نفرتيتي... ملكة تركت بصمتها في التاريخ
من العصور التي كانت فيها النساء تلعبن دور الآلهة إلى العصر الذي باتت فيه المرأة مستعبدة بحكم السيطرة الذكورية، استطاعت نفرتيتي أن تمثل دور الملكة وتسعى إلى ضمان المساواة بين المرأة والرجل، وذلك من خلال شخصيتها القوية.

آفرين نافدار
الحسكة ـ تلعب النساء دوراً حيوياً في بناء المجتمع وتطويره، فمنذ نشوء الإنسانية وحتى يومنا الراهن، كانت النساء، بدءاً من الآلهة وصولاً إلى الملكات والرياديات، تتمتعن بمكانة بارزة في احتضان المجتمع ورعايته. وتُعتبر الملكة نفرتيتي واحدة من الملكات التي لا تزال خالدة في ذاكرة نساء الشرق الأوسط، ورمزاً لنضالهن، فمن هي؟ وما هي أبرز إنجازاتها التاريخية؟ وكيف تمكنت من تحقيق مكانة مرموقة في مجتمعها؟ هذه أسئلة تتكرر في سياق التعرف على شخصية الملكة نفرتيتي ودورها في التاريخ.
بالرغم من تراكم الغموض الذي يحيط بحياة نفرتيتي، إلا أن ذلك يزيد من جاذبية السعي للتعرف عليها، بما في ذلك اختفائها المفاجئ من السجلات التاريخية بعد 12 عاماً من الوصاية المشتركة مع زوجها أخناتون، فإن إرثها لا يزال سليماً، واكتسبت هوية جديدة دفعت النساء في الشرق الأوسط ومصر بشكل خاص للتحلي بشخصية قوية.
كما ذكر القائد عبد الله أوجلان في رسالته التي وجهها للنساء في الثامن من آذار التي سميت بـ "رسالة النهضة" أن "بعد انهيار ثقافة المرأة الآلهة في التاريخ ظهرت الملكات مثل نفرتيتي وغيرها"، لافتاً إلى أنه في الوقت الراهن "تعتبر تلك الملكات كربات منزل فقط"، أي تم تهميش دور المرأة على مر التاريخ وحصرها فقط ضمن المنزل وتربية الأطفال.
ومن خلال هذا التقرير حاولنا أن التعرف على دور الملكة نفرتيتي على مر التاريخ، وأهمية تلك المرحلة التي كانت بمثابة نهضة ضد الأنظمة الذكورية التي كانت تعمل على طمس الهوية النسوية.
من هي الملكة نفرتيتي؟
تعد الملكة نفرتيتي من النساء اللواتي لعبن دوراً مهماً في تاريخ مصر القديمة، واسم نفرتيتي هو اسم مصري قديم يعني "الجميلة جاءت" فكلمة "نفر" تعني جميل و"تيتي" يعني جاءت ويرمز الاسم إلى الجمال والأناقة، وقد يُنظر إلى سلطانتها وجمالها على أنهما يمثلان بعض الصفات التي كانت تنسب للآلهات، مثل القوة وشخصيتها الجريئة.
وشاركت زوجها الملك أخناتون كملكة من عصر الأسرة الثامنة عشر في 1350- 1334 ق.م، وشاركنا معاً في إعمار معابد الكرنك كتقليد ملوك الأسرة الثامنة عشر. انجبت نفرتيتي ست بنات، وهو ما يظهر على جدران مقبرة مريرع الثاني والذي تظهر فيه نفرتيتي إلى جوار أخناتون ويتبعهما بناتهما الستة، كما أنها أصبحت رمزاً للقوة الدينية والملكية في مصر القديمة.
أهم أعمالها والألقاب التي اشتهرت بها
اشتهرت نفرتيتي بالعديد من الألقاب مثل "الأميرة الوراثية، عظيمة المدح، سيدة النعمة، عذبة الحب، سيدة الأرضين، زوجة الملك العظيمة، سيدة كل النساء، عشيقة مصر العليا والسفلى"، كما أنها تميزت بجمالها وجاذبيتها وشخصيتها القوية، وكان لشخصيتها تأثير كبير على مجتمعها.
كانت نفرتيتي تساند زوجها في دعوته الدينية الجديدة (الديانة الآتونية)، وهناك لعبت دوراً أساسياً في نشر تعاليم الديانة الجديدة، وظهرت في كل المناسبات والاحتفالات الدينية والرسمية.
لقد لعبت نفرتيتي دوراً بارزاً في السياسة الخارجية، وهو ما يتجلى في اللوحة الموجودة في متحف بوسطن، حيث تظهر وهي واقفة ترفع مقمعتها لتواجه الأعداء، مما يعكس صورة امرأة قوية. هذا المشهد، الذي يعبر عن قمع الأعداء، يتماشى مع الصورة الذكورية السائدة في العصر الفرعوني للملك الحاكم الذي يسيطر على أعداء مصر. علاوة على ذلك، تظهر نفرتيتي وهي ترتدي تيجان ملكية تعود لملك حاكم، وليس فقط تاج زوجة الملك، إلى جانب التاج المعروف بتاج الخبرش الأزرق الذي يرتديه الملك في المناسبات الرسمية، ظهرت نفرتيتي مرتدية ذات التاج.
