"Jin Jiyan Azadî" من جبال كردستان إلى انتفاضة نسائية تهز العالم
من جبال كردستان إلى شوارع العالم، تحول شعار "Jin Jiyan Azadî" من كلمات مقاومة إلى حركة نسوية عالمية، أعادت تعريف الحرية والكرامة من منظور مقاوم.

مركز الأخبار ـ في وداع جينا أميني الأخير، لم يكن شعار "Jin Jiyan Azadî" مجرد هتاف عابر، بل تحول إلى صرخة تمرد عالمية. ثلاث كلمات اختزلت قروناً من مقاومة النساء للهيمنة الذكورية، وجسدت توقاً عميقاً للخلاص من القهر البنيوي، اليوم، بات هذا الشعار لغة عالمية للنضال النسوي، تعبر عن إرادة جماعية لكسر القيود، واستعادة الكرامة، وإعادة تعريف الوجود من منظور مقاوم، ينبض بالحرية والعدالة.
في الذكرى الثالثة لانتفاضة "Jin Jiyan Azadî" يواصل شعارها إشعاعه كرمز حي للمقاومة، رغم ما واجهه من تقلبات وقمع ممنهج على مدار السنوات الثلاث الماضية. لم يخفت صداه، بل ظل نداء للتحرر يتحدى محاولات الإخماد، ويستعيد حضوره بقوة في وجدان النساء والمجتمعات الساعية إلى الكرامة والحرية، مؤكداً أن جذوة الانتفاضة لا تنطفئ حين تكون مغروسة في الوعي الجمعي.
كيف تحول هذا الشعار من كلمات إلى حركة ثورية متكاملة؟
في تسعينيات القرن الماضي، أطلق القائد عبد الله أوجلان، بالتعاون مع النساء الكرديات، هذا الشعار كركيزة لتحرر المرأة، وقد تشكل هذا الشعار من تجربة نضالية عميقة، وتحول إلى حجر أساس في بناء حركة تحرر المرأة، مستندا إلى رؤية فلسفية تؤمن بأن "حرية المجتمع لا تتحقق إلا بتحرر المرأة".
تجسدت هذه الفلسفة عملياً في النموذج الديمقراطي الإيكولوجي النسوي الذي نشأ في إقليم شمال وشرق سوريا، ليشكل تجسيداً حيا لهذا التصور التحرري، لم يبق شعار "Jin Jiyan Azadî" حبيس النظرية، بل اتخذ شكله الفعلي في هذا النموذج الذي يعلي من شأن حرية المرأة، ويعيد تشكيل الحياة الاجتماعية على أسس العدالة والمساواة، لقد بات هذا النموذج ترجمة ملموسة لقناعة راسخة بأن تحرر المرأة هو المدخل الحقيقي للتغيير المجتمعي.
انطلقت عالمية شعار "Jin Jiyan Azadî" بقوة عقب مقتل الشابة الكردية جينا أميني، على يد نظام ينكر وجود النساء ويقمع أصواتهن، شكل مقتلها لحظة فارقة كسرت جدار الصمت، وكشف عن عمق القهر والتمييز الذي تعانيه النساء، منذ تلك اللحظة، تحول الشعار إلى صرخة كونية تشعل نيران النضال النسوي في كل مكان، وتعيد تعريف معنى المقاومة في هذا العصر.
Jin Jiyan Azadî"" لم يقتصر على تأجيج الاحتجاجات في الشوارع؛ بل أطلق أيضاً تحولاً ثقافياً واجتماعياً عميقاً، واجه البنى الجذرية للمجتمع، وأعاد تعريف العديد من المفاهيم من منظور حرية المرأة.
في إيران، لم يكن من المتوقع أن تجرؤ امرأة تطالب بالحرية والحقوق على الاعتراض علناً أو أن تصرخ في الشارع، لكن الخصائص الفريدة لهذه الحركة جعلتها تختلف جذريا عن كل الحركات النسائية السابقة في البلاد. فقد انطلقت الانتفاضة الثورية بقيادة نساء متشبعات بفلسفة "Jin Jiyan Azadî"، لتعيد تعريف مفهوم النضال بشكل جذري، داخل إيران وعلى امتداد العالم، حيث لم تعد النساء خاضعات للقمع والمراقبة، بل تحولن إلى فاعلات في الصفوف الأمامية للمقاومة، لتأخذ هذه الحركة طابعاً ثورياً أحدث تحولاً ثقافياً عميقاً.
