ما بين انتظار طويل واستعدادات بالعودة... عراقيل تبدد فرحة النازحين في غزة
استعدادات مكثفة وآمال معلقة بعد تعثر تنفيذ بعض بنود المرحلة الأولى من صفقة التبادل وتأجيل عودة النازحين.
نغم كراجة
غزة ـ في أجواء مفعمة بالأمل والترقب، عاش آلاف النازحين الفلسطينيين مشهداً استثنائياً وسط محاولات متكررة لإعادة وصل ما انقطع منذ نحو عام ونصف من التهجير القسري والمعاناة الممتدة، على الرغم من حالة الترقب والفرحة التي تخللت استعدادات الأهالي للعودة إلى مناطقهم في شمال قطاع غزة إلا أن فرحتهم ما لبثت أن اصطدمت بعراقيل وتعنت إسرائيلي، حال دون تنفيذ الدفعة الثانية من صفقة التبادل في المرحلة الأولى التي بدأت في التاسع عشر من كانون الثاني/يناير الجاري.
صفقة العودة... عقبة في اللحظة الأخيرة
بدأت المفاوضات على صفقة التبادل بتوافق بين الطرفين على ثلاث مراحل، تضمنت المرحلة أولها إطلاق سراح ثلاث أسيرات إسرائيليات مقابل العشرات من الأسرى الفلسطينيين، وبينما تمت الدفعة الأولى بسلاسة نسبية، تعثرت الدفعة الثانية بسبب خلاف يتعلق بالأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود، حركة حماس لم تتمكن من تسليمها في الوقت المحدد مع بقية المجندات الأربع المحتجزات، ما أدى إلى تعطيل عودة النازحين من الجنوب إلى الشمال، الذين احتشدوا قرب الحواجز منذ يومين.
ورغم انطلاقهم بأمل كبير، فإن الانتظار الطويل لم يحمل معه إلا المزيد من البرد والمعاناة، تجمّع آلاف الرجال والنساء والأطفال قرب الحاجز، يفترشون الأرض في برد الشتاء القارس بعد أن فكّوا خيامهم المهترئة استعداداً للرحيل، آملين أن تُفتح الطريق قريباً لكن إسرائيل تمسكت بشرطها، بأنه لا عودة للنازحين إلا بعد إتمام تسليم الأسيرة.
انتظار طويل يكسوه الأمل
وسط هذا المشهد، برزت الصحفية أمل حبيب، التي قررت أن توثق هذا اليوم التاريخي، منذ ساعات الصباح الأولى شقت طريقها مشياً على الأقدام من شرق القطاع إلى وسط المدينة، متحدية التعب والانتظار الطويل "منذ إعلان وقف إطلاق النار وأنا أعيش لحظة فارقة، لحظة أشبه بالحلم بعد ما يقارب سنة وأربعة أشهر من الحرب والدمار، هذا اليوم يمثل بداية الأمل، أن نقرأ لافتة مكتوب عليها "غزة ترحب بكم" فهو شعور لا يمكن وصفه، اليوم نعود إلى مناطقنا، وغداً سنعود إلى فلسطين كلها، هذا ليس مجرد يوم عادي، إنه فصل جديد يُكتب في تاريخ شعبنا".
ووصفت المشهد الذي شهدته صباحاً "رأيت أطفالاً يركضون نحو الحاجز بأحلامهم الصغيرة حاملين أعلام فلسطين، رأيت نساءً تحملن فوق أكتافهن إرثاً من المعاناة، ورجالاً يرفعون الأعلام الفلسطينية بشموخ لا يضعفه القهر، المشهد كان مهيباً، مليئاً بالأمل رغم الغصة، الجميع ينتظر لحظة العبور".
استعدادات كبيرة وفرحة مؤجلة
لم تكن التحضيرات للعودة عادية، إذ شهدت مناطق الشمال تجهيزات مكثفة لاستقبال النازحين من الجنوب، قام الأهالي بتنظيم أنفسهم وتجهيز الباصات لنقل أغراض الوافدين، وعلت الأصوات في الشوارع مرددة الهتافات التي تعبّر عن الفرح والتمسك بالعودة.
