مشاركة النساء في الرياضة... تحول نوعي في مسار النضال النسوي

أحدثت مشاركة النساء في الرياضة نقلة نوعية في نضالهن من أجل المساواة، إذ أصبحت الرياضة وسيلة للتعبير عن الذات وتحدي القيود الاجتماعية، ومجالاً لإعادة تشكيل الأدوار الجندرية في المجتمع.

هيرو علي

مركز الأخبار ـ إدماج النساء في المجال الرياضي لا يُعد فقط استجابة لمطالب العدالة الجندرية، بل يُسهم أيضاً في تعزيز الصحة العامة، وبناء مجتمعات أكثر شمولاً وتوازناً، ومن هنا، فإن دعم الرياضة النسائية يُعد ضرورة تربوية واجتماعية، تتطلب سياسات واضحة وممارسات مؤسسية تضمن مشاركة النساء على قدم المساواة مع الرجال.

يُعد نضال النساء من أجل نيل حقوقهن مساراً تاريخياً طويلاً، اتسم بمواجهة أشكال متعددة من التمييز وعدم المساواة في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الجوانب الاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية والاجتماعية، ومن بين هذه المجالات، برز القطاع الرياضي بوصفه أحد الساحات التي شهدت تهميشاً ممنهجاً للنساء، رغم أهميته الحيوية في بناء الهوية الفردية وتعزيز المشاركة المجتمعية.

 

تحولات تاريخية في الرياضة النسائية

لقد واجهت النساء، ولا سيما في المجتمعات ذات البُنى الاجتماعية التقليدية، قيوداً صارمة حالت دون مشاركتهن في الأنشطة الرياضية، حيث اعتبرت ممارسة الرياضة من قبل النساء أمراً غير لائق أو حتى محرماً في بعض السياقات الثقافية والدينية، وفي المقابل، فإن المجتمعات التي تتيح اليوم للنساء ممارسة الرياضة، كانت في السابق تمنعهن من ذلك، مما يعكس حجم التحول التاريخي الذي تحقق بفعل الحركات النسوية والنضالات الحقوقية المتواصلة.

وتشير الأدلة التاريخية إلى أن النساء شاركن في الأنشطة الرياضية منذ عام 3000 قبل الميلاد، حيث توثق العديد من الشواهد الأثرية هذه المشاركة، سواء من خلال النقوش الفنية في العصر البرونزي أو عبر التماثيل اليونانية القديمة، وغالباً ما تُفسر هذه الأعمال بوصفها انعكاساً لواقع اجتماعي كانت فيه النساء في اليونان القديمة يواجهن قيوداً صارمة، إذ اقتصر دورهن في الغالب على المجال المنزلي، ضمن بنية اجتماعية أبوية تقصي المرأة من الفضاء العام.

ومع ذلك، فإن مشاركة النساء في الرياضة لم تكن موحدة في جميع المدن اليونانية، بل تباينت بحسب السياقات الثقافية والسياسية المحلية، مما يدل على وجود تفاوت في درجة القبول الاجتماعي لدور المرأة الرياضية، وتُعد هذه الشواهد دليلاً على أن الرياضة لم تكن حكراً على الرجال، بل كانت مجالاً خاضته النساء رغم التحديات البنيوية التي فرضتها المجتمعات القديمة، وقد أتيحت لهن فرصة المشاركة في بعض المهرجانات الرياضية المحدودة، مثل مسابقات الفروسية، التي كانت تعد من الفعاليات القليلة التي يمكن للنساء من خلالها تحقيق إنجازات رياضية تحتسب ضمن إطار الألعاب الأولمبية، ورغم ذلك، منعن من المشاركة في معظم المنافسات الأولمبية الأخرى، نتيجة للقيود الاجتماعية والثقافية التي فرضت إقصاءهن من المجال الرياضي العام.

وعلى النقيض من هذا التوجه، تميزت مدينة إسبرطة (سبارتا) بنهج فريد تجاه تدريب النساء بدنياً، حيث سُمح لهن بممارسة مجموعة واسعة من الأنشطة الرياضية على قدم المساواة مع الرجال، مثل المصارعة، ورمي السيف، وسباقات الجري، وقد خضعت هذه الرياضات لمعايير تنظيمية واضحة، مما أتاح للنساء فرصة المشاركة الفعلية والتنافسية، في إطار رؤية إسبرطية تعتبر القوة البدنية جزءاً من إعداد المرأة لدورها المجتمعي، إذ كانت تؤمن بأن النساء القويات والرياضيات يُنتجن نسلاً أكثر صحة وقوة، وهو ما جعل التدريب الجسدي للنساء جزءاً من الرؤية المجتمعية العامة.

