من صمت السلاح إلى سلام الفكر... نداء لشرق أوسط متحرر

في المجتمعات التي أنهكتها الحروب وتفككت بسبب النزاعات المسلحة، لا يكفي أن يسود صمت البنادق حتى نقول إن السلام قد تحقق، فتوقف إطلاق النار هو مجرد بداية، يخفي في طياته احتقانات سياسية واجتماعية عميقة تحتاج إلى معالجة حقيقية وشاملة.

مقال بقلم الإعلامية اليمنية ماجدة طالب

إن السلام لا يُقاس فقط بانتهاء المعارك أو بوضع السلاح جانباً، بل يتحقق عبر رؤية متكاملة تُبنى على أسس واضحة وآليات فعالة تضمن الاستقرار والعدالة. هذه المجتمعات الخارجة من دوامة الحروب تحتاج إلى مرحلة ما بعد الصمت العسكري، وهي مرحلة تتطلب ضماناً حقيقياً لحقوق المتضررين، سواء كانوا أفراداً فقدوا أحباءهم بسبب القتل على أساس الطائفية، أو ضحايا الفساد، أو من تعرضوا لانتهاكات جسيمة، خصوصاً النساء والأطفال.

ولا يمكن الحديث عن السلام دون عدالة اجتماعية صارمة، تشمل محاكمة الجناة وجبر ضرر الضحايا، فالعدالة هنا ليست مجرد إجراء قانوني، بل ركيزة أساسية لأي اتفاق سلام حقيقي، لذلك يجب أن يتم استبعاد أي مجرمين أو فاسدين من هياكل المنظومة التي سيتشارك فيها الجميع مستقبلاً، حتى تُبنى الثقة وتتحقق المصالحة.

ومن ضرورات السلام كذلك، خلق بيئة آمنة لجميع الأطراف، تضمن لهم الاستقرار والطمأنينة، قد يتجسد هذا في إطار سياسي جديد مثل النظام الكونفدرالي، إذا وجدت مجتمعات مستقلة ترغب في ذلك، حيث يُضمن لكل طرف حقوقه ضمن كيان مشترك يحترم الخصوصية والتنوع.

أطلق القائد عبد الله أوجلان مؤخراً دعوةً للسلام والمجتمع الديمقراطي، لكنها لم تكن وليدة اللحظة، بل جاءت تتويجاً لمسارٍ طويل من المراجعات الفكرية العميقة التي تبنّاها منذ سنوات، فقد انتقل من مفهوم الدولة القومية الكردية إلى رؤية جديدة تُعرف بالكونفدرالية الديمقراطية، وهي رؤية تحررية لا تنطلق من العنف أو الانفصال، بل من تأسيس مجتمعات لا مركزية، متحررة، ومبنية على التعايش والسلم.

وإن دعوة السلام والمجتمع الديمقراطي تعبير عن رؤية جديدة يمكن وصفها بأنها دعوة للتعقّل، تشكّل بديلاً مدنياً سلمياً عن منطق الصراع والعنف، فإذا ما التقطت الدولة التركية هذه اللحظة التاريخية، فإنها قد تكون بداية لمسار سياسي حقيقي نحو التهدئة والاستقرار، ومن هنا، فإن هذه الدعوة، بتوقيتها وأهدافها، يمكن أن تُحدث تغييراً جوهرياً في المسار السياسي، وتفتح المجال أمام حوار وطني شامل قائم على أسس ديمقراطية وسلمية.

هذه المبادرة ليست مجرد دعوة سياسية، بل مشروع تحرري شامل، يسعى إلى إعادة صياغة النضال الكردي في إطار سلمي بعيد عن السلاح والصراعات العسكرية، وهي رؤية يمكن أن تكون نموذجاً لحركات سياسية كثيرة في المنطقة، تلك التي تبحث عن التحرر دون الانزلاق في فخ العنف القومي أو الانفصال، الذي غالباً ما يجلب العنف المضاد من مختلف الأطراف.

القائد أوجلان لم يطرح هذا المشروع فقط من أجل الكرد أو لمناطق محددة كأجزاء كردستان الأربعة، بل قدمه بوصفه حلاً شاملاً للشرق الأوسط، بما فيه من توترات وصراعات وحروب، فالفكرة تتناسب بشكل خاص مع الدول المتصدعة مثل اليمن وغيرها، التي تعاني أزمات معقدة وانقسامات داخلية.

الكونفدرالية الديمقراطية، من منظور القائد أوجلان، ليست مجرد هيكل سياسي، بل فلسفة تعيد تعريف العلاقة بين الشعوب والدولة، فهي تطرح دولة موحدة، بجيش وسياسة خارجية موحدين، ولكنها تحتضن تعددية ثقافية وفكرية ومذهبية داخل إطار ديمقراطي واسع، تسمح هذه الدولة بتعدد الأقاليم واختلافاتها، دون أن تتخلى عن وحدة السيادة والهوية المشتركة.

ضمن هذا السياق، تتكامل الرؤية مع مبادئ العدالة الانتقالية، التي ناقشها في العديد من الورش والحوارات، والتي تضمن إنصاف المتضررين وبناء مؤسسات جديدة قادرة على تجاوز إرث العنف والانقسامات.