النساء اللواتي تحدين الحجاب، باعتباره أحد الأدوات الأساسية لقمع المرأة، وجهن نقداً مباشراً لهيمنة النظام الأبوي على أجسادهن، ليغدو رفض الحجاب رمزاً بارزا للمقاومة النسوية.
تجلى إنجاز الثورة في التفاف النساء حول شعار "Jin Jiyan Azadî"، وتشكيل مسار نضالي مشترك يجمع أصواتهن في مواجهة القمع والهيمنة.
بقيادة النساء، تحولت انتفاضة "Jin Jiyan Azadî" إلى نموذج عالمي، تجاوز نضالهن الحدود الجغرافية ليغدو حركة كونية جامعة. هذا النمط الجديد من المقاومة أتاح للنساء تحقيق إنجازات ملموسة في الميادين الثقافية والاجتماعية والسياسية، وشكل منعطفاً حاسماً في مسار الحركات النسائية داخل إيران.
الانتفاضة الثورية وشعارات "Jin Jiyan Azadî"
في لحظة دفن جينا أميني بمدينة سقز، انطلقت شرارة لم يكن بالإمكان إخمادها، من بين الحشود، ارتفع شعار "Jin Jiyan Azadî" كصرخة أولى، سرعان ما ترددت أصداؤها في شوارع المدن وساحات الجامعات، لتتحول خلال ساعات إلى نبض ثوري وهوية جماعية لنساء ورجال قرروا ألا عودة إلى الصمت.
لكن هذه الانتفاضة لم تكتف بشعار واحد. فقد انفجرت معها لغة جديدة للمقاومة، شعارات تنزف غضباً وتكتب تاريخاً من نار تسللت تلك الشعارات إلى جدران المدن، نقشت بالألوان والدم:
"لا للجمهورية الإسلامية، حتى يسقط"
"سأقتل من قتل أختي"
"أذربيجان استيقظت، وكردستان ملاذ"
"الحرية تتطلب الدم، وتحتاج إلى طفل لا يعرف الخوف"
"تحول سجن البيت إلى جامعة، وأصبحت طهران مركز اعتقال"
"هذا ليس احتجاجاً، إنها ثورة"
"لا نريد حكومة تقتل الأطفال"
"يموت الطالب، لكنه لا يقبل الإهانة"
"أقسم بدماء أصدقائي، سنقاوم حتى النهاية"
"الكرد، البلوش، والأذريون: حرية ومساواة"
"لا حجاب، لا نقاب؛ حرية ومساواة"
"سنجعل من كردستان مقبرة للفاشيين"
"سواء كان ملكا أو قائدا، الموت للطاغية"
"الشهداء لا يموتون"
كل شعار كان صرخة في وجه القمع، وكل هتاف جسد لحظة تحول من الخوف إلى الجرأة، من الانكسار إلى التحدي، لم تكن الكلمات مجرد تعبير، بل كانت فعلاً ثورياً، يعيد رسم حدود الممكن، ويعلن أن زمن الطاعة قد انتهى.
أصداء حول العالم
اتحاد النساء، إحساسهن ببعضهن البعض وروح التضامن بينهن، تجسد في قصهن لشعرهن، التي تعد جزءاً من أجسادهن، في مختلف أنحاء العالم، عبرت النساء عن انضمامهن إلى انتفاضة "Jin Jiyan Azadî" أو وقوفهن إلى جانبها، أو شعورهن بها كامرأة، من خلال قص شعرهن. تحول هذا الموقف بسرعة إلى فعل جماعي؛ على المسرح، في البرلمان، في الشارع، في المنزل، وفي مكان العمل، وفي كل مجالات الحياة، وقفت النساء في وجه النظام الذكوري وعقليته بقص شعرهن.
امتد صدى "Jin Jiyan Azadî" كوميض ثوري عبر حدود اللغات والجغرافيا، ليهز ضمير العالم، ففي 25 أيلول/سبتمبر 2022، اختارت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية أن تضع هذه الكلمات الثلاث، مكتوبة بالفارسية، على صفحتها الأولى، كتحية صامتة ولكن مدوية لدفق الاحتجاجات في إيران.