في حين كانت مدينة أثينا، العاصمة الثقافية لليونان القديمة، تُقصي النساء بشكل شبه كامل من المشاركة في المنافسات الرياضية، وتفرض عليهن قيوداً صارمة في المجال العام، ومع ذلك، شهدت بعض الطقوس الدينية، مثل مهرجان "هيرايا" الذي أُقيم تكريماً للإلهة هيرا، مشاركة نسائية في سباقات الجري للفتيات ولكن بشكل محدود، بالإضافة إلى مسابقات الفروسية التي كانت تُتيح للنساء فرصة نادرة لتحقيق إنجازات رياضية تحتسب ضمن إطار الألعاب الأولمبية.

ومن أبرز الأمثلة التاريخية على تحدي النساء لهذه القيود، تبرز شخصية "سينيسكايا" من إسبرطة، التي تُعد أول امرأة تسجل رسمياً كبطلة أولمبية في عام 396 قبل الميلاد، بعد أن أشرفت على تدريب فريقها في سباق العربات الرباعية وحققت الفوز، وقد شكل هذا الإنجاز تحدياً مباشراً للتصور السائد آنذاك، والذي كان يحصر المجد الرياضي في الرجال فقط، وأثار جدلاً واسعاً حول مكانة المرأة في المجتمع اليوناني القديم.

 

من إسبرطة إلى مانيلا... مسيرة تمكين النساء في الرياضة

بعد إنجاز سينيسكايا في الألعاب الأولمبية، برزت شخصية نسائية أخرى من إسبرطة تُدعى "يوريليونيس"، التي استطاعت أن تحقق الفوز مرتين في سباق العربات الثنائية، لتحل محل سينيسكايا وتوسع نطاق مشاركة النساء في رياضات الفروسية، وقد ساهمت هذه الإنجازات في ترسيخ حضور المرأة في المنافسات الرياضية، رغم القيود الثقافية التي كانت سائدة آنذاك.

وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، شهدت مشاركة النساء في الرياضة نمواً ملحوظاً، مدفوعة بالتحولات الاجتماعية والتربوية التي رافقت عصر التنوير والتحديث، وفي عام 1974، أسست اللاعبة الأمريكية بيلي جين كينغ منظمة رياضية نسائية غير ربحية، هدفت إلى تعزيز مشاركة النساء في الرياضة، وتأسيس مجتمع تعليمي يدعم المساواة بين الجنسين في هذا المجال، وقد شكل هذا الحدث نقطة تحول في تاريخ الرياضة النسائية، حيث انتقل الخطاب من مجرد المطالبة بالمشاركة إلى بناء مؤسسات داعمة ومؤثرة.

وفي عام 1976، أُدرجت رياضة كرة اليد النسائية ضمن فعاليات الألعاب الأولمبية الصيفية، مما شكل اعترافاً رسمياً بأهمية الرياضة النسائية على المستوى الدولي، وفي عام 1987، أُقيمت أول بطولة عالمية للنساء في رفع الأثقال، وهو تطور نوعي في تمثيل النساء في الرياضات القوية التي كانت حكراً على الرجال، أما في عام 1996، فقد استضافت مدينة مانيلا في الفلبين أول مؤتمر آسيوي حول النساء والرياضة، بمشاركة نحو 150 ممثلاً من 12 دولة آسيوية، حيث ناقش المؤتمر "إعلان مانيلا" الذي دعا إلى تعزيز دور النساء في الرياضة، وتوفير بيئة داعمة لمشاركتهن الفاعلة.

تُظهر هذه المحطات التاريخية أن تطور الرياضة النسائية لم يكن مجرد نتيجة لتغيرات مؤسسية، بل نتاج نضالات فردية وجماعية، ساهمت في إعادة تعريف موقع المرأة في المجال الرياضي، وتحقيق تقدم ملموس نحو المساواة والتمكين.

 

واقع محفوف بالعقبات

شهد العراق في عام 1956 انطلاقة أولى نحو تأسيس بنية تربوية رياضية مخصصة للنساء، في إطار جهود محدودة لتعزيز مشاركتهن في المجال الرياضي، وفي عام 1992، تأسس الاتحاد الرياضي النسائي العراقي بمبادرة من اللجنة الأولمبية الوطنية العراقية، وبدعم من الهيئة الرياضية العليا، بهدف تطوير الرياضة النسائية على مستوى المحافظات، وقد شمل ذلك إنشاء أربعة مراكز شبابية نسائية في محافظات الأنبار، النجف، كربلاء، والموصل، لتوفير بيئة تدريبية وتشجيعية للفتيات.