بعد إطلاق القائد عبد الله أوجلان دعوته للسلام والمجتمع الديمقراطي، بادرت منصة السلام والحرية في أوروبا إلى تنظيم حملة تطالب بلقائه، ضمت نخبة من الأكاديميين والمثقفين والسياسيين والصحفيين، كما توجّه وفد من هذه المنصة إلى تركيا، مؤلف من نحو 39 شخصية عامة، سعياً لعقد لقاء مباشر معه.

هذه المبادرة لم تكن الأولى من نوعها، إذ شهدت السنوات الماضية تحرّكات مشابهة من قبل منظمات حقوقية في أوروبا وحتى في الولايات المتحدة، مطالبة بالإفراج عن القائد أوجلان، وما يجعل هذه المبادرة مختلفة هو أنها لاقت ترحيباً من عدة جهات دولية، بما فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أصوات سياسية داخل تركيا نفسها.

لكن السؤال الذي يُطرح هو: هل يمكن لهذه الزيارات والمبادرات أن تؤدي فعلاً إلى الإفراج الجسدي عن القائد عبد الله أوجلان؟

الاحتمال وارد، خاصة إذا نشأ توافق سياسي داخل البرلمان التركي، وتبنّت أحزاب مؤثرة الدعوة إلى إطلاق سراحه كجزء من مسار العدالة الانتقالية، فالقائد أوجلان قدّم رؤية سياسية واجتماعية متجددة، لا تقتصر فقط على الحقوق الكردية، بل تمتد لتشمل قضايا النساء والمجتمعات المتنوعة في الشرق الأوسط، ما يجعل فكره أساساً لحل أوسع في المنطقة.

في ظل ما تعانيه تركيا من أزمة اقتصادية خانقة وتراجع داخلي، فقد تجد في هذه الرؤية سبيلاً لتجديد الحياة السياسية، وتجاوز الجمود الذي تعيشه، والترحيب الدولي أيضاً يضفي زخماً قوياً للمطالبة بإطلاق سراحه، ويحول الأمر من قضية داخلية إلى قضية ذات أبعاد إقليمية وعالمية.

الزيارات والمبادرات إذاً لا تمثل مجرد رسالة رمزية، بل يمكن أن تصبح نقطة تحوّل حقيقية، إذا ما اقترنت برؤى اقتصادية وسياسية عميقة تشمل تركيا وسوريا والمنطقة بأكملها، فمشروع الكونفدرالية الديمقراطية الذي اقترحه القائد أوجلان، قد يكون مدخلاً لحل شامل، يُعيد التوازن إلى مجتمعات متصدعة ويمنحها فرصة جديدة للعيش المشترك ضمن أطر سلمية.

في ظل المرحلة المفصلية التي تمر بها المنطقة وتركيا على وجه الخصوص، تأتي هذه المبادرة في توقيت بالغ الأهمية، حيث تتقاطع الأزمات السياسية والعسكرية مع أزمات اقتصادية حادة، ما يجعل من البحث عن حلول سلمية وعقلانية ضرورة ملحّة لا تحتمل التأجيل.

ما يضفي مزيداً من الجدية والعمق على هذه المبادرة هو أنها مدعومة من جهات فاعلة وواضحة، وقد استندت إلى مؤتمر حزب العمال الكردستاني الذي أعلن فيه عن إلقاء السلاح، وهي خطوة ليست مجرد موقف إعلامي أو عاطفي للاستهلاك المحلي، بل مبادرة تحمل ثقلاً مؤسساتياً وسياسياً حقيقياً.

إن غياب المعلومات الدقيقة لا يمكن اعتباره مجرد أمر عابر أو ظرف مؤقت، بل هو نتيجة تراكمات طويلة من التعتيم، يقابلها تراكم آخر أكثر أهمية في الخبرة التفاوضية التي بناها القائد أوجلان عبر سنوات عديدة، خلال هذه السنوات، لم يطرح مجرد شعارات عاطفية أو خطاب شعبوي، بل عمل على صياغة رؤى متعددة وعميقة، تتضمن مفاهيم سياسية واجتماعية وإنسانية متكاملة.

في حال توفرت الشفافية، خاصة من خلال السماح بالزيارات واللقاءات معه، فإننا أمام فرصة حقيقية لتمكينه من الانخراط الفعلي في العملية السياسية، ومن خلال هذا الانخراط، سيظهر للعلن حجم التجربة التي صاغها، لا سيما في السياق الكردي السوري، حيث أثمرت رؤاه في بناء نظام الإدارة الذاتية وسط أزمة متصدعة وحرب مدمرة.

الشفافية، إذاً، لا تُطلب بمعزل عن سياقها، بل تأتي عبر كشف تلك التجارب الميدانية، والاستماع المباشر إلى القائد أوجلان، والوقوف على أولويات سياسية سبق أن وضعها بعمق منذ أكثر من عقدين، فهي ليست رؤية لحظة، وليست نابعة من عاطفة مؤقتة، بل من مسار فكري وتجريبي امتد لأكثر من 20 أو 25 عاماً، وطبّق عملياً على الأرض، ما يمنحها مصداقية أعلى من أي بحث متأخر عن الشفافية.