عدالة مغيبة في ليبيا... النساء بين الاختطاف والتعذيب والقتل
بينما تحتفي شعوب العالم باليوم العالمي للعدالة الجنائية الدولية، تبقى الليبيات تواجهن مشهداً قاتماً من الانتهاكات المستمرة، قتل خارج القانون، واغتصاب يُستخدم كسلاح لترهيبهن وإخضاعهن دون مساءلة، أو قضاء مستقل، وحدها الجثث تتكلم، والصور المسربة تشهد.

ليبيا ـ في السابع عشر من تموز/يوليو من كل عام، يُحيي العالم اليوم العالمي للعدالة الجنائية الدولية، والذي يصادف الذكرى السنوية لاعتماد نظام روما الأساسي عام 1998، المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، وتُعد هذه المناسبة فرصة لتجديد الالتزام العالمي بمحاربة الإفلات من العقاب وضمان مساءلة مرتكبي الجرائم الخطيرة، لكن في ليبيا، لا يزال الحديث عن العدالة أشبه بترف، وحق الضحايا أقرب إلى حلم مؤجل وسط واقع ملوث بالعنف الممنهج، وصمت الدولة، وتواطؤ المجتمع.
"العمو" وواقعة رهف محمد نورالدين الكرشودي
في واحدة من أبشع الجرائم التي هزّت الرأي العام الليبي، وثّقت تسجيلات مصورة تعذيب واحتجاز الطفلة رهف محمد نورالدين الكرشودي، البالغة من العمر 15 عاماً، على يد قائد الميليشيات المسلحة أحمد الدباشي، المعروف بلقب "العمو"، في مدينة صبراتة. تظهر رهف الكرشودي في الفيديوهات مربوطة بسلاسل حديدية، في مشهد لا يوصف إلا بكونه تجسيداً للعنف الجنسي والسياسي ضد القاصرات.
توفيت رهف الكرشودي في 21 شباط/فبراير 2024، بعد فترة قصيرة من احتجازها وتعذيبها، دون أن تُتخذ أي إجراءات قانونية بحق الجاني. رغم صدور تقارير أممية تُحمّل أحمد الدباشي مسؤولية جرائم تهريب البشر، وصدور مذكرة توقيف دولية بحقه منذ عام 2017، وإدراجه على قائمة العقوبات الأممية، لا يزال طليقاً، محصناً بشبكة علاقات خارجية، أبرزها ارتباطه بالمخابرات الإيطالية، حيث استُخدم ضمن مشاريع أوروبية تهدف إلى تقليص تدفق المهاجرين من ليبيا مقابل المال والدعم السياسي.
الجريمة هنا لم تكن فقط ضد طفلة، بل ضد العدالة ذاتها، وهي ليست حادثة منفردة، بل امتداد لنمط من الانتهاكات التي تحولت فيها بعض القيادات المسلحة إلى أمراء حرب، محميين بدلاً من أن يكونوا مطلوبين للعدالة.
رؤيا إبراهيم عبد القادر الأجنف... من الحلم إلى القبر
رؤيا الأجنف، فتاة لم تبلغ 17 عاماً، اختُطفت من شقتها في مشروع الهضبة بطرابلس مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2024. لم يُعرف عنها شيء لأسابيع، ثم أشهر. ظهرت والدتها في مقاطع مرئية مؤلمة تناشد وتستغيث، تبحث عن ابنتها في وجوه الناس وعلى أبواب الوزارات والمنظمات، ولكن دون جدوى.
جاء الخبر المفجع لاحقاً بعد سقوط عبد الغني الككلي المعروف بـ "غنيوة" آمر جهاز "الدعم والاستقرار"، حيث أُعلن عن اكتشاف مقبرة جماعية في منطقة أبو سليم، تضم عشر جثث، من بينها جثة رؤيا، التي وُجدت محترقة ومدفونة في قبر ضحل. اعترف أفراد تابعون للجهاز بقيادة بلقاسم الككلي نجل "غنيوة"، بمسؤوليتهم عن الجريمة ضمن سلسلة من الاعترافات الصادمة.
تم استدعاء والدة رؤيا إلى موقع المقبرة دون أي تجهيز نفسي، ودون طبيب شرعي أو دعم إنساني. كانت الأم واقفة وحيدة، تبكي بحرقة، أمام حفرة تحوي بقايا ابنتها، في دولة لا تفتح حتى تحقيقاً جدياً في مثل هذه الجرائم.
رهف بوغرارة، منى بوغالية، مليكة الحويل... نساء قُتلن لأنهن موجودات
شهدت ليبيا مطلع عام 2024 موجة من جرائم القتل الوحشية التي استهدفت شابات ليبيات بطرق مختلفة، لكن النتيجة واحدة الصمت الرسمي، والخذلان المجتمعي.
