بشارة الحرية... صوت امرأة تنهض من تحت رماد الاضطهاد

"أجّلتُ الموت لأني كنتُ مضطرةً للبقاء على قيد الحياة لأواصل مسيرة أمي؛ مسيرة امرأةٍ كانت نوراً ومناضلة بيديها العاريتين في ظلام النظام الأبوي، أنا البشارة، بشارة الحرية للنساء اللواتي لا صوت لهن".

إسراء عزيزي

ليلاخ ـ تبدأ بشارة زندي من النقطة التي وجدت فيها لحياتها معنى؛ من اللحظة التي أدركت فيها أن الموت لا ينبغي قبوله "نشأتُ في مجتمعٍ فرض الموت على النساء، لكنني لم أُرِد الاستسلام لهذا المصير، هل سيتغير شيءٌ بموتي؟ كان عليّ أن أقاوم وألا أقع ضحيةً لنظام قتل النساء، عندما استعدتُ وعيي، أدركتُ أنه لا ينبغي أن أُهزم، لم أُرِد أن أدع هذا النظام الأبوي ينتصر".

 

جذور ودور الأمهات بداية نضال

كان لروناك والدة بشارة زندي دور في تربيتها، ولا يقتصر على توفير الاحتياجات الأساسية، بل امتد ليشمل غرس القيم والمبادئ التي تساعدها على أن تصبح شخصية مستقلة وواثقة وقادرة على مواجهة الحياة بتوازن خاصة في ظل نظام أبوي يهمش المرأة ويعتبرها متمردة ووقحة لمجرد مطالبتها بأبسط حقوقها.

قالت بشارة زندي "أردتُ أن أكون بشارة الحرية لنساء وطني، في يوم من الأيام، سُألت "من أنتِ؟" إذا أردتُ التحدث عن نفسي، فعليّ أن أبدأ بأمي، فهي كانت بدايتي، لقد وُلدتُ لامرأة اعتبرت نفسها إنسانةً كاملة، ليست امرأةً ناقصة عقلياً، امرأةً بلا مأوى، مليئةً بالهموم، امرأةً أميةً لا تقرأ ولا تكتب، لكنها مفكرةٌ عميقة، لم تعش أمي الحياة، بل ناضلت، وعلى الرغم من أنها كانت تُتهم دائماً بـ "التمرد" و"الفجور" في القرية، إلا أنها ألهمتني وألهمت الكثيرات من النساء".

وأضافت "أنا من شرق كردستان؛ أرضٌ غذّت في قلبها المناضلات، وقريةٌ زُهقت فيها أرواحٌ كثيرة في سبيل الحرية، لكن رغم كل هذا، لا يزال شبح النظام الأبوي يثقل كاهلنا، كانت النساء مناضلاتٍ بلا أسماء، كانت والدتي، روناك، واحدةً من نساء القرية المتمردات، سُمح لها بالدراسة حتى المرحلة الابتدائية، وبعد ذلك، لم تكن هناك مدرسةٌ ولا تصريحٌ لمواصلة تعليمها في المدينة".

 

امرأةٌ كانت منارة ومناضلةٌ في قلب النظام الأبوي

وعن معاناة أمها، أفادت بشارة زندي أن "روناك تعني النور؛ وكانت حقاً نور بيتنا، انشغلت في تربية إخوتها حتى لا يجد والداها عذراً لتزويجها، لكن القدر لم يكن رحيماً، بعد رفضها العديد من رجال القرية، أُجبرت على الزواج من رجل لم تلتقِ به قط، أُرسلت إلى قرية أخرى، وبعد عامين، ولدتُ".

وعن اسمها، قالت "أطلقت عليّ اسم "بشارة" أملاً منها أن أكون بشارة تحررها، لم يكن هناك أي اعتراض؛ كنت فتاة، و"كوني فتاة" لم يكن أمراً مهماً كثيراً، أحبتني روناك، سعت من كل قلبها لتربيتي، أرادت لي أن أدرس وأن يكون لي مستقبل مختلف عن مستقبلها، تمنت ذلك لنساء القرية أيضاً فقد كانت تجمع أمهات القرية الأخريات في الحقول، وفي خضم عملها، كانت تتحدث عن قيمة المرأة، وعن رعاية الفتيات، وعن بناء مدرسة لهن".

وأوضحت أنه "شيئاً فشيئاً، نبتت بذرة وعي روناك في قلوب النساء، وأصبحت الرغبة في إنشاء مدرسة للبنات مطلباً جماعياً، لكن رجال القرية استشاطوا غضباً، اعتبروا تصرفات روناك "وقحة" و"مُفْرِطة"، وتصاعدت الشكاوى، لذلك ضربها والدي مرات عديدة، ليس فقط لأنها دافعت عن ابنتها، بل لأنه لم يُرِدها أن تكون صوتاً للفتيات الأخريات، وأنا مجدة زنداي؛ ثمرة معاناة امرأة منحتني نورها في كل مرة، وشيئاً فشيئاً تلاشت".

 

"مواصلة تعليمي ومواجهة ثقافة كراهية النساء"

وعن معاناة والدتها في بناء مستقبل أفضل لها، قالت بشارة زندي "لم تستطع روناك إقناع السكان المحليين ببناء مدرسة، لكن بإصرارها، أرسلتني إلى المدينة، سكنتُ في منزل شقيقها في مريوان، وواصلتُ تعليمي حتى حصلتُ على شهادتي، كنتُ أزور القرية خلال العطل، لكن بُعد المسافة عنها تدريجياً جعلني أتخلى عن جزء من ثقافتها في مواجهة كراهية النساء، كنتُ أتعرف على عالم جديد؛ بدأتُ أفهم لماذا ناضلت روناك بشدة ولم تُرِد ليّ البقاء في تلك البيئة، كانت تردد دائماً "أنتِ ذكية، هذا المكان صغير جداً على نموكِ".

