكد أن العنف لا يستثني أي فئة من فئات المجتمع".

 

قانون 103.13 نص جميل... لكنه محدود

أُعتبر القانون رقم 103.13 لسنة 2018 محطة مهمة في مسار نضال المرأة، إذ جاء ليجرم التحرش والعنف ضدها، ويقر عقوبات على التحرش الرقمي وفي الفضاءات العامة، كما نص على إحداث وحدات للدعم داخل المحاكم والمستشفيات. غير أنّه، وبعد مرور سبع سنوات على اعتماده، ورغم تشدد الحكومة في تطبيقه، ظلّ عاجزاً عن ضمان الحماية الفعلية لحقوق النساء، ليبقى إلى اليوم محدود الأثر وغير كافٍ لتحقيق المساواة المنشودة.

وتؤكد رجاء حمين أن القوانين وحدها لا تكفي إذا لم ترفق بوسائل تنفيذ واقعية، قائلةً "القانون بلا ميزانية ولا تكوين قضائي واجتماعي يبقى حبراً على ورق، المطلب اليوم هو قانون نابع من الواقع، يحمي النساء بشكل أكثر فعالية، حتى نكون في مغرب آمن تحترم فيه كرامة النساء"، مشيرةً إلى أن الجمعية تواصل لقاءاتها الترافعية مع ممثلي الأحزاب لمراجعة هذا القانون وتكييفه مع الاتفاقيات الدولية، حتى تكون الحماية فعلية لا شكلية فقط.

 

العنف الرقمي والوصم محاكمة ثانية

تلعب الوسائط الرقمية اليوم دوراً أساسياً في الحروب الهجينة، حيث تحوّل العالم الافتراضي إلى أداة تمنح الشرعية لمختلف أشكال العنف ضد المرأة. ولم يعد هذا الفضاء محلّ مساءلة أو تشكيك، بل غدا وسيلةً لتقويض القيم الاجتماعية والنسائية. إنّ العنف الذي يُمارس عبر الوسائط الرقمية لا يظلّ حبيس الشاشات، بل يتجاوز حدود الواقع الافتراضي ليخترق جميع مجالات الحياة اليومية.

في العالم الافتراضي، يتكرر العنف بأشكال جديدة، حيث تواجه المغربيات يومياً موجات من التشهير، والتسريب، والتنمر الإلكتروني، وعلى الرغم من وجود قوانين تجرم هذه الأفعال، فإن التنفيذ بطيء والاستجابة محدودة، ما يجعل كثيرات يعشن منفصلات عن الحياة الاجتماعية وفي عزلة قسرية خوفاً من الفضيحة أو الانتقام.

وتعليقاً على ذلك تقول رئيسة جمعية اتحاد المرأة المغربية خديجة أهليل "الوصم الاجتماعي هو العنف الثاني بعد الاعتداء، فهو يقتل المعنويات ويجعل الضحايا يصمتن، كثير من النساء لا يجرؤن حتى على التبليغ خوفاً من أن تتحول قصصهن إلى مادة للتداول على الإنترنت". وهكذا، تقتل الصورة مرتين: مرة عندما تسرب، ومرة عندما يحاكم المجتمع صاحبتها.

 

العنف القاتل حين تفشل الوقاية

شهد المغرب خلال العام 2025 عدة حوادث مأساوية تعكس تصاعد العنف إلى مستويات قاتلة، ما يبرز هشاشة الحماية القانونية والاجتماعية. من أبرز هذه الحوادث:

-  إقليم سطات (17 تشرين الأول/أكتوبر 2025) ألقي القبض على رجل في عقده الرابع للاشتباه في قتله زوجته. التي اختفت منذ أيار/مايو، قبل أن يقوم بقطع جثتها بمنشار كهربائي والتخلص منها في الخلاء.

-   الدار البيضاء (تشرين الأول/أكتوبر 2025) شرطي أطلق النار على امرأة من معارفه ثم حاول الانتحار.

-   أرفود (أبريل/نيسان 2025) أستاذة توفيت بعد الاعتداء عليها بسلاح أبيض من طالب أمام المارة.

هذه الحوادث، رغم اختلافها في السياق والجهة، تشير إلى أن قتل النساء ليس مجرد نتاج انحرافات فردية، بل مؤشر بنيوي على عجز المنظومة الاجتماعية والقانونية عن حماية النساء، وتؤكد أن وجود التشريعات وحده لا يكفي إذا لم يترافق مع إرادة تنفيذ ووعي مجتمعي وآليات مراقبة فعالة.

وتعلق الناشطة خديجة أهليل بالقول أنه "كان يمكن تفادي الكثير من جرائم القتل لو وجد تدخل فوري أو حماية استعجالية، الوقت الذي يضيع بين الشكاية والتفعيل يكلف حياة".

 

الجيل الجديد من النضال

شهد المغرب خلال أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي موجة احتجاجات شبابية قادها جيل Z،طالبت بالمساواة والعدالة الجندرية، وواجهت تضييق رقمياً وميدانياً وأمنياً، لكنها في الوقت نفسه أعادت الحياة إلى النقاش العام حول العنف، وكسرت حاجز الصمت الذي كان يحيط بالضحايا.

الفضاء الرقمي أصبح سلاحاً ذا حدين: مساحة للتحريض والتشهير، لكنه أيضا فضاء للمقاومة والتضامن عبر وسوم مثل #ما_ساكتاش و#StopViolence، التي أطلقتها ناشطات وفنانات للمطالبة بالمحاسبة والكرامة.

 

مكاسب وعي... وانتكاسات حماية

 

رغم القتامة، هناك تحولات إيجابية ملموسة منها:

-  ازدياد مستوى الوعي المجتمعي بقضايا النساء.

-  توسع عمل مراكز الاستماع والإيواء، رغم محدودية التمويل.

-  بروز مبادرات رقمية وميدانية تدعم الناجيات وتوفر لهن بدائل اقتصادية.

 

لكن في المقابل، تستمر التحديات البنيوية وعلى رأسها:

- ضعف الميزانيات المخصصة للمراكز والجمعيات النسوية.

-  بطء الإجراءات القانونية.

-  استمرار أشكال العنف الرمزي والإعلامي والمؤسسي.

وفي هذا الصدد تقول رجاء حمين إن مكافحة العنف مسؤولية جماعية تتطلب انخراط الحكومة والمجتمع والمؤسسات التعليمية، كلما بدأ الوعي مبكراً، نشأت أجيال ترفض العنف وتؤمن بحقوق النساء.

 

نحو مغرب آمن للنساء

يختتم هذا المشهد الطويل برسالة واحدة هي أن جمالية النص القانوني وحدها لا تكفي فالعنف ضد النساء في المغرب ليس سلوكاً فردياً، بل انعكاس لثقافة مجتمعية وتقصير مؤسساتي وهو انعكاس للقصور النظامي والإشكالية التي تتطور من خلال ظاهرة الدولة. وبينما تراهن الدولة على التشريعات، يراهن المجتمع المدني على التربية والتمكين والمواكبة كمسارات موازية لا غنى عنها.

في حين تحاول الدولة التقدم بالقوانين، يدافع المجتمع عن مسارات موازية لا غنى عنها مثل التعليم، والاقتصاد الجماعي، والبنية الاجتماعية ذات المعايير الأخلاقية والجمالية والديمقراطية.

واليوم، تقف الحركة النسوية المغربية عند مفترق طرق: إما أن تتحول الشعارات إلى سياسات تنقذ الأرواح، أو يبقى العنف مستمراً... يقتل الجسد مرة، ويقتل التشهير مرتين.