خديجة ليست وحدها... جرح واحد بألف صوت

مقال بقلم الصحفية حنان حارت
لم تكن قصة خديجة سوى واحدة من آلاف القصص التي تنزف بصمت. لكن جرحها الذي احتاج 88 غرزة، لم يكن على وجهها فقط، بل كأنه شق في ضمير وطن، صرخة لم تكن مجرد انفجار شخصي، بل صدى جماعياً لوجع تتقاسمه نساء كثيرات، ممن جرحن ثم نسين.
خديجة، شابة مغربية، لم تكن تتوقع أن يتحول رفضها لمضايقات شاب ثري، كان تحت تأثير الكحول، إلى كابوس دائم.
في لحظة طائشة، كسر زجاجة خمر ووجهها إلى وجهها، تاركاً خلفه جروحاً عميقة احتاجت إلى 88 غرزة لإغلاقها.
لكن الضربة لم تترك أثراً جسديا فقط، كانت أشبه بوصمة في الروح، لا تمحوها الأيام ولا تطبطب عليها الكلمات.
ومع ذلك، لم يكن الألم الأكبر في الجرح نفسه، بل في النظرة المجتمعية التي ترى في الحادث "خلافا عابراً"، أو "حادثاً عرضيا"، لا أكثر.
خديجة ظهرت بعد الحادث في مقطع مصور انتشر على نطاق واسع، صوتها كان مكسوراً، لكنها كانت واقفة، تساءلت فيه بحرقة "واش آ عباد الله، خسر ليا وجهي، وعطيتوه شهرين؟!".
كانت صرختها أشبه بمرآة تعرض أمام المجتمع... والمجتمع لم يحب ما رأى.
لكن "مولات 88 غرزة" ليست حالة معزولة، بل هي وجه آخر لوجع جماعي تعيشه نساء كثيرات، لم تنصفهن العدالة، أو لم يكن طريق الإنصاف كافياً لترميم الكسر.
ورغم الإصلاحات التشريعية التي شهدها المغرب، خاصة مع دخول القانون 103.13 حيز التنفيذ منذ 2018، لا تزال الهوة واسعة بين النصوص وبين ما تعيشه النساء على أرض الواقع.
ففي الكثير من الحالات، تفرغ القوانين من فعاليته بسبب تأويلات اجتماعية، أو تعقيدات إجرائية، أو ضعف التفعيل في مؤسسات الحماية والاستجابة.
وليس المغرب استثناء. ففي بلدان المنطقة، من مصر إلى تونس، ومن سوريا إلى لبنان والعراق، تسجّل سنوياً آلاف حالات العنف ضد النساء.
لكن الجزء الأكبر منها لا يصل إلى المحاكم، والجزء الذي يصل يفرغ غالباً من طابعه الجنائي، ليعامل كـ "جنحة بسيطة" بدل أن يُواجه بما يستحق من صرامة.
في ثقافات لا تزال فيها بعض الصور النمطية عن النساء راسخة، تتهم الضحية أحياناً بـ"الاستفزاز"، أو يبرّر للجاني بأنه كان "منفعلا"، أو "تحت الضغط"، وكأن جسد المرأة يمكن أن يكون ضحية غضب، بلا تبعات.
لكن ما تطلبه خديجة ليس انتقاماً، بل إنصافاً، ولا تسعى إلى تعاطف عابر، بل إلى وعي دائم بأن جسد المرأة ليس مباحاً، وأن الأمان ليس ترفاً، بل حقاً أساسياً.
صرختها، في جوهرها، ليست مأساة فردية، بل نداء من أجل وطن أكثر عدلاً، لا تكتفي عدالته بالنصوص، بل تترجم إلى شعور فعلي بالأمان.
ومع أن خيبة الحكم الابتدائي كانت موجعة، لا يزال الأمل ممكناً. فقد شهد المغرب حالات مماثلة تطورت فيها الأحكام بفعل ضغط الرأي العام، كما حدث مع "طفلة تيفلت" عام 2023، و"خديجة الفقيه بنصالح" في عام 2021، حين تحولت العقوبات من أشهر معدودة إلى سنوات.
نحن لا ننتظر مأساة أخرى كي نصحو، بل نرجو أن تتحول صرخة خديجة إلى لحظة مفصلية، لحظة تستنفر الضمير الجماعي، وتدعو الإعلام، والمدرسة، والمجتمع المدني إلى التربية على الرفض، لا على التبرير، وعلى الوقاية، لا على الإنكار.
لقد آن الأوان لقانون إطار شامل لمناهضة العنف، يستند إلى المعايير الدولية، ويراعي خصوصية السياق المغربي والعربي، ويضمن أربع ركائز: الوقاية، الحماية، الزجر، وجبر الضرر.
وإلى أن يتحول جرح خديجة إلى مجرد ذكرى من ماض نرفض تكراره، سيظل صوتها، ومعه أصوات آلاف النساء المعنّفات، يذكرنا بأن العدالة لا تقاس فقط بالأحكام، بل بقدرتها على شفاء الروح، لا الجسد فقط.
لنجعل من هذه الصرخة بداية، لا نهاية.
لأن خديجة ليست وحدها.
ولأننا جميعاً معنيّون...
فهل ننتظر 88 غرزة أخرى لنصغي من جديد؟