من المغول إلى طالبان... تاريخ مرير لحرق الكتب في أفغانستان

شهدت أفغانستان مراراً حرق الكتب وتدمير ثقافتها؛ من المغول حتى طالبان، إلا أن هذا الانتهاك تكرّر من جديد مع عودة طالبان.

بهاران لهيب

أفغانستان ـ كانت أفغانستان، بتاريخها المليء بالتحوّلات، دائماً في ملتقى الثقافات والحضارات المتنوّعة، وقد شهدت عبر العصور تبادلاً للمعرفة والأفكار، لكنها في المقابل تعرّضت مراراً لتدمير إرثها الثقافي والعلمي، ومن أكثر صور هذا الدمار إيلاماً ظاهرة حرق الكتب، التي تكرّرت في مراحل مختلفة من تاريخ أفغانستان، تاركةً جراحاً عميقة في جسد ثقافتها.

تُعدّ إحدى أوائل الحالات المسجّلة لإتلاف الكتب والوثائق العلمية في أفغانستان هي غزو المغول في القرن الثالث عشر الميلادي، فحين دخلت جيوش جنكيز خان إلى بلخ وغزنة، لم يُقتل الآلاف من البشر فقط، بل أُحرِقت المكتبات والمراكز التعليمية والدينية، ونُهبت الوثائق التاريخية، ويُقال إنّ المكتبة الشهيرة في "غزنة"، التي ازدهرت في عهد السلطان محمود الغزنوي، دُمّرت تماماً في تلك الفترة.

وفي العهد الصفوي، وبعده خلال النزاعات الطائفية والعرقية، أُتلفت كتب تعود لمذاهب دينية مختلفة أو نصوص علمية، وقد استمر هذا النمط، ببطء ولكن بشكل متواصل، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، خاصةً أثناء الصراعات الداخلية بين القبائل والأمراء الأفغان.

ومع دخول الاستعمار البريطاني إلى المنطقة واندلاع الحروب الأفغانية ـ البريطانية الثلاث في القرن التاسع عشر، تعرّضت المكتبات والمراكز التعليمية لأضرار جسيمة، ففي كثير من الحالات، عمدت القوات الأجنبية، بحجج أمنية أو بغرض كبح بروز مقاومة فكرية، إلى جمع المصادر المحلية وإتلافها، وقد شكّلت هذه السياسة ضربة أخرى للذاكرة الثقافية الأفغانية.

وفي القرن العشرين، ومع بداية عهد أمان الله خان (1919ـ 1928)، بدأت جهود لتحديث الثقافة والتعليم والمكتبات في أفغانستان، فتم تأسيس المكتبة العامة في كابول، التي احتضنت مخطوطات نفيسة، لكن هذا الاستقرار الثقافي لم يدم طويلاً.

مع الانقلاب الذي قادته الحكومة الموالية للاتحاد السوفيتي عام 1978 ودخول الجيش السوفيتي إلى أفغانستان، دخلت البلاد مرحلة من الحرب والدمار الثقافي، فإلى جانب قتل المفكرين والأساتذة، تم جمع وإتلاف العديد من الكتب تحت ذريعة "معاداة الأيديولوجيا الاشتراكية"، وخلال هذه الفترة، تحوّلت بعض المكتبات إلى مراكز دعائية، مما قضى على أجواء الحرية الفكرية.

ومع صعود التنظيمات الجهادية إلى السلطة عام 1991 وبداية الحروب الأهلية، تحوّلت كابول إلى أنقاض، وتعرضت العديد من المكتبات، منها مكتبة جامعة كابول، لأضرار جسيمة، كما نُهبت ودُمّرت مكتبات خاصة تعود لعلماء وأساتذة وكتّاب، وتم إتلاف الكتب ذات المضامين غير الدينية أو الفلسفية، وكذلك مؤلفات الكاتبات، بشكل متعمّد، ويُقال إن نحو مليون كتاب تم إتلافها خلال تلك الفترة.