ورغم هذه المبادرات، واجهت مشاركة النساء في الرياضة تحديات اجتماعية وأمنية كبيرة، إذ منعت العديد من الأسر بناتها من الانخراط في الأنشطة الرياضية، نتيجة لمخاوف تتعلق بالوضع الأمني، وانتشار الجماعات المسلحة، والطائفية، فضلاً عن حوادث التحرش والعنف الجنسي، وقد أدت هذه الظروف إلى تراجع ملحوظ في مشاركة النساء في الرياضة، خصوصاً في المؤسسات التعليمية والجامعات، وذلك حتى عام 2003.

وبعد سقوط نظام البعث في العراق، شهدت نسبة مشاركة النساء في الرياضة تحسناً نسبياً، إلا أن هذا التحسن ظل محدوداً بفعل استمرار الاضطرابات السياسية والأمنية، التي جعلت من البيئة الرياضية غير مستقرة وغير آمنة في كثير من الأحيان، وقد ساهمت الحروب والاحتلال والنزاعات الداخلية في تقويض البنية التحتية الرياضية، وأثرت سلباً على حضور النساء في هذا المجال.

 

واقع متغير ونماذج ملهمة

إن تحقيق المساواة الجندرية في المجال الرياضي، والحد من التمييز ضد النساء، يتطلب مراجعة جذرية للبُنى الثقافية والاجتماعية السائدة، وقد بدأت المجتمعات المتقدمة تدريجياً في دعم الرياضة النسائية، إدراكاً منها لأهمية تمكين النساء وتعزيز مشاركتهن في الحياة العامة، إلا أن هذا التحول لم يكن سهلاً، بل استغرق سنوات طويلة من النضال، نظراً لتغلغل الذهنية الذكورية في البنية المجتمعية، وتداخلها مع الأعراف والتقاليد التي تحد من حرية النساء وتُقيد أدوارهن.

رغم التحديات البنيوية التي تواجهها المجتمعات في منطقة الشرق الأوسط، استطاع إقليم كردستان أن يُثبت حضوره في مجال الدفاع عن حقوق النساء، عبر تبني سياسات ومبادرات تتجاوز البنية الذكورية التقليدية التي تهيمن على العديد من السياقات الإقليمية، وقد انعكس هذا التوجه في مختلف القطاعات، بما في ذلك المجال الرياضي، حيث لعبت الرياضة النسائية دوراً متنامياً في تعزيز مكانة المرأة داخل المجتمع الكردي.

لقد حظيت الرياضة النسائية في إقليم كردستان باهتمام متزايد من قبل المؤسسات المدنية والمنظمات الثقافية، التي سعت إلى بناء جيل رياضي نسائي يتمتع بالاستقلالية والقدرة التنافسية. وقد ساهم هذا الدعم في خلق بيئة تربوية جديدة تُعزز من مشاركة النساء في الرياضة، وتُعيد تشكيل التصورات المجتمعية حول دور المرأة في المجال العام.

بعد انتفاضة عام 1991، شهد إقليم كردستان تحولات اجتماعية وسياسية مكنت النساء من الانخراط بشكل أوسع في المجال الرياضي، حيث بدأت الأندية الرياضية تفتح أبوابها أمامهن تدريجياً، وفي عام 2004، تأسس نادي كرة القدم النسائي في مدينة جومان، والذي يضم اليوم 13 لاعبة من مدن مختلفة في إقليم كردستان، ويُعد مثالاً حياً على إصرار النساء على مواصلة اللعب وتحقيق أحلامهن، رغم ما يواجهنه من تحديات اجتماعية ومضايقات.

وفي السياق ذاته، تأسست أول أكاديمية لكرة القدم النسائية في مدينة السليمانية بدعم من منظمة CCPA الدنماركية، كما أُنشئت أكاديمية "السلام" في بغداد بالتعاون مع نادي البيشمركة، وفتحت أبوابها لجميع الفئات العمرية ومن مختلف المحافظات العراقية دون تمييز، وقد هدفت هذه المبادرات إلى تأسيس قاعدة رياضية نسائية متينة، وتشجيع النساء على ممارسة كرة القدم في بيئة آمنة وشاملة، وقد تقدمت أكثر من 125 لاعبة بطلبات للانضمام إلى الأكاديمية، ما يعكس حجم الإقبال والطموح لدى العراقيات في هذا المجال.

تأسست منظمة "زيما" في عام 2016 في إقليم كردستان، لتكون أول هيئة رياضية على مستوى العراق تُعنى بشكل مباشر بتطوير الرياضة النسائية، وقد شكلت هذه المبادرة نقطة تحول في مسار تمكين النساء رياضياً، من خلال دعم الفتيات والشابات وتشجيعهن على الاستفادة من قدراتهن في مختلف أنواع الرياضات، وتأهيلهن للمشاركة في البطولات المحلية والدولية.

