معاً للنضال في وجه كابوس الاغتصاب الجاثم على صدور النساء
في ظل واقعٍ اجتماعي يرسّخ العنف ضد النساء ويفرض عليهن قيوداً باسم التقاليد والسلطة، يبرز صوت المرأة كصرخة للحرية والكرامة، ويستمر النضال في مواجهة كابوس الاغتصاب، وحتى يصبح العدل هو القاعدة، لا الاستثناء.

مقال بقلم الكاتبة والصحفية هيفيدار خالد
تطرق القائد عبد الله أوجلان في "مانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي" إلى جملة من القضايا المصيرية المرتبطة ببنية المجتمع، وعلى رأسها قضية المرأة، باعتبارها جوهراً في المعادلة الحضارية. تناول بعمق ما تعيشه النساء من ويلات، في ظل ثقافة اغتصابية متجذرة، فرضتها ذهنية ذكورية سلطوية، تتغلغل في مفاصل الحياة اليومية، لتخنق المرأة تحت وطأة القمع، والظلم، والاستعباد، وكأنها قدر حتمي مكتوب على جبينها.
تنتشر ظاهرة الاغتصاب في المجتمع ككابوس مرعب، وتتعزز بشكل مطرد مع تعمّق أزمة الحداثة الرأسمالية، التي تقف اليوم على حافة الانهيار البنيوي. هذا النظام الذي يعيش حالة اختناق داخلي، لم يجد سبيلاً للاستمرار إلا عبر اضطهاد النساء، واستهداف نضالاتهن، وضرب أنشطتهن الحيوية، بل وتحويل أجسادهن إلى سلع تُستخدم لإطالة عمر نظام يترنّح.
الرأسمالية المعاصرة تدفع بالمجتمع نحو هوّة العبودية والتخلف، وتستهدف في ذلك المرأة كرمز للحياة والنماء، لتصيب المجتمع في جوهره. لقد نشأ المجتمع الإنساني بجهد المرأة، وعبر تقاليدها الأمومية، غير أن النظام المهيمن يسعى عبر استهداف النساء إلى تحطيم هذه الروح الجماعية، وضرب القيم التشاركية التي تشكل صمام أمان المجتمعات.
ولأن النظام الذكوري يعرف أن المرأة حاملة القيم الأخلاقية، والمجتمعية، فإنه يُسخّر كل أدواته لترسيخ ثقافة العنف ضدها. فالقوانين، والتشريعات الدينية، والمؤسسات الأمنية، وحتى وسائل الإعلام، تتواطأ بشكل مباشر أو غير مباشر، من أجل حماية الجلّاد ومعاقبة الضحية. وليس أدلّ على ذلك من انتشار بيوت الدعارة المرخصة التي تدار برعاية رسمية، في مشهد يعبّر عن انهيار كل القيم المجتمعية الأصيلة.
في مجتمعات تُجرّم المرأة وتبرّئ المعتدي، لا تقف معاناتها عند حدود التحرش أو الاعتداء الجنسي، بل تتجاوزها إلى معاناة طويلة الأمد مع الصدمة، والعزلة، ووصمة العار التي تطاردها، وتحاصرها في تفاصيل يومها، إلى أن تصبح فكرة الموت أرحم من واقع بلا كرامة. وتُجبر المرأة، في هذه الحالة، على حمل تبعات ما فُرض عليها، دون أن تمتلك حق الاعتراض أو حتى التعبير عن الألم.
القوالب الذكورية النمطية التي تترسخ في المجتمعات الأبوية ترسم أدواراً صارمة للرجال والنساء، وتنتج علاقات مشوّهة، تتغذى على السيطرة والإذلال. فالمجتمع لا يعبّر عن مسؤولية حقيقية تجاه جرائم قتل النساء، بل تمرّ هذه الجرائم مرور الكرام، كما لو كانت أحداثاً عرضية. فيما تُشرعن التكنولوجيا الحديثة ثقافة العنف، وتُستخدم كأداة لتمرير الذهنية الذكورية وتعميمها بين الأفراد.
من الضروري أن ندرك أن قتل النساء هو اغتصاب لروحهّن وكيانهنّ، وليس مجرد جريمة فردية. إنه العنف المتجذر في البنية الذكورية، والذي يبدأ منذ لحظة الولادة، حين يُحتفى بالذكر، وتُقابل الأنثى بخيبة، وتُربّى على الخضوع والحياء والخوف. يصبح الذكر "مكسباً" للعائلة، فيما تُعتبر الأنثى عبئاً وعاراً يجب التخلص منه أو تقييده مدى الحياة.
اطلعتُ مؤخراً على مقال في صحيفة "العرب" تناول مسألة تفضيل الطفل الذكر، وأشار إلى ظاهرة الإجهاض الانتقائي للفتيات بفضل انتشار أجهزة الموجات فوق الصوتية، ليتحول جسد المرأة إلى ساحة لجرائم لا تُرى. هذه الظاهرة وصفتها الفيلسوفة النسوية الأمريكية ماري آن وارن عام 1985 بأنها "إبادة على أساس الجنس"، فيما صاغ الاقتصادي أمارتيا سين عام 1990 مصطلح "الفتيات المفقودات"، في إشارة إلى ملايين الفتيات اللواتي لم يولدن قط، أو توفين مبكراً نتيجة الإهمال والتمييز.