وفي تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية ( (BBCبعنوان "من أين جاء شعار احتجاجات إيران؟"، كشف أن هذه العبارة، وإن بدت جديدة على مسامع بعض الإيرانيين، فهي مألوفة لدى النساء في إيران وتركيا والعراق وسوريا، اللواتي حملنها منذ أوائل الألفية كراية للمقاومة. قبل نحو عشرين عاماً، دوى هذا الشعار لأول مرة في احتجاج نسائي بتركيا، مطالبات بالاستقلال الكردي، ليبدأ رحلته من الهامش إلى قلب الثورات.
وعلى موقعها الرسمي، أعلنت مؤسسة روزا لوكسمبورغ بصوت لا يلين "لا عودة عن ثورة Jin Jiyan Azadî" كأنها تصادق على ما بات واضحاً في شوارع شرق كردستان، وأزقة طهران، وسهول بلوشستان، أن ما بدأ كصرخة احتجاج، تحول إلى زلزال نسوي شامل، يهز أركان السلطة ويعيد رسم خرائط المقاومة.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، خصصت مجلة "Utblick"، النشرة الرسمية لجمعية العلاقات الدولية، مساحة لصرخة تحولت إلى زلزال نسوي. في مقال بعنوان "Jin Jiyan Azadî: من صرخة حرب إلى ثورة"، سلطت الضوء على التحول الجذري الذي شهدته روج آفا، حيث لم تعد الثورة مجرد مقاومة مسلحة، بل أصبحت مشروعاً نسوياً متكاملاً تقوده النساء الكرديات، ويعيد تعريف مفاهيم التحرر والسلطة والعدالة.
تناول مقال "Crimethinc" شعار "Jin Jiyan Azadî" من خلال تجربة نساء إقليم شمال وشرق سوريا، باعتبارها تجسيداً حياً للثورة النسوية ضد السلطة الذكورية والدولة القومية.
سلط تقرير لإذاعة WUSF، الصادر من ولاية فلوريدا الأمريكية، الضوء على دور الشعار في تأجيج موجات الاحتجاج داخل إيران، مشيراً إلى استلهام المحتجين لهذا الشعار الكردي الثوري كرمز للمقاومة والتغيير.
ونشرت "الأممية التقدمية" باعتبارها منظمة سياسية دولية تضم أكثر من 70 مجموعة عضوية، على موقعها الرسمي ما يلي "Jin Jiyan Azadî ليست وسما رقمياً؛ بل إن نضال النساء في إيران ضد النظام الثيوقراطي القمعي لا يمكن فصله عن مقاومة النساء الكرديات للسلطوية المدعومة من الناتو في تركيا، وللتطرف الداعشي في العراق وسوريا".
كما وصفته صحيفة "فاينانشال تايمز" بأنه ثمرة نضال النساء من أجل الحرية، معتبرةً إياه تعبيراً عن إرادة جماعية نسائية في مواجهة القمع والاستبداد.
حظي شعار "Jin Jiyan Azadî" والحراك الثوري الذي انبثق عنه باهتمام واسع من قبل وكالات الأنباء والصحف والقنوات التلفزيونية والإذاعية، الأمر الذي أسهم في ترسيخه كرمز عالمي لنضال النساء من أجل التحرر ومواجهة القمع.
امتد تأثير الحراك الثوري إلى مجالات الفن والأدب والتعبير البصري، حيث تجلت روحه في أعمال إبداعية تركت بصمة عميقة في الوعي المجتمعي، وأثرت بشكل خاص في وجدان النساء، ملهمة إياهن على مستوى فردي وجمعي.
وعبر الفنانون الإيرانيون والدوليون عن تضامنهم مع الانتفاضة عبر أعمال غرافيكية ورسوم رمزية، جسدوا من خلالها روح المقاومة النسائية، وحولوا الفن إلى وسيلة ناطقة بالكرامة والرفض والتحدي.
فعلى سبيل المثال، أعاد الفنان الإيراني حميد بوربهرامي تفسير لوحة "الحرية تقود الشعب" الشهيرة لديلاكروا، ليجسد من خلالها نضال النساء الإيرانيات، وقد استبدل رموز الثورة الفرنسية بشخصيات نسائية إيرانية، محولاً اللوحة إلى صرخة بصرية تعبر عن مقاومة النساء للقمع، وتجسد تلاقياً بين التاريخ الثوري العالمي والنضال النسائي المحلي المعاصر.