ورغم ذلك لم يكن المشهد كاملاً، مع تقدم ساعات النهار بدأ التوتر يخيم على المكان حيث بدأت القوات الإسرائيلية بإطلاق النار على النازحين الذين أصروا على التقدم نحو الحاجز، مطالبين بحقهم في العودة، وأوضحت أمل حبيب "الناس كانوا يحملون أمتعتهم البسيطة على أكتافهم، والبعض الآخر كان يجرّ عربات صغيرة محمّلة بما تبقى لهم من ذكريات، المشهد كان مفعماً بالأمل لكن سرعان ما تبدد حين سمعنا أصوات الرصاص".
الصحفيون الذين توافدوا لتغطية الحدث لم يكن دورهم مقتصراً على التوثيق فحسب، بل كانوا جزءاً من المشهد، حول ذلك بينت أمل حبيب "نحن كصحفيين كنا شهوداً على الإبادة التي تعرض لها شعبنا، واليوم نحن هنا لتوثيق لحظة العودة، هذا دورنا أن نكون شهوداً على التاريخ بكل تفاصيله، أن ننقل الحقيقة للعالم".
حكاية ألم تصر على الأمل
من جانب آخر قالت ميسون الغولة، التي اختلطت مشاعرها بين الفرح والوجع حيث فقدت والدتها وشقيقتها وعدداً من أشقائها في قصف عنيف استهدف منزلهم، تعيش اليوم مشاعر متناقضة "لا أستطيع وصف فرحتي وأنا أقترب من رؤية والدي المصاب بعد أن كان بعيداً في الجنوب لكنه ألم كبير أنني لن أستطيع أن أرى بقية أفراد عائلتي الذين دفنوا أمام عيني".
وأضافت "أتيت اليوم وأنا أحمل الأمل في أن أستعيد ما تبقى لي من عائلتي، كنا نستعد منذ يومين لاستقبال النازحين، وقد جهزنا الباصات والأماكن لاستيعاب الجميع لكن إسرائيل أبت أن تمنحنا لحظة الفرح هذه، أنا هنا تحت أشعة الشمس، أنتظر أن يتحقق الوعد وبرغم كل الألم الذي عشته، لن أسمح لليأس أن يتسلل إلى قلبي".
وأكدت ميسون الغولة "نحن هنا لنقول للعالم إننا متمسكون بحقنا في العودة حتى لو لم يتحقق ذلك اليوم، فإننا لن نفقد الأمل، هذه الأرض لنا، وسنعود إليها مهما طال الزمن".
حكاية الأمل المستمرة
وبالرغم من التحديات التي واجهها النازحون واستمرار تعنت إسرائيل في تنفيذ باقي بنود المرحلة الأولى من الصفقة، يبقى الأمل مشتعلاً في قلوبهم، مشهد النساء اللواتي ترفعن الأعلام، والأطفال الذين يركضون بحماس نحو الحاجز، والرجال الذين يحملون أمتعتهم وذكرياتهم، هو دليل على أن هذا الشعب لن يستسلم.
إن مشهد النازحين الذين يفترشون الأرض بانتظار لحظة العبور إلى الشمال هو صورة تختصر معاناة الشعب الفلسطيني وصموده في وجه الاحتلال، قد تتعثر الخطوات أحياناً، وقد تطول ساعات الانتظار لكن هذه اللحظات هي التي تصنع التاريخ ففي قلب الألم، ينبثق الأمل، وفي مواجهة التحديات، يولد الإصرار على الحياة.
اليوم قد لا تكون الفرحة مكتملة لكن أصداءها تتردد في قلوب الجميع، حاملة معها وعداً بأن العودة قريبة، وأن الغد يحمل معه حرية منتظرة.