ولا تزال الفتيات اليوم يواجهن الزواج المبكر، والانتحار، والقتل، وكل أشكال الانتهاك، خصوصاً في البيئات التي تعيش تحت نيران الحروب، أو تحت قبضة الجماعات المتطرفة التي تسعى إلى إخضاع المرأة كلياً، وسلبها حتى حقها في أن تكون إنسانة. هذه التنظيمات تفرض تشريعات قروسطية، وقوانين ظالمة، تحاصر المرأة، وتختصرها في جسد، أو أداة للإنجاب، وتحرمها من أي دور سياسي أو مجتمعي فعّال.
الرجل هو المتحكم في كل تفاصيل حياة المرأة، من طريقة لباسها، إلى قراراتها اليومية، إلى طعامها وشرابها. يعنّفها جسدياً ونفسياً، ويستغل موقعه الاجتماعي أو الوظيفي لإخضاعها. وإن رفضت أياً من طلباته، حتى وإن كان مجرد إعداد فنجان قهوة، أو الامتناع عن علاقة حميمية، فإنها تُواجه بالعنف والضرب، وتُترك وحيدة بين الجدران، باكية، منهارة، بلا قدرة على الدفاع عن نفسها.
وإن تجرأت على المقاومة، فإن النتيجة غالباً ما تكون القتل، أو السجن، أو التهميش، فقط لأنها دافعت عن إنسانيتها. المرأة تُربّى على التبعية، وتُعلَّم أنها لا تستطيع العيش دون رجل. يُقال لها "أنتِ ضعيفة، لا تملكين من أمرك شيئاً، ومكانكِ تحت جناح رجلٍ يصرخ فيكِ ويصفعكِ، ولا يحق لك الرد، لأن كلمة واحدة قد تكلّفك حياتك".
في مجتمعات الشرق الأوسط، يمكن أن يؤدي رفض المرأة لأبسط طلبات الرجل إلى تصفيتها الجسدية. يُنظر إليها كآلة متعة، خادمة بلا أجر، تعمل 24 ساعة في اليوم، دون شكر أو تقدير. لا تملك وقتاً لنفسها، ولا تجرؤ على الشكوى، لأنها تعيش بين أوامر لا تنتهي، وصرخات ترعبها، ونظرات تلاحقها. كلما ارتفعت نبرة صوته، ارتفعت دقات قلبها خوفاً.
تقدّم المرأة كل شيء للرجل مجاناً، أفضل ما تملك من وقت، وجهد، وحب، واهتمام، ومع ذلك تُحرَم من أبسط حقوقها. يُختزل جسدها في وسيلة لتلبية رغبات الرجل، ولا يُعترف بإرادتها. صراخها، طلب النجدة، دموعها، كلها تُقابل بالتجاهل أو التهكّم. كأنها خُلقت فقط لتخدم، وتربّي الأطفال، وتعد الطعام، دون أن تتذوق طعم الكرامة.
في قاموس الذكورة السائدة، تُعتبر المرأة "شرف العائلة"، وإذا خرجت عن الأعراف، فإن العقوبة تكون القتل، أو العزل، أو تجريدها من إنسانيتها. ويواصل النظام الرأسمالي إنتاج هذا القمع بصيغ "عصرية"، فيصمّم الأزياء النسائية لتُرضي الرجال، لا المرأة نفسها. المطلوب أن تكون جذابة، لطيفة، مثيرة، تلفت الأنظار، لا أن تكون حرة أو واعية أو واثقة.
نرى اليوم كيف يُستغل جسد المرأة في كل مشهد، في الإعلانات، في مسابقات الجمال، في عروض الأزياء. تُختزل المرأة في صورة جسد، ويُهمَّش عقلها، ونضالها، وتضحياتها. الحداثة الرأسمالية تتربّح من هذا الاستغلال، وتحوّل جسد المرأة إلى سلعة تدرّ المليارات. في المقابل، لا تنال المرأة إلا الإهانة، والشيئنة، والتهميش.
ورغم كل ذلك، فإن نضال المرأة مستمر. لقد أثبتت المرأة، خصوصاً في التجربة الكردية، أنها قادرة على المواجهة. نضال المرأة الكردية نموذج حيّ للتحرر من التبعية. استطاعت حركة حرية المرأة الكردية أن تتحدى وصاية الرجل، وأن تصعد إلى مراكز القيادة، وأن تدير المعارك الفكرية والمجتمعية والعسكرية، بكل جرأة واقتدار.
من خلال تنظيمها ونضالها المتواصل، كسرت المرأة الكردية الصورة النمطية التي رسّختها الذكورية، وأكدت أن النساء قادرات على التغيير. حرّرن أنفسهن من الخوف، وواجهن المجتمع، ودفعن ثمناً باهظاً، لكنه كان ثمناً للتحرر الحقيقي. واليوم، يشهد التاريخ على عظمة نضال النساء، وعمق عطائهن.
نعم، الطريق إلى القضاء على ثقافة الاغتصاب يمرّ بالنضال المنظّم، والعمل اليومي، ووعي مجتمعي جديد يُعيد للمرأة كرامتها. لا تحرر حقيقي للمجتمع دون تحرر المرأة. ولا يمكن الحديث عن العدالة، في ظل استمرار التمييز، والقهر، والظلم، بحق نصف المجتمع.
المرأة ليست تابعة، بل شريكة، وندّة، وعقل، وإرادة. إنها جوهر الحياة، وروح المجتمع. ولهذا، لا بد أن يستمر النضال، حتى لا تبقى أي امرأة تحت ظل كابوس الاغتصاب، وحتى يصبح العدل هو القاعدة، لا الاستثناء.