وأضافت "في السنة الأولى بعد تخرجي، قُبلتُ في جامعة طهران، لكن الالتحاق بالجامعة لم يكن سهلاً؛ كان عليّ كسب موافقة كل فرد من القرية، لأن استياء شخص واحد منها كان سيؤثر على والدي ويمنعني، روناك وحدها من يستطيع فعل ذلك؛ امرأة لم تستسلم قط، وكان من المفترض أن أكون بشرى حريتها".

 

"حُرقة وألم فقدان الأم ومواصلة النضال"

وعن مرض والدتها وتأثير ذلك على مسيرتها التعليمية، لفتت بشارة زندي "ذهبتُ إلى طهران، الآن أنا في بيئة أوسع، رغم أن الهياكل كانت نفسها، وكراهية النساء فيها متأصلة في نسيجها، وبعد حصولي على درجة البكالوريوس، أجبرني والدي على العودة إلى القرية، أردتُ أن أفعل شيئاً للقرية ونسائها، لأحافظ على أحلام روناك حية، لكن الأوان كان قد فات؛ كانت روناك مريضة، وحالتها تتدهور يوماً بعد يوم، كان نور القرية وأمل نسائها ينطفئان تدريجياً؛ كان هذا أمراً لا يُطاق بالنسبة لي".

وأضافت "لم تكن أمي فحسب، بل كانت معلمتي الأولى؛ أول من واجه هيمنة الرجال، وأنقذني من أن أكون ضحية للزواج المبكر، كنتُ أقرب صورة لروناك، كنتُ أموت معها، لم أصدق أنها رحلت، لكن الموت حل، بعد أشهر من المرض، ودعت روناك القرية، وودعت الحياة".

 

"رسالة أمي عهد حرية لفتيات القرية"

وعن تأثير رحيل والدتها عليها، قالت بشارة زندي "قبل وفاتها، اتصلت بيّ وقالت إنها تركت لي رسالة في أحد كتب محو الأمية، رحلت، ولم أعد متأكدة من أنني على قيد الحياة، امرأةٌ نُبذت لتمردها، أصبحت الآن موضع إعجاب حتى من الرجال، تقبّل الجميع أن القرية ستُخيم عليها حالة من الصمت بدون روناك، مرت شهور، وكنتُ أنهار، لم أعد ابنة روناك؛ ابنة أبٍ طلب مني الطاعة والصمت والاكتئاب".

وحول أسباب وفاة روناك، أوضحت "بعد خمسة أشهر من وفاة أمي، علمتُ فقط أنها ماتت بجراحٍ خفية، ضرباً وإذلالاً وصمتاً وكلماتٍ لامست روحها، لأنها لم تُربّني وفقاً لقواعد القرية، ولأنها كانت ترفض طلبات من يتقدمون لي في كل مرة، أصبحت هدفاً لعنف والدي وإساءة معاملته، لم تُقتل روناك بسبب المرض، بل بسبب قواعد القرية غير المكتوبة ورجالها، كلما فكرتُ في هذه الأمور، غرقتُ في الظلام أكثر فأكثر، ربما لو لم أكن أنانية، كثيراً ما لجأ عقلي إلى أفكار خطيرة منها أقتل والدي ثم أحرق نفسي، أو أحرق القرية بكل قوانينها".

وعن فحوى رسالة والدتها، قالت "على الرغم من أن الحزن سلبني قوتي؛ إلا أنني قررتُ أن أقرأ الرسالة قبل أي شيء آخر، ذهبتُ إلى مكتبتها الصغيرة، ومن بين الكتب التي استعارتها من فتيات القرية وتدربتْ عليها، وجدتُ كتاباً لمحو الأمية فيه رسالة بخط واضح وجميل، كتبت فيها أنتِ أملي في مواصلة هذه الحياة، أنتِ "بشرى الحرية" لنساء هذه القرية، ادعميهن قدر استطاعتكِ، نوران، ابنة زهرة، تتعرض لمضايقات من رجل لكنها تلتزم الصمت خوفاً، وروزيار، ابنة فاطمة، تحب الدراسة، لكنهم يريدون تزويجها، وكذلك جوانة، ابنة أسمر، تريد أن تصبح طبيبة لأنها فقدت والدتها أثناء الولادة، بسبب نقص الإمكانيات ووصولها متأخراً إلى المدينة، ونيان، ابنة فريدة، تريد أن تصبح محامية للدفاع عن حقوق المرأة، وأجرين، ابنة ستارة، تحلم بالسفر حول العالم لأنها تريد الهرب من بطش رجال القرية، وراحا، ابنة شوخان، تريد أن تصبح قاضية لتضع حداً لهذه الفوضى".

وأضافت "تضمنت الرسالة قائمة بآمال ومعاناة فتيات القرية، لم أعرف هل أبكي من هذه المسؤولية الثقيلة أم أفتخر بأمٍ كهذه، كما كتب في الرسالة أنتِ "بشارة الحرية" لهذه الأرض، والآن وقد عجزتُ عن ذلك، فحاولي".