تهميش دور النساء والغموض الذي يلف تاريخهن العريق
بالنظر إلى ظهور شخصيات مثل نفرتيتي التي سعت لحماية دور المرأة، فإن تهميش دور النساء في التدوين التاريخي التقليدي يعكس تحيزاً تاريخياً، هذا التهميش يعمل على إخفاء إسهامات وإنجازات المرأة التي استطاعت من خلالها أن تقاوم ضد الأنظمة التي حاولت طمس هوية النساء وحقيقتهن، كما حاولت إخفاء التركيز على الملاحم التاريخية التي تبرز بطولة النساء ومشاركتهن في كافة الأصعدة أهمها العسكرية والسياسية. فهذا التهميش ليس مجرد إغفال، بل تشويه للواقع التاريخي، وتقييم هذا التهميش يجب أن يشمل الاعتراف به كجزء معمول لإعادة صياغة التاريخ بشكل أكثر شمولية وإنصافاً، مع التركيز على استضعاف دور المرأة في المجتمعات البدائية والمعاصرة.
إلى جانب الغموض الذي يحاط بتاريخ المرأة المقاومة منذ بداية الإنسانية، هناك أنظمة سلطوية ورأسمالية تعمل على تشويه صورة النساء المقاومات مثل نفرتيتي وغيرها، فاليوم إذا نسأل نساء الشرق الأوسط أو نساء مصر بشكل خاص، ماذا يعرفون عن حياة الملكة نفرتيتي، أو إلى أي حد يساهمون لكي يحيون شخصيتها القوية في اليوم الراهن، فلن نكتفي بالأجوبة التي تعكس حياتها وشخصيتها أو تعمل على ممارسة خطاها، وسبب ذلك الممارسات التي تتبعها الأنظمة الرأسمالية والسلطوية لطمس هوية المرأة ودورها الريادي على مر التاريخ إلى اليوم الراهن.
وإذ نتطرق اليوم إلى الانتهاكات التي تمارس بحق المرأة في الشرق الأوسط فنرى بأنها تواجه الكثير من التحديات التي تعيقها من لعب دورها في كافة الأصعدة الحياتية، حيث ينظر إلى النساء بمنظور الملكية والعائدية وكأن دورهن الوحيد السير وراء الرجال والموافقة على القرارات التي يتخذونها على الصعيد السياسي، العسكري والاجتماعي، لكن هذا لا يمثل حقيقة المرأة التي لعبت دور الآلهة، الملكة، العاملة، السياسية، الحامية، الإدارية فكل هذا جاء من قوة الإرادة والعزيمة التي تتسم بها النساء.
نفرتيتي ونساء مصر حلقة مترابطة من النضال
واجهت النساء المصريات العديد من التحديات التي تعيق مشاركتهن في مختلف مجالات الحياة. وقد شكلت نفرتيتي، كملكة تتولى إدارة الشؤون الاجتماعية والسياسية والعسكرية، نقطة تحول للنساء في مصر. يمكننا القول إن النضال الذي تخوضه المصريات اليوم هو استمرار للإرث الذي تركته نفرتيتي في صفحات التاريخ.
تعاني النساء في مصر اليوم من انتهاكات حقوقية متزايدة، وارتفاع معدلات جرائم القتل، وتهميش دورهن في مراكز اتخاذ القرار، بالإضافة إلى غياب القوانين التي تحمي حقوقهن. هذه الظواهر تعكس عقلية كانت ترى في نضال نفرتيتي ومحاربتها من منظور سلطوي، وكأن ما تسعى إليه من تحقيق المساواة بين المرأة والرجل يتعارض مع العادات والتقاليد، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو من هي صانعة الثقافة والمجتمع والعلوم والطب والاقتصاد وغيرها؟ أليست المرأة هي التي أسست المجتمع بعقلها وقلبها الكبيرين؟ لذا، فإن المساواة وإدارة المجتمع هي مسؤولية أساسية تقع على عاتق النساء، وما ناضلت من أجله نفرتيتي ونساء مصر اليوم هو حقهن في العيش بحرية وكرامة.
نفرتيتي ذاكرة محفوظة
فكما كانت عشتار وستار والعديد من الآلهات اللواتي أسسن المجتمعات وساهمن في تطور الإنسانية رمزاً للحرية والسلام والديمقراطية، وتجسدت هذه القيم في سيرتهن الذاتية ونضالهن الذي لا يزال يضيء درب النساء ويقودهن نحو الفهم الحقيقي لجوهرهن، ويعيد إحياء الجذور القوية للمرأة القيادية والرائدة في مجتمعها، من خلال ثباتها ونضالها، رغم ظهور العديد من الأنظمة والعصور التي سعت إلى فرض نظام ذكوري سلطوي.
يمكن للنساء في سياق نضالهن الحالي في الشرق الأوسط الاستفادة من تقاليد نفرتيتي لتجسيد القوة والصمود والقيادة النسائية. بإمكانهن استكشاف كيفية تنظيم المجتمعات النسائية القديمة، وتبادل المعرفة والخبرات، واستخدام الفنون والثقافة للتعبير عن قضاياهن. قد يمثل الرجوع إلى القيم النسوية القديمة فرصة لإعادة تقييم الذات وتعزيز التضامن، بالإضافة إلى إيجاد حلول مبتكرة للتحديات الراهنة. هذا النهج يمكن أن يوفر أساساً قوياً لتمكين المرأة وتعزيز دورها في المجتمع، مما يعزز قدرتها على مواجهة الأزمات.
ومن أبرز النقاط التي يجب استحضارها من تاريخ الملكة نفرتيتي هو نظام المساواة الذي كانت تتمتع به مع زوجها أخناتون. عند التعمق في هذا الموضوع، يتضح أن دور نفرتيتي لم يقتصر على الدعم والمشاركة فحسب، بل كانت تشارك الرجل في إدارة السياسة الخارجية، وتلعب دوراً قيادياً في مواجهة الأعداء، كما كانت دائماً في المقدمة خلال الطقوس والأعياد الرسمية، مما يعكس أهمية الحفاظ على المساواة بين الرجل والمرأة في جميع مجالات الحياة.