أما فنانون مثل المصمم جاليز، فقد عبروا عن دعمهم لانتفاضة Jin Jiyan Azadî"" بأسلوب بصري جريء، حيث عرضوا تصاميمهم على واجهة برج آزادي في طهران، محولين بذلك أحد أبرز معالم المدينة إلى فضاء احتجاجي ينبض بالفن والمقاومة، ويجسد صوت النساء في مواجهة القمع.
كما تناول بودكاست "ثورة النوتات" الحراك الاحتجاجي من زاوية موسيقية، مسلطاً الضوء على أغاني المقاومة التي رافقت الانتفاضة، ومحللاً كيف تحولت الموسيقى إلى وسيلة فاعلة للتعبير السياسي وبناء التضامن الشعبي. وقد برزت الأغاني كرافعة لصوت النساء، مجسدةً حضورهن في مواجهة القمع، ومؤكدةً على دور الفن الصوتي في تشكيل الوعي الجماعي وتغذية روح الثورة.
وقد استلهم مشروع الموسيقى "ظهرت الأصوات"، الذي أقيم في مدينة بوسطن، من نضال الإيرانيات، وسعى إلى تحويل هذا الحراك إلى تعبيرات صوتية وفنية نابضة بالحياة. جمع المشروع بين مؤلفات موسيقية أصلية، تسجيلات ميدانية، عروض أداء حية تجسد مشاعر الألم والغضب والأمل، ليغدو منصة تضامن عابرة للحدود تنصت لصوت النساء وتجاهر بمقاومتهن في وجه القمع.
وخلال أدائها المسرحي، جسدت الفنانة الإيرانية باراستو أحمدي حضوراً نسائياً ثائراً، مستلهمةً من انتفاضة Jin Jiyan Azadî" فقد نقلت إلى خشبة المسرح روح المقاومة النسائية، محولةً الفن إلى فضاء للتعبير السياسي والتضامن الجريء، حيث تماهى الأداء مع نضال النساء، وارتقى ليصبح صوتاً بصرياً يعكس قوة الإرادة في مواجهة القمع.
وفي لحظة مشحونة بالذاكرة والوجدان، امتد ابداع الفنانة الكردية دنيا كمالي إلى الأغنية التراثية "جورى جان"، لا لتؤديها كما كانت، بل لتنفخ فيها روحاً جديدة، مستلهمةً من فلسفةJin Jiyan Azadî" " ومن قصة جينا أميني التي تحولت إلى أيقونة للغضب والكرامة. ففي أدائها، لم تكن "جوري جان" مجرد لحن قديم، بل تحولت إلى نداء حي، يصرخ بالألم الجماعي ويهمس بالأمل النسائي، ويعبر حدود الزمان والمكان. أعادت دنيا كمالي تشكيل التراث الموسيقي الكردي ليصبح مرآة لنضال معاصر، حيث تتلاقى الأصوات النسائية في مواجهة القمع، وتعلو لتنسج من الحنين والاحتجاج نشيداً لا ينسى.
كما أنجز الفنان كاوه فاثي أعمالاً فنية تحولت إلى رموز بصرية لانتفاضة Jin Jiyan Azadî""، حيث التقت رؤيته الجمالية مع روح المقاومة النسائية، فخلقت تصاميمه فضاءات نابضة بالتحدي والكرامة. لم تكن أعماله مجرد صور، بل تحولت إلى أيقونات تعبر عن الغضب الجماعي، تجسد تطلعات النساء إلى الحرية في وجه القمع والاستبداد.
ومن خشبات المسارح العالمية إلى منصات المشاهير، صدحت أغنية براي كأنها نداء لا يُكتم. لم تكن مجرد لحن، بل تحولت إلى صرخة جماعية، ترددها النساء في الشوارع، يطلقنها من أعماق القهر والأمل، بصوتٍ واحدٍ يهز جدران الصمت. هكذا أصبحت براي أكثر من أغنية؛ صارت رمزاً للانتفاضة، مرآةً للوجع، ورايةً ترفع في وجه النظام الذكوري، تحمل في كلماتها نبض الثورة، ودمعة الحرية.