ـ رهف بوغرارة، من مواليد مدينة طرابلس، قُتلت برصاصة في الرأس وأخرى في العنق على يد مسلح، لأنه لم يتقبل اجتيازها له على الطريق.
ـ منى بوغالية ناشطة مدنية عُثر عليها مقتولة داخل منزلها في منطقة بئر الأسطى ميلاد بطرابلس، ويُعتقد أنها تعرضت للضرب والخنق على يد لص حاول سرقة منزلها.
ـ مليكة الحويل ناشطة في مجال حماية البيئة، توفيت بعد سقوط سيارتها من منحدر، إثر مضايقات متعمدة من سائق متحرش طاردها في الطريق.
هذه القصص تُبين كيف تحوّل وجود النساء في الفضاء العام إلى خطر، وكيف بات العنف ضدهن أداة للهيمنة، في ظل غياب أي رد فعل مؤسساتي أو مجتمعي يتناسب مع حجم الفاجعة.
نساء في مواقع القرار... مصيرهن واحد
ـ فريحة البركاوي عضوة المؤتمر الوطني العام وناشطة مدنية من مدينة درنة، اغتيلت في 17 تموز/يوليو 2014 عندما أطلق عليها مسلحون النار أثناء قيادتها لسيارتها. كانت معروفة بمواقفها المناهضة للتطرف، ومؤسسة في الاتحاد النسائي والهلال الأحمر، ولم يُفتح تحقيق شفاف في اغتيالها حتى اليوم.
ـ انتصار الحصائري ناشطة ثقافية ومدنية، عُثر على جثتها داخل صندوق سيارتها في طرابلس إلى جانب جثة خالتها، بعد اختفائهما عقب فعالية ثقافية. لم تُعرف الجهة المسؤولة، ولا نتائج التحقيقات.
ـ سهام سرقيوة نائبة بمجلس النواب وطبيبة نفسية، اختُطفت من منزلها في بنغازي في 17 تموز/يوليو 2019 بعد نشرها تصريحاً سياسياً اقتحمت مجموعة مسلحة منزلها، واعتدت على أسرتها، ثم اختفت منذ ذلك الحين. لا تُعرف حتى الآن أي معلومات عن مصيرها.
هذه الجرائم تُظهر أن النساء، حتى في مواقع القرار، لا يسلمن من العنف، بل يُستهدفن حين يرفعن أصواتهن، وفي المقابل تُغلق الملفات وتتلاشى التحقيقات وتظل العدالة غائبة تماماً.
الانتهاكات ليست حوادث فردية
وأكدت المحامية والحقوقية الليبية ريم البدوي (اسم مستعار حفاظاً على أمنها الشخصي)، أن النساء في ليبيا يعانين من موجة متصاعدة من الانتهاكات الجسيمة والتي ترتكبها بشكل رئيسي "الميليشيات المسلحة" و"أطراف النزاع"، في ظل غياب تام لسيادة القانون والعدالة.
وترى أن هذه الانتهاكات ليست حوادث فردية، بل جزء من نمط ممنهج من العنف القائم على النوع الاجتماعي، تستهدف النساء لكونهن نساء، وتُمارس كوسيلة للسيطرة والترويع والترهيب داخل مجتمع يعاني من انعدام الاستقرار السياسي والأمني.
وتضيف "هذه الانتهاكات تشكل انتهاكات صارخة لمبادئ حقوق الإنسان الأساسية التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يضمن في مادته 6 حق الحياة، وفي المادة 7 حظر التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وفي المادة 9 يحظر الاعتقال أو الاحتجاز التعسفي".
ولفتت إلى أنه "كما تخالف هذه الأفعال اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، بما في ذلك العنف الجنسي والاستغلال والاحتجاز التعسفي"، موضحةً "بالإضافة إلى ذلك، تشكل جرائم الاغتصاب والعنف الجنسي المرتكبة في سياق النزاع جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي صادقت عليه ليبيا".
وأشارت إلى أن "الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب تحظر بشكل مطلق استخدام التعذيب بأي شكل، بما في ذلك التهديد بالاغتصاب أو أي شكل من أشكال العنف النفسي أو الجسدي، وتُلزم الدول بضمان التحقيق الفوري والمحايد في جميع حالات التعذيب والمساءلة القانونية للمتورطين".
