شهادة من قلب المحرقة... مآسي نساء السويداء لا تعرف نهاية

في شهادتين مؤثرتين نقلت نساء تفاصيل مرعبة من قلب مدينة السويداء السورية، حيث تحولت المدينة إلى مسرح للدمار والموت، روايتان تكشفان حجم الألم والخذلان في مواجهة آلة القتل، وتناشدان العالم أن يسمع صوت الكرامة وسط الركام.

روشيل جونيور

السويداء ـ منذ انطلاق الثورة السورية، رفعت مدينة السويداء شعاراً إنسانياً وأخلاقياً بارزاً ألا وهو "دم السوري على السوري حرام"، غير أن هذا الشعار لم يلبث أن تراجع أمام واقعٍ دامٍ، حين تولى أحمد الشرع (الجولاني) الحكم في سوريا حيث بدأت عمليات قتل ممنهجة طالت السوريين لمجرد اختلافهم الطائفي.

في مشهدٍ يُشبه ساحات الحرب العالمية أكثر من كونه حدثاً داخلياً، عاشت مدينة السويداء على مدار أسبوع كامل تحت نيران الأسلحة الثقيلة والخفيفة التي وُجّهت نحو المدنيين العزّل من قبل مجموعات مسلحة تابعة لجهاديي هيئة تحرير الشام، لمجرد مطالبتهم بالحياة والكرامة، وكان للنساء النصيب الأكبر من المعاناة؛ بين أمهات فقدن أبناءهن، ونساء قُتلن بطرق مروعة، وأخريات لا يزال مصيرهن مجهولاً حتى الآن، وصف شهود عيان المشهد بأنه يفوق كل تصور.

أما حصيلة القتلى فتراوحت بين 600 و700 ضحية من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، إلى جانب عناصر من الفصائل المحلية، ويُتوقع أن ترتفع هذه الأرقام مع استمرار عمليات البحث والإنقاذ.

 

"كل ما نرجوه هو أن يعمّ السلام"

وحول الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة السويداء خلال الأيام الفائتة تقول سلام رشيد "كنت أتجول في سوق المدينة حين دوّت فجأة أصوات القنابل والمدفعية، فاهتزت الأرض من حولنا، دبّ الذعر بين الناس، وارتفعت صرخات الأطفال في كل مكان، لم نفهم ما يحدث، لكن الخوف الجماعي كان كفيلاً بدفعنا للهرب والاختباء دون تفكير".

تتابع الحديث وهي تسترجع مشهداً مؤلماً "هذا الهجوم أعاد إلى ذاكرتي ما تعرضت له السويداء في خمسينيات القرن الماضي على يد أديب الشيشكلي، ما يجري اليوم يحمل في طياته حقداً دفيناً تجاه الطائفة الدرزية".

وفي نبرة يغلب عليها الألم والفخر تؤكد "لم نعتدِ على أحد، ولم نبادر بالهجوم، نحن فقط ندافع عن أرضنا وكرامتنا، شبابنا سطّروا أروع ملاحم الصمود ببطولة وشرف، وكل ما نرجوه اليوم هو أن يعمّ السلام، وأن تتوقف هذه المجازر المروّعة بحق الأبرياء".

 

 

جثث في الشوارع وصمت في المستشفى

من جانبها تروي دارين عزام ما جرى قبل أسبوعين "كنت داخل كلية الفنون الجميلة في السويداء، عندما وصلنا خبر الهجوم على سيارة خضار على طريق دمشق، العناصر الذين يُعرفون بـ "الأمن العام" اعتدوا على السيارة، سرقوا محتوياتها وأموالها، وأهانوا واعتدوا جسدياً على من فيها، لم تكن الحادثة الأولى من نوعها، بل بداية لحالة من التصعيد غير المسبوق".

وأوضحت "الضرب بدأ في منطقة المقوس بعد افتعال مشكلة، وفي تلك اللحظات كنا نحن والطلاب محتجزين داخل الكلية، لا نستطيع الخروج، ولا نملك وسيلة لحمايتهم سوى الترقب، وعندما خفت حدة الاشتباكات لبعض الوقت، غادرنا الكلية تحت الخطر، وعدنا إلى منازلنا التي تحولت منذ ذلك اليوم إلى ملجأ إجباري".

وأشارت إلى أن حملات التحريض على مدينة السويداء والطائفة الدرزية اشتدت، بالتوازي مع تضليل إعلامي من قبل الحكومة المؤقتة التي أعلنت إدخال قواتها من الجيش والأمن تحت ذريعة "فض الاشتباكات"، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً، كما تقول دارين عزام "في اليوم التالي، كانت القرى الحدودية تحت حماية أهالي المدينة، حين ظهرت فجأة سيارة وألقت قنبلة، ما أدى إلى مقتل عدد منهم، واختفاء آخرين لا نعلم مصيرهم، بينهم خالي الذي لا نعرف إن كان مصاباً أم ما زال على قيد الحياة".

وبصوت يغلب عليه الألم والاستغراب تقول "دخلت القوات من عدة محاور، وكان واضحاً أن ما يجري ليس فض نزاع، بل عملية عسكرية حقيقية بأسلحة ثقيلة، لم أتخيل يوماً أنني سأعيش مشاهد بهذا القدر من العنف والرعب، بعد أن هدأ إطلاق النار، خرجنا إلى الشوارع فوجدناها غارقة بالجثث، بعضها ظل مرمياً لأيام دون أن يدفن، أحدهم كان ابن جيراننا، قُنِص أمام أعين أهله وبقي في مكانه لأكثر من عشرين ساعة، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه".

ولفتت إلى أن المستشفى رمز الحياة والإنقاذ، تحول إلى مركز موت وعجز، حيث توقفت أجهزته عن العمل؛ لا كهرباء، لا محروقات، لا أدوات طبية، امتلأت أروقته بجثث متفسخة، حتى بات مصدراً للوباء بدلاً من العلاج، كل زاوية فيه تحكي قصة رعب وصمت مفجع".

وتابعت "خارج جدران المشفى، كانت المشاهد أكثر فظاعة، منازل أُحرقت بالكامل، وأخرى سُويت بالأرض، وأناس أُعدموا ميدانياً بلا محاكمة أو رحمة، أحد جيراننا، اقتيد برفقة ابنته ذات الأربعة عشر عاماً، وقُتلا معاً أمام منزلهما، إنه مشهد يفوق حدود الألم والإنكار".

وأضافت "أنا لا أنقل رواية متداولة، بل أصف ما رأيته بعيني، وما لا يزال محفوراً في الذاكرة، وهناك الكثير مما لا يمكن الحديث عنه؛ قصص بلا نهاية، مشاهد لم تُروَ، لكنها تُسكن القلوب بالخوف والغضب".

وفي ظل كل ما جرى كانت النساء أكثر من دفع الثمن، أم تشهد لحظة موت ابنها، وعجزها يتحول إلى خطوط بارزة على ملامحها، قهر لا ينطق به لسان، وحتى اليوم العشرين من تموز/يوليو، وبعد إعلان "اتفاق وقف إطلاق النار"، لا يزال الرصاص يدوي في أحياء المدينة وريفها، واليوم أيضاً، سُجلت اعتداءات جديدة، تضرب بقسوتها كل نداء للسلام والنجاة.