أما الأكثر تأثيراً، فكان العرض الموسيقي "Kezîya Sor" الذي قدمته فرقة "Hunergeha Welat"، تحولت أغنيةJin Jiyan Azadî" " إلى لحظة فنية فارقة، حيث ترددت أصداؤها بقوة مستلهمة من ثورة المرأة في إقليم شمال وشرق سوريا، لم يكن الأداء مجرد احتفاء بالشعار، بل كان تجسيداً حياً لروح المقاومة، حيث امتزج الصوت بالحكاية، والموسيقى بالذاكرة، ليصبح العرض منصة فنية تعبر عن تطلعات النساء وتاريخ نضالهن.
أما فيلم "الأم التي تركت من أجل بناتها: مينو ماجيدي"، فيتناول قصة مينو ماجيدي، والدة جينا أميني وروجا بيرايي، التي فقدت حياتها خلال الاحتجاجات. الفيلم يسلط الضوء على الأم التي تحولت إلى رمز للتضحية، ويستعرض كيف امتزج الحزن بالكرامة، والأمومة بالمقاومة، ليعيد رسم صورة المرأة ليس فقط كضحية، بل كقلب نابض للثورة.
وقد شاركت ست فنانات إيرانيات في معرض "Beenabin" الذي أقيم في نيويورك، من خلال أعمال عبارة عن فيديوهات تستكشف قضايا الهوية والواقعين الاجتماعي والسياسي، لتفتح نافذة فنية على تجارب النساء في ظل القمع والتحولات.
كما قامت العديد من منصات الأفلام في عام 2022 بجمع الأفلام النسائية التي تناولت شعار Jin Jiyan Azadî" والنضال الذي تخوضه النساء ضد النظام الأبوي، وعرضتها على منصاتها الخاصة. وتناول مهرجان برلين السينمائي الدولي في أحد عروضه هذا الشعار وناقش تأثيراته وقد تردد في العديد من الاحتجاجات العالمية وحركات التضامن، بما في ذلك مهرجانات سينمائية مثل "برليناله".
وقدم عدد من فناني الصوت أعمالاً متنوعة من أغانٍ وقصائد إلى أفلام وكتب تحمل شعار Jin Jiyan Azadî مسهمين في ترسيخ هذا الشعار داخل الذاكرة الثقافية، وتحويله إلى خطاب فني مقاوم يتجاوز اللحظة السياسية ليصبح جزءاً من سردية نضالية ممتدة.
لم تكن انتفاضة Jin Jiyan Azadî"" حراكاً نسوياً منعزلاً، بل صرخة جمعت النساء والرجال في نضال مشترك ضد القمع، حيث اعتبرت حرية المرأة امتداداً لحرية الجميع. وقد مهدت لتحول اجتماعي عميق، أعاد تشكيل العلاقات بين الجنسين على أساس التضامن، والكرامة، والعدالة.
حصيلة قتلى انتفاضة Jin Jiyan Azadî""
في الأيام الأولى من الانتفاضة، واجهت السلطات الإيرانية الحراك الشعبي بعنف بالغ، في محاولة لإخماد جذوته منذ لحظاته الأولى، ووفقاً لتقارير حقوق الإنسان والمصادر الإعلامية، بلغ عدد الضحايا الموثقين حتى السادس من أيلول/سبتمبر 2025 ما لا يقل عن 551 شخصاً، بينهم 68 طفلاً وأكثر من 70 أمرأة وإعدامات العشرات من النساء.
ويشير تقرير منظمة حقوق الإنسان في إيران، الصادر بمناسبة الذكرى السنوية للانتفاضة، إلى أن هذه الأرقام تمثل فقط الحالات التي أمكن توثيقها، بينما تؤكد مصادر محلية أن العدد الحقيقي للضحايا يفوق بكثير ما تم الإعلان عنه، ما يعكس حجم القمع الذي واجهته هذه الثورة الشعبية.
الجمعة الدامية في زاهدان
في الأيام الأولى من الانتفاضة عبر الشعب البلوشي عن تضامن عميق مع شرق كردستان، لكن الأحداث التي شهدتها مدينة زاهدان في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2022، والمعروفة بـ "الجمعة الدامية" أو "الجمعة السوداء"، تجاوزت حدود التضامن، لتكشف عن غضب متراكم تفجر إثر جريمة اغتصاب فتاة بلوشية تبلغ من العمر 15 عاماً على يد قائد الشرطة إبراهيم كوجك زاي في مدينة تشابهار، هذا الحدث أشعل فتيل احتجاجات واسعة امتدت بسرعة إلى مختلف مدن بلوشستان.