وقد أثمرت جهود "زيما" عن مشاركة فعالة في بطولات شباب غرب آسيا خلال عامي 2017 و2018، حيث مثّلت اللاعبات المنضويات تحت مظلة منظمة العراق رسمياً في هذه المنافسات، ويُعد هذا الإنجاز دليلاً على قدرة النساء في إقليم كردستان على تجاوز العقبات البنيوية، والوصول إلى مستويات رياضية متقدمة، رغم التحديات الثقافية والمؤسسية التي لا تزال تحد من مشاركة النساء في الرياضة على نطاق واسع.

وفي عام 2019، افتتح نادي "سيرواني نوي" مركزاً تدريبياً لكرة القدم المصغرة للفتيات، وقد حقق هذا المركز تطوراً ملحوظاً في الأداء الرياضي، ليصبح اليوم من بين المؤسسات الرياضية النسائية البارزة في إقليم كردستان، ويُعد هذا الإنجاز مؤشراً على تنامي الاهتمام بالرياضة النسائية، رغم التحديات البنيوية التي لا تزال تعيق تطورها على المستوى الوطني.

 

بين غياب الدعم وتطلعات التغيير

وبحسب التشريعات الصادرة عن وزارة الثقافة والشباب، يفترض أن تضم إدارة كل نادٍي رياضي عضواً نسائياً على الأقل، إلا أن هذا الشرط لا يُطبق فعلياً في معظم الأندية، إذ تشير المعطيات إلى أن نسبة تمثيل النساء في الهيئات الإدارية للأندية الرياضية لا تزال منخفضة، رغم وجود كفاءات نسائية رياضية عالية على مستوى العراق، تفوق في بعض الحالات نظراءهن من الذكور.

نتيجة لذلك، تلجأ العديد من اللاعبات إلى البحث عن فرص خارج البلاد، في ظل غياب بيئة رياضية مؤسسية داعمة داخل العراق. كما أن تزايد عدد خريجات كليات التربية الرياضية لا يقابله انخراط فعلي في الأندية، حيث تُستبعد النساء من أدوار التدريب والإدارة، رغم أهليتهن لذلك، ويُعزى هذا التراجع إلى غياب الإرادة الحكومية، وافتقار النظام الرياضي إلى بنية تنظيمية عادلة وشاملة.

إن معالجة هذه الإشكاليات تتطلب إصلاحاً مؤسسياً شاملاً، يضمن تمثيلاً نسائياً فعّالاً في إدارة الأندية، ويُعيد بناء النظام الرياضي على أسس من العدالة الجندرية والكفاءة المهنية، بما يُسهم في تمكين النساء رياضياً، وتعزيز حضورهن في المجال العام.

ولتحسين واقع النساء في المجال الرياضي، من الضروري تنظيم مهرجانات رياضية للأطفال منذ سن مبكر، بحيث يشارك الفتيان والفتيات بشكل متساوٍ في الأنشطة الرياضية، مما يُعزز شعورهم المشترك بالقدرة والكفاءة، ويُرسّخ فكرة أن الرياضة حق متاح للجميع. كما ينبغي أن تُدمج هذه الفعاليات ضمن المراحل التعليمية الأساسية، لأن الفصل بين الجنسين في المراحل الأولى يُكرّس التمييز ويمنح الذكور فرصًا أكبر في المجال الرياضي.

ورغم هيمنة الثقافة الذكورية والبُنى السلطوية الأبوية، لا تزال النساء يواصلن مشاركتهن في مختلف أنواع الرياضات، في إطار تحولات اجتماعية واسعة وجهود مستمرة لتحقيق المساواة الجندرية، إلا أن هذه المساعي تواجه عقبات كبيرة، أبرزها القيود المجتمعية التي تُفرض على النساء الرياضيات، ومنعهن من ممارسة بعض أنواع الرياضات بحجة أنها "لا تناسب النساء" أو أنها "رياضات ذكورية".

كما أن القطاع التربوي لا يؤدي دوره المطلوب في دعم حضور النساء في المجال الرياضي، إذ تُمارس في بعض المؤسسات التعليمية سياسات فصل رياضي على أساس النوع الاجتماعي، مما يُضعف فرص الفتيات في التدريب والمنافسة. كذلك، فإن الجهات الرسمية لا تبدي الجدية الكافية في دعم الرياضة النسائية، ولا توفر بنية تنظيمية عادلة تُعزز من دور النساء في الأندية والمراكز الرياضية.

لذلك، هناك حاجة ملحة لرفع مستوى الوعي المجتمعي، وتقديم الدعم الفعلي للنساء الرياضيات، من أجل إيصال الرسالة الرياضية التي تُكرّس قيم العدالة والمساواة، وتُسهم في بناء مجتمع أكثر شمولاً وإنصافاً.