ومن أكثر الفصول ظلمةً في تاريخ حرق الكتب في أفغانستان، فترة حكم طالبان الأولى ما بين 1996ـ2001، حيث قامت بتوجهاتها المناهضة للحضارة وعدائها للعلوم الإنسانية والفنون، بإغلاق العديد من المكتبات، ففي المكتبة العامة الأفغانية، تم تدمير عدد كبير من الكتب إما بسبب "عدم توافقها مع الشريعة" أو لكونها مكتوبة بلغات أجنبية، كما دُمّرت مراكز ثقافية مثل الأرشيف الوطني، جامعة كابول، ومركز معلومات النساء.

وقد حظرت طالبان في تلك الفترة حتى بعض الكتب الدينية التي لم تكن متوافقة مع تفسيراتها الخاصة، أما المؤلفات الفلسفية، والأدب الحديث، والتاريخ، والنتاجات الغربية، وحتى الشعر المعاصر خاصة كتابات النساء، فقد وُصفت بأنها مضلِّلة ومعادية للإسلام، وفي بعض المناطق، تعرّض الناس للعقاب لمجرّد احتفاظهم بكتاب.

بعد سقوط طالبان عام 2001، بدأت محاولات لإعادة بناء المؤسسات الثقافية في أفغانستان، أُعيد فتح المكتبة العامة بمساعدة منظمات دولية، وأُطلقت مشاريع رقمنة المخطوطات بالتعاون مع اليونسكو وعدد من الجامعات الغربية، كما تم ترميم مكتبة جامعة كابول تدريجياً وتزويدها بآلاف الكتب الجديدة، وشرع العديد من الكُتّاب الأفغان، في الداخل والخارج، في تأليف وترجمة ونشر أعمال حديثة.

ورغم هذه التطورات، ظل انعدام الأمن والفساد الإداري عقبتين رئيسيتين أمام تطوير المكتبات وتعزيز ثقافة القراءة، فقد كانت المكتبات العامة نادرة في الولايات، وكانت أغلب المدارس محرومة حتى من أبسط المواد التعليمية.

ومع عودة طالبان إلى السلطة في آب/أغسطس 2021، انطلقت موجة جديدة من القمع الثقافي وحرق الكتب، مرة أخرى، أُغلِقت المراكز الثقافية والمكتبات، وتعرضت الكتب لرقابة صارمة، وهناك تقارير عن حرق كتب وُصفت بأنها "غير إسلامية"، أو تناولت مواضيع كحقوق المرأة، الفلسفة، علم الاجتماع، والتاريخ المعاصر.

في هذه المرحلة، أبدت طالبان عداءً أيضاً للتقنيات الحديثة، فإلى جانب الحرق التقليدي للكتب، تم حذف المحتويات الرقمية، إغلاق المكتبات الإلكترونية، وحجب مصادر المعلومات، هذه الإجراءات تمثل تحدياً هائلاً لجيل جديد من الأفغان الذين حصلوا خلال العقدين الماضيين على فرص في التعليم والمعرفة.

ورغم كل الصعوبات، فإن المقاومة الثقافية ما زالت حيّة في أفغانستان، بعض النشطاء، الكُتّاب، وأمناء المكتبات داخل البلاد وخارجها، يواصلون جهودهم لحماية الكتب، ونشر المواد التعليمية سراً، بل وحتى إنشاء مكتبات متنقلة، من بين هذه المبادرات "المكتبة السرّية للنساء" وتوزيع الكتب في المناطق النائية باستخدام وسائل بدائية، وهي نماذج رائعة من الصمود.

إنّ تاريخ حرق الكتب في أفغانستان هو قصة حزينة لكنها مليئة بالفخر بمقاومة ثقافية لشعب، فدائماً ما تنبعث من رماد الكتب المحترقة أصوات تُبقي الحقيقة، الوعي، والأمل حيّة، وطالما هناك شخص واحد يحتفظ بكتاب وسط الظلام، فلن تتمكن أي سلطة من إخماد الفكر بالكامل.