وفي 25 تشرين الأول/أكتوبر من ذات العام، خرج أهالي زاهدان في مظاهرة حاشدة، مرددين شعارات احتجاجية أمام مركز شرطة المدينة السادس عشر، ووفقاً لشهادات محلية، نصبت القوات الأمنية كمائن على أسطح المباني المحيطة، وما إن تجمع المتظاهرون حتى انهالت عليهم النيران، مستهدفةً الرؤوس والصدور، بينما شاركت المروحيات العسكرية في الهجوم، حتى على من احتموا داخل منازلهم.
أسفر هذا القمع الدموي، بحسب تقارير إعلامية، عن مقتل ما لا يقل عن 103 شخصاً، وإصابة أكثر من 300 آخرين، بينهم 25 أصيبوا مباشرة في أعينهم، فيما وصفه شهود بأنه استهداف متعمد من قبل الشرطة. وفي اليومين التاليين، تصاعدت وتيرة العنف، حيث قمعت القوات الأمنية الاحتجاجات في مدن أخرى من بلوشستان، واعتقلت أعداداً كبيرة من المواطنين.
ورغم مرور الوقت، لا تزال الإحصاءات المتعلقة بـ "الجمعة الدامية" غير مكتملة؛ إذ إن العديد من الضحايا لم تعرف هوياتهم، واضطرت عائلاتهم إلى دفنهم بصمت، بعيداً عن أعين الإعلام، في مشهد يعكس حجم الألم والظلم الذي خلفته تلك اللحظة المفصلية في تاريخ الحراك الشعبي.
توقيف أكثر من 19,700 شخصاً
في مواجهة انتفاضة Jin Jiyan Azadî""، أطلقت السلطات حملة اعتقالات واسعة النطاق، طالت أكثر من 19,700 شخصاً، بينهم 800 طالب جامعي، فيما تم فصل 58 معلماً من وظائفهم في المؤسسات التعليمية. تعكس هذه الأرقام حجم القمع الممنهج الذي مارسته السلطات، والذي لم يقتصر على الاعتقال، بل شمل أيضاً أساليب تعذيب وانتهاكات جسيمة، بما في ذلك الاغتصاب، بهدف إسكات الأصوات المعارضة ومنع تمدد الحراك في مختلف أنحاء البلاد.
استهداف عيون المتظاهرين
شكلت العيون هدفا مباشراً في حملة القمع التي رافقت انتفاضات عام 2022، حيث تفيد التقارير الأولية بإصابة 580 شخصاً في أعينهم خلال الاحتجاجات، وتشير دراسات نشرت في آذار/مارس 2024 إلى أن أكثر من 120 متظاهراً فقدوا بصرهم نتيجة استهداف متعمد لمنطقة العين، فيما تم توثيق 138 حالة إصابة مباشرة، ما يكشف عن نمط ممنهج من العنف يطال أحد أكثر رموز الإدراك والكرامة الإنسانية.
النساء في مرمى القمع
تعرضت النساء في انتفاضة "Jin Jiyan Azadî" لاستهداف غير متناسب، إذ شكلن 56% من المصابين في منطقة العين، بينما بلغت نسبة النساء بين القتلى 15%، وتعد إصابات العين التي طالت المتظاهرين في إيران انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، كما تكشف عن تكتيك قمعي ممنهج تتبعه السلطات، حيث يتحول الجسد، ولا سيما العين، إلى ساحة مواجهة ترمز إلى محاولة إيقاف الرؤية والاحتجاج في آن واحد.
أسلوب قمع ممنهج
منذ انطلاق Jin Jiyan Azadî"، اتبعت السلطات الإيرانية أسلوباً قمعياً ممنهجاً، تجلى في إصدار وتنفيذ أحكام الإعدام بحق المعتقلين، فقد تم إعدام 11 شخصا على الأقل، بينهم رضا راسائي (6 آب/أغسطس 2024) ومجاهد كوركوري في 11 حزيران/يونيو الماضي، فيما يواجه عدد كبير آخر خطر تنفيذ العقوبة ذاتها.
