في يومهم العالمي… مهرجان فلسطيني في غزة يعيد للطفولة صوتها المسلوب
بمناسبة يوم الطفل العالمي، نظم المهرجان السينمائي في غزة ليكشف للعالم حجم ما سُلب من طفولة الأطفال خلال عامين من الحرب، ويمنحهم مساحة لاستعادة أصواتهم وسط الركام.
نغم كراجة
غزة ـ في مشهد استثنائي يختلط فيه الفن بوجع الطفولة، احتضن قطاع غزة أمس الخميس 20 تشرين الثاني/نوفمبر مهرجاناً سينمائياً حمل رسالته من بين ركام الحرب وأوجاع النزوح، نظّمته مؤسسة مشهراوي بالتعاون مع برنامج حكمت فلسطين، في خطوة تهدف إلى إعادة الاعتبار لحق الطفل الفلسطيني في أن يرى العالم بعين مختلفة، وأن يكون شريكاً في صياغة روايته لا مجرد ضحية تتناقلها نشرات الأخبار.
جاء المهرجان متزامناً مع يوم الطفل العالمي، ليؤكد أن ثقافة الصورة قادرة على أن تكون فعل مقاومة بقدر ما هي فعل حياة، وأن أطفال غزة الذين حُرموا من كل أشكال الاستقرار ما زالوا قادرين على الحلم رغم تجريدهم من حقوقهم الأساسية طوال عامين كاملين من الحرب.
الفعالية التي أقيمت وسط حضور لافت من الأطفال، بدت أقرب إلى مساحة تنفّس جماعي في مجتمع أنهكته الكوارث، ومسعى واعٍ لانتشال الصغار من عبء ما عاشوه، ولو لساعات قليلة.
"صرخة احتجاج على كل ما سُلب من الطفولة"
تقول الأخصائية الاجتماعية وإحدى القائمين على المهرجان دينا مرزوق إن هذه الخطوة لم تكن مجرد حدث فني بل صرخة احتجاج على كل ما سُلب من الطفولة في غزة. وتضيف بصوت يختلط فيه الغضب بالأمل "هذه الفعالية جاءت تزامناً مع يوم الطفل لتثبت للعالم أجمع أن الطفل في غزة لديه حقوق قد سلبها جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدار عامين".
وأوضحت أن "أطفال غزة محرومون من التعليم واللعب والصحة والأمان بشكل تام، كبروا مئة عام في عامين بين جمع الخُطَب وتعبئة جالونات المياه والبحث عن تكية إغاثية تُطفئ جوعهم وسط انعدام المقومات الحياتية والأساسية، نحن نواصل محاولاتنا في سبيل النهوض ولو قليلاً بواقع الطفل الفلسطيني رغم أن الإمكانيات شبه معدومة، لكننا نؤمن أن أي مساحة تمنحهم فرصة التعبير قادرة على إحداث فرق ولو بسيط".
حديثها يكشف عمق التحول القاسي الذي أصاب الطفولة في غزة؛ طفولة مُختصرة ومُستنزفة، لم تعرف اللعب إلا في فترات محصورة، ولم تذق طعم المدرسة إلا سنوات قليلة قبل أن تُحوَّل الممرات الصفية إلى ملاجئ إسعاف أو خطوط نزوح، ولعل ما يميّز المهرجان السينمائي أنه لم يكن مجرد نشاط ترفيهي إنما منصة ظهرت فيها الأفلام القصيرة التي صنعها الأطفال أو شاركوا في إعدادها كحكايات صغيرة، لكنها تحمل قوة غير عادية في سرد الألم.
"الفن اعترافاً بأنهم موجودون"
روان ياسين، إحدى المشاركات في المهرجان، تحدثت عن الدور العميق الذي حمله هذا الحدث بالنسبة للأطفال، معتبرة أن الفن ضرورة لإنقاذ ما تبقى من أرواحهم الصغيرة "ما رأيناه اليوم لم يكن مجرد عرض أفلام بل كان محاولـةً لإعادة الاعتبار لصوت الطفل، لصراخه الصامت الذي لم يسمعه العالم بعد، الأطفال الذين شاركوا في هذا المهرجان لم يأتوا ليُظهروا مواهبهم فقط، بل ليقولوا إنهم موجودون، وإنهم ما زالوا قادرين على أن يحكوا ما جرى لهم بلغتهم، بطريقتهم، وبخيالهم الذي يحاول الاحتلال قتله كما يقتل أجسادهم".