ولفتت إلى أن "التنفيذ الفعلي للقوانين الوطنية ما زال يواجه تحديات كبيرة بسبب هشاشة النظام القضائي، وعدم استقلاليته، وغياب آليات الحماية للنساء، بالإضافة إلى ثقافة الإفلات من العقاب التي تغذيها الظروف الأمنية غير المستقرة".
وبينت أن "الإخفاء القسري للنساء، الذي يشمل احتجازهن في أماكن سرية دون السماح لأسرهن بمعرفة مكان احتجازهن أو ظروف اعتقالهن، ينتهك المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ويُصنف كجريمة ضد الإنسانية عند ارتكابه كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي".
ونوهت ريم البدوي إلى أن "التعذيب الجسدي والنفسي للنساء، والتهديدات بالاغتصاب، والاستغلال الجنسي، تستخدم كأدوات للضغط والابتزاز والترهيب داخل مراكز الاحتجاز غير الرسمية التي تديرها الميليشيات".
وختمت حديثها قائلة "المرأة الليبية تستحق أن تعيش حياة كريمة وآمنة، وأن تحظى بحماية قانونية حقيقية تضمن لها حقوقها الإنسانية والسياسية والاجتماعية، بعيداً عن تهديدات الميليشيات والمخاطر اليومية. هذا يستلزم إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحاً عميقاً للنظام القضائي والأمني، فضلاً عن دعم المجتمع الدولي لتعزيز آليات المحاسبة، وتوفير الحماية للنساء الناجيات، وتمكينهن من ممارسة حقوقهن بحرية وكرامة".
مؤسسة حقوق الإنسان في ليبيا تطالب بتسريع إجراءات المحكمة الدولية
في ظل هذا الواقع المأساوي والمستمر الذي تشهده ليبيا من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لا سيما بحق النساء، تؤكد المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا على أهمية التحرك الجاد والفوري من أجل محاسبة مرتكبي هذه الجرائم البشعة، وتوفير العدالة للضحايا وعائلاتهم.
وترى أن اليوم العالمي للعدالة الجنائية الدولية ليس مجرد مناسبة رمزية للتذكير، بل هو منطلق ضروري للعمل الجاد والفعلي على الأرض، لمواجهة ظاهرة الإفلات من العقاب التي باتت تشكل عقبة رئيسية في سبيل تحقيق سلام دائم واستقرار حقيقي في ليبيا.
لهذا، جددت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان دعوتها الصريحة والحازمة إلى دعم استمرار ولاية تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا، لما لهذه التحقيقات من دور محوري في كشف الحقائق، وتوثيق الانتهاكات، وجمع الأدلة التي لا يمكن إنكارها أو التهرب منها، في بيئة لا تتمتع بالاستقلالية والحيادية اللازمة لإجراء مثل هذه التحقيقات. إن استمرار هذه الولاية يعني ضمان عدم تكرار استسهال الإفلات من العقاب، خاصة وأن ليبيا شهدت تدهوراً متزايداً في مؤسسات العدالة الوطنية، الأمر الذي يستدعي تدخلاً دولياً فاعلاً ومنسقاً.
كما طالبت المؤسسة بتسريع عمل مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في إصدار مذكرات التوقيف بحق المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن جرائم الاختفاء القسري، والتعذيب، والاغتصاب، والقتل خارج إطار القانون، وهي الجرائم التي لا تزال تُرتكب دون أن ينال مرتكبوها جزاءهم. إن البطء في إصدار هذه المذكرات لا يؤدي فقط إلى استمرار معاناة الضحايا وأسرهم، بل يبعث برسالة مدمرة إلى المجتمع، مفادها أن القانون يمكن تجاوزه وأن العدالة يمكن تأجيلها، مما يُشجع على المزيد من الانتهاكات.
ولا تقتصر دعوة المؤسسة على الجهات القضائية الدولية، بل تشمل السلطات الليبية نفسها، إذ تدعوها إلى التعاون الكامل والشفاف مع المحكمة الجنائية الدولية والهيئات الدولية ذات الصلة، والعمل على فتح جميع ملفات الجرائم المغلقة، خاصة تلك التي طالت النساء.
العدالة ليست شعاراً... بل التزام
العدالة لا تُعيد رهف محمد نورالدين الكرشودي، ولا رؤيا إبراهيم الأجنف، ولا رهف بوغرارة، ولا منى بوغالية، ولا مليكة الحويل، ولا فريحة البركاوي، ولا انتصار الحصائري، ولا سهام سرقيوة، لكنها على الأقل قد تُوقف قاتلاً قبل أن يُزهق حياة أخرى. قد تُرهب مغتصباً قبل أن يُكرر جريمته. قد تُخبر الأمهات بأن دماء بناتهن لم تُسفك عبثاً.