ورغم أن هذه الأرقام وردت في التقارير الرسمية، إلا أن المصادر المستقلة تشير إلى أن العدد الحقيقي يفوق بكثير ما أعلنته الحكومة، ما يعكس حجم الانتهاكات التي رافقت الحراك، ويؤكد أن الإعدام بات أداة ترهيب تستخدمها الدولة لإخماد صوت الثورة.
جرائم الشرف والعنف ضد النساء
بين عامي 2022 و2025، تم توثيق ما لا يقل عن 312 جريمة قتل ارتكبت بذريعة "الشرف"، ما يعكس استمرار نمط من العنف المنهجي ضد النساء في إيران، وتعد هذه الجرائم جزءاً من منظومة أوسع، حيث تبدو السلطة وكأنها تمارس انتقاماً ممنهجاً من النساء، إما عبر التغاضي عن جرائم القتل والاغتصاب والتحرش، أو من خلال التواطؤ المباشر في ارتكابها.
إلى جانب الإعدامات والتعذيب والعنف الجنسي والترحيل القسري، ساهمت السياسات الذكورية التي تروج لها السلطات في خلق بيئة عدائية تجاه النساء، تشرعن فيها الانتهاكات وتمارس علناً في الشوارع والأماكن العامة. وقد منحت قوات الباسيج والشرطة المدنية صلاحيات واسعة لممارسة القمع والتحرش، ما جعل جسد المرأة ساحة مستباحة في معركة السلطة ضد الحرية.
الهجرة القسرية وهجرة العقول
في قلب العتمة التي فرضتها السلطة، وفي ظل القمع الذي طال الجسد والروح، لم يكن الهروب خياراً بل ضرورة، فمنذ أن ارتفعت أصوات النساء بشعار "Jin Jiyan Azadî"، بدأت موجات الهجرة القسرية تتدفق من إيران، حاملة معها وجوهاً أنهكها الخوف، وأحلاماً ضاقت بها الحدود، أكثر من 665,000 شخص غادروا البلاد بين عامي 2022 و2024، بينهم 403,000 في عام واحد فقط، وكأن الأرض لفظت أبناءها أو ضاقت بهم سبل الحياة.
لكن ما كان أشد وطأة من النزوح الجماعي هو نزيف العقول، ارتفعت نسبة هجرة الأكاديميين والباحثين بنسبة 14%، في مشهد يشي بانهيار البيئة الآمنة للتفكير الحر، وانطفاء شموع المعرفة في بلاد باتت تضيق بكل ما هو مستقل، نقدي، ومبدع.
وفي محاولة يائسة للحفاظ على سلطتها، روجت الجمهورية الإسلامية لصورتين متناقضتين عن المرأة: واحدة مطيعة، عفيفة، تقدم كرمز للفضيلة، وأخرى ثائرة، حرة، تصور كرمز للشر والإلحاد. بهذا التصنيف القاسي بين "الجيدات" و"السيئات"، سعت السلطة إلى ترسيخ النظام الأبوي، لا كقانون، بل كعقيدة.
اعتبر شعار "المرأة، الحياة، الحرية" تهديدا وجوديا، إعلان حرب على بنية السلطة، فحاولت الدولة تفريغه من مضمونه، تجريده من أثره، لكن ما لم تدركه هو أن هذا الشعار لم يكن مجرد كلمات، بل شرارة وعي، ونداء تحول إلى مشروع تحرري يعيد تعريف الحرية من منظور نسوي مقاوم.
واليوم، في إقليم شمال وشرق سوريا، ينبض هذا الشعار في شوارع روج آفا، لا كصرخة احتجاج فقط، بل كبيان ثوري جامع، تتردد أصداؤه في وجدان نساء الشرق الأوسط. لقد تجاوز "Jin Jiyan Azadî"، حدود الجغرافيا، ليصبح شعار القرن، ونواة لباراديغما جديدة ألا وهي مجتمع ديمقراطي يبنى على المساواة، العدالة، والتمثيل الحقيقي للنساء.
في زمن الحروب والأنظمة القمعية، لم يعد هذا الشعار مجرد مقاومة، بل صار أفقا لإعادة بناء الحياة نفسها، من جذورها، بلغة نسوية لا تخضع، بل تحرر.