ناشطات سنه: الثقة الركيزة الأكبر في مواجهة سياسة التفرقة
سياسة صامتة وخفية، قضت على الثقة بين النشطاء المدنيين والمجتمع، كيف تحولت الشكوك بعد سنوات من النضال إلى عزلة للنشطاء وتفكك داخلي للمؤسسات المدنية؟ وهل استطاع المجتمع مقاومة هذه السياسة المرهقة أم استسلم لها؟

ماريا قديمي
سَنه ـ على مدى سنوات طويلة، تسللت سياسة هادئة ولكن عميقة إلى نسيج المجتمع، كجذر خفي ينمو بصمت، كانت تهدف إلى تآكل الثقة وزرع بذور التفرقة بين الناس والنشطاء المدنيين، ونجحت في فصل النشطاء الملتزمين عن محيطهم، وأضعفت العلاقات الإنسانية، ودفعت الإيمان بالعمل الجماعي إلى الهامش، حيث سادت الشكوك وسوء الظن.
تم إقصاء أولئك الذين آمنوا بأن الوحدة هي السبيل لتحقيق الأهداف الكبرى، وتعرضوا لهجمات متكررة من القريب والبعيد، ما دفع الكثير منهم إلى الانعزال أو الهجرة أو اللجوء إلى الفن أو الصمت، وفقدوا بذلك مكانتهم في المجتمع، لم يقتصر هذا الانحدار التدريجي على الأفراد فقط، بل امتد بصمت ليطال المؤسسات المدنية، التي أُغلقت دون ضجيج.
فشل السلطة في زرع التفرقة
روت آسو شهابي، الناشطة في مجال حقوق المرأة، تجربتها الشخصية التي تعكس عمق تأثير السياسات السلطوية على المجتمع المدني، قالت إنها فقدت أحد أفراد عائلتها في انتفاضة Jin Jiyan Azadî""، وهو حدث ترك جرحاً عميقاً في قلبها وفي قلوب من حولها، فبعد مقتله، سادت حالة من عدم الثقة، وتكاثرت الأقاويل، وسط ضغط متواصل من تهديدات الحكومة، ما جعلهم عاجزين عن الوثوق بأي أحد.
في تلك المرحلة، كان من الصعب التمييز بين الصديق والعدو، رغم أن آلاف الأشخاص عبّروا عن تعاطفهم. ومع مرور الزمن، بدأت الصورة تتضح، بحسب آسو شهابي، التي قالت بثقة إن "تلك الشكوك لم تكن وليدة الواقع، بل كانت جزءاً من مخطط ممنهج تقوده السلطة، هدفه زرع الخوف والتفرقة بين الناس، ومع التأمل العميق في المحيط، أصبح من الممكن إدراك أن العدو الحقيقي لم يكن بيننا، بل كان من يسعى لتفكيكنا".
وأضافت أن "كثيرين ممن وقفوا في الصفوف الأمامية في كل احتجاج وتجمع، وكان لهم حضور اجتماعي مؤثر، شوهت سمعتهم لذلك كانت عائلات الضحايا تخشاهم، لكنهم كانوا في الحقيقة من أقرب الناس إلى تلك العائلات، لكن الشائعات التي روّجت لها السلطة نجحت في بث الخوف والتردد، حتى باتت العلاقة معهم مشوبة بالريبة".
وأفادت أنه "مع مرور الوقت، ومع تعمق الفهم لأهداف السلطة، بدأت تلك الشكوك تتلاشى، فقد أدرك الناس أن تصديق الشائعات دون معرفة حقيقية بالطرف الآخر هو سقوط في فخ السلطة، واليوم، باتت الثقة تتعافى تدريجياً، والوعي الجماعي ينمو"، مؤكدةً أن "الجميع مسؤول عن حماية سمعة الآخر، وعن رعاية بعضهم البعض، دون الوقوع في خداع العدو الذي لا يزال يسعى لتفكيك الروابط الإنسانية".
زخم انعدام الثقة... شهادة ناشطة مدنية بعد تجربة السجن
رضوان قدسي، ناشطة مدنية من سنه، تسرد تجربة شخصية مؤلمة كانت انعكاساً لسياسات ممنهجة هدفت إلى تفكيك المجتمع المدني من الداخل، قالت إن الحديث عن آثار هذه السياسات أمر ضروري، لكنه للأسف لا يحظى بالاهتمام الكافي، رغم أن كثيرين دفعوا ثمناً باهظاً بسبب حملات التشويه والتفرقة التي مارستها السلطة، هؤلاء النشطاء، بعد سنوات من النضال والتضحية والسجن، وجدوا أنفسهم موضع شك وطرد اجتماعي، ما أدى ببعضهم إلى أزمات نفسية عميقة يصعب تجاوزها.
روت أنها، بعد قضائها عامين في السجن، خرجت لتواجه واقعاً مختلفاً، في البداية، تجاهلت النظرات الثقيلة والهمسات التي كانت تلاحقها، لكنها سرعان ما أدركت أن الأمر أعمق من مجرد انطباعات عابرة.
وقالت إنها شعرت بصدمة كبيرة عاشها العديد من السجناء السياسيين بعد الإفراج عنهم، حيث يُنظر إليهم بريبة، ويُطلب منهم إثبات براءتهم من تهم لم تُوجه إليهم رسمياً، بل نُسجت من شائعات وأقاويل.
اختارت رضوان قدسي طريق الصبر، وقررت أن تمنح الزمن فرصة لإثبات حقيقتها، رغم صعوبة المسار، وكانت تدرك أن هذه التجربة ليست فريدة، وأن كثيرين قبلها وبعدها مرّوا بنفس الألم، لذا لم تحمل ضغينة تجاه من شككوا بها، لأنها كانت تعلم أن مصدر هذه الريبة هو السلطة نفسها.
وأشارت إلى أن السلطة استخدمت أساليب متعددة لترسيخ انعدام الثقة، بدءاً من التحقيقات داخل السجن، حيث كان المحققون يحاولون زرع الشك في النفوس عبر اتهامات موجهة للأصدقاء والمقربين، وانتهاءً بترويج الشائعات في المجتمع، هذه الاستراتيجية، التي تعتمد على التشكيك والتفريق، نجحت في كثير من الأحيان في خلق فجوات بين النشطاء، وأضعفت الروابط التي كانت تشكل أساس العمل الجماعي.
اختتمت رضوان قدسي شهادتها بنداء صادق "بعد كل هذه السنوات من النضال والعمل المدني، لا يجوز أن نسمح لشائعة أن تهدم تاريخ أحدهم، الثقة هي حجر الأساس في أي حركة تغيير، والعمل الجماعي لا ينهض إلا بروح جماعية واعية، لذلك علينا أن نوجّه جهودنا نحو الفهم العميق لبعضنا البعض، ونحو تعزيز وعينا السياسي، لا نحو إقصاء بعضنا".