وتصف مشاهد الأطفال في القاعة وهم يتابعون صوراً تشبه حياتهم اليومية؛ خيم من النايلون، وجوه شاحبة، ضحكات متعبة، وذكريات من مدارس اندثرت، مشيرة إلى أن التفاعل العاطفي كان كبيراً بعض الأطفال بكى، وآخرون ابتسموا حين رأوا أنفسهم أو أصدقاءهم على الشاشة، وكأنهم يستعيدون جزءاً صغيراً من حضورهم في هذا العالم "الفن بالنسبة لهم ليس ترفيهاً بل اعترافاً بأنهم موجودون، وأن ما مرّوا به يستحق أن يُحكى".
"نحن أطفال غزة حُرمنا من كل شيء"
اللافت في المهرجان كان حضور الأطفال أنفسهم كمتحدثين أمام الكاميرا والجمهور، يعلنون حقوقهم التي حُرموا منها، من بين هؤلاء الطفلة رويدا أبو شعبان، التي وقفت بثبات رغم صغر سنها، وقالت بكلمات تختصر الكثير مما عاشه أطفال غزة "نحن أطفال غزة حُرمنا من كل شيء، حتى التعليم أصبح أمنية، أريد أن أخبر العالم أنني أريد أبسط حقوقي، وأبحث عنها لننتزعها من رحم الحصار والألم، وأعود إلى مدرستي، وألعب، وأعيش حياة مثل باقي الأطفال في العالم، بدون خوف وبدون أصوات الصواريخ".
حديثها بدا أكبر من عمرها، لكنه واقعي تماماً في مجتمع أُجبر فيه الأطفال على أن يكبروا قبل أوانهم، كلماتها أثّرت في الحضور، وعكست الحقيقة التي يحاول هذا المهرجان أن يعرّيها أمام العالم "أطفال غزة لا يريدون أن يكونوا رموزاً للحزن، بل أطفالاً لهم حقوق واضحة وبسيطة، حقوق يفترض أن تكون بديهية وليست مطلباً يُنتزع من بين الركام".
فيما ظهرت الطفلة ليان شبات التي بدت وكأنها تحمل في عينيها ذاكرة حرب تفوق سنوات عمرها، قالت بصوت واثق رغم الارتباك الطفولي "أنا ليان، عمري عشر سنوات، لم أعُد أعرف شكل يومٍ عادي مثل باقي الأطفال. كل ما أعرفه هو الركض عند سماع القصف، والبحث عن ماء صالح للشرب، وانتظار المساعدات حتى نأكل، حين شاهدت الأفلام شعرت أن لنا حقّاً أن نعيش مثل كل أطفال العالم. أريد فقط أن أذهب للمدرسة، أن ألعب، وأن أستيقظ يوماً دون خوف. أتمنى أن يرى العالم ما نمر به، لأننا تعبنا من الحرب… تعبنا كثيراً".
الفن شكل من أشكال المقاومة
في تفاصيل المهرجان، عرضت مسرحية قصيرة التي أعدها أطفال، وتناولت الحياة اليومية داخل المخيمات ومراكز الإيواء، وسردت قصصاً عن الفقد، وعن لحظات الفرح البسيطة التي يتمسكون بها رغم كل شيء.
ورغم أن المهرجان أقيم في ظروف صعبة للغاية، إلا أنه استطاع أن يخلق حالة من التفاعل الاجتماعي والثقافي، وأعاد طرح سؤال جوهري: كيف يمكن للفن بكل بساطته وعمقه أن يتحول إلى شكل من أشكال المقاومة؟ الإجابات التي قدّمها هذا الحدث جاءت واضحة في وجوه الطفلات ومشاركات الضيفات؛ الفن في غزة ليس رفاهية وإنما وسيلة لحماية الروح، وسرد الحقيقة، ومواجهة محاولات محو الذاكرة الجمعية.
اختُتم المهرجان برسالة جماعية مؤداها أن أطفال غزة رغم كل ما عاشوه ما زالوا قادرين على رفع أصواتهم، وأن المجتمع المحلي قادر على خلق مبادرات تعيد الاعتبار لحقوقهم المسلوبة حتى في ظل انعدام الإمكانيات وانهيار كل مظاهر الحياة الطبيعية. تقول دينا مرزوق "نحن نعرف تماماً أن مثل هذه المهرجانات لن تنهي الحصار، ولن تعيد البيوت المهدمة لكنها تفتح نافذة صغيرة يرى منها الطفل نفسه، ويشعر عبرها أن صوته مسموع ولو لمرة واحدة. وهذا وحده كافٍ لنبقى نحاول".
اختُتمت الفعالية، تاركة خلفها أثراً عميقاً في نفوس الأطفال والحضور، وداعية العالم للنظر بجدية أكبر إلى حقوق الطفل الفلسطيني التي ما زالت تُنتهك يومياً، في وقت يبذل فيه المجتمع المدني كل ما يستطيع، بإمكانيات تكاد تكون معدومة، كي يبقى الطفل طفلاً، ولو في مساحة صغيرة من الضوء وسط عتمة الحرب.