استمرارية جنولوجي رغم النزوح القسري

جنولوجي "علم المرأة" هو علم الحياة التشاركية، علم براديغما الأمة الديمقراطية، الذي تطور واُنتج بيد النساء اللاتي تعملن وتسعين لإعادة النظر للعلوم الاجتماعية الهامة التي تتطور حالياً بعقل وذهنية الرجل السلطوي.

  مقال بقلم عضوة أكاديمية جنولوجي بإقليم شمال وشرق سوريا زهربيان حسين 

 

جميعنا يعلم بأن العلم ظهر لخدمة البشرية والطبيعة، لكنه بات يتحول رويداً رويداً لأكبر آلية مُنظمة لدمار وتفكك المجتمعات وإبادتهم، بدءاً من القنبلة الذرية مروراً بالأبحاث الأنثروبولوجيا لشرعنة عبودية العرق الأسود واحتلال أراضيهم لنهب خيراتها ووصولاً للكم الهائل من العمليات التجميلية للنساء تحت مسمى "الجمال" والتكاليف الباهظة لها. كل هذه الأمثلة ليست إلا القليل من تأثيرات تطور العلم الوضعي وأمثاله من العلوم المبتكرة بعقل الرجل والدولة والسلطة.

وبما أن المرأة المتضرر والمستهدف الأول لهذه السياسات وتأثيراتها، فالخلاص والحل سيكون بريادتها وعلمها. لذلك وجود امرأة واحدة على جغرافية مُعينة يدعي افتتاح مركز لأبحاث جنولوجي، فما بالكم بوجود عدد من نساء على أرضٍ بُنيت بيد النساء وبقيت آثارهن وتماثيلهن موجودة على البقعة الجغرافية منذ بداية البشرية إلى يومنا الحالي. عاشت النساء عليها بتقاليد وثقافة الآلهة الأم من بودوهيبا إلى ستار، عشتار وإنانا.

عفرين إحدى مقاطعات إقليم شمال وشرق سوريا التي تمت فيها أعمال جنولوجي منذ إخراج قوات النظام البعثي السابق منها وإعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية فيها.

بعد مدة ليست طويلة وبتاريخ الثاني من أيلول/سبتمبر عام 2017، تم افتتاح مركز أبحاث جنولوجي في عفرين وقامت عدة نساء بالعمل ضمن المركز والبدء بالأعمال التنظيمية والتدريبات الفكرية والأبحاث التاريخية والسيسيولوجية حول المنطقة وبالأخص المناطق الأثرية فيها وارتباطها بتاريخ وثقافة الآلهة الأم وآثار الحياة الكومينالية التي لاتزال موجودة إلى القرن الواحد والعشرين في أغلب مناطق إقليم شمال وشرق سوريا، وهذا دليلٌ قاطع على وجود حياةٍ تشاركية بين المرأة والرجل على هذه الجغرافية منذ الأزل.

من النساء الطليعيات اللواتي عملن بكل حب وعزيمة في مركز عفرين كانت المناضلة والصحفية "ناكيهان أكارسال" التي لها البصمة العلمية في جميع الأبحاث التي تمت في عفرين، فالأعمال التي قام بها المركز كثيرة لكن، نخص بالذكر "تاريخ عفرين ونواحيها، البحث الأركولوجي للمناطق الأثرية".

الناشطة ناكيهان أكارسال التي قالت "أريد أن أعيش حياة ذات معنى ونشاط كبير"، عمقت من مستوى "الانسجام بين الأيديولوجيا وعلم الاجتماع" وحولته إلى قوة حياة من خلال جنولوجي. لقد ربطت وجسدت جنولوجي، وهو صيغة كيفية بناء نسيج سوسيولوجيا الحرية خطوة بخطوة، في كل مجال وجانب من جوانب الحياة بجهودها وتركيزها المستمر، ومع إدراكها بأن أخلاقيات وفلسفة الحرية وتنمية ثقافة المجتمع الحر والتضحية والجهود في بناء ثورة المرأة ستؤدي إلى نتائج تاريخية واجتماعية، فقد بذلت طاقتها في كل مجال، وجعلت من علم وفلسفة جنولوجي الذي يسلط الضوء على طبيعة المرأة والمجتمع وتاريخها ومقاومتها، ويعطى للحياة معنى وقوة، الدرب لعصر الثورات النسائية. لقد كانت ممن أزالوا بفكر تحرير المرأة، العبودية من كافة أنسجتها، ومن خلال تحويل طريق الثورة إلى مصدر للحرية والجمال، أصبحت أحد الذين أتبعوا وأمنوا بسوسيولوجيا الحرية.

بعد مدة من العمل المتواصل انتهت بعض الأبحاث وتمت مشاركتها مع المجتمع والبعض الآخر لم ينتهي، وذلك بسبب هجوم الاحتلال التركي ومرتزقتها بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 2018، واحتلالها بتاريخ 18 آذار/مارس 2018. هذا الاحتلال الذي قتل ونهب وسرق السكان الأصليين، كان ومازال خوفه الأساسي هو نضال المرأة الحرة ضمن براديغما الأمة الديمقراطية، وعملها الدؤوب في كافة مجالات الحياة بدءاً من العمل على تطبيق نظام الرئاسة المشتركة إلى عملها في كافة اللجان والهيئات التابعة للإدارة الذاتية الديمقراطية.

نتيجة الاحتلال هجر الآلاف من السكان إلى مناطق الشهباء وتل رفعت وقطنوا فيها بالرغم من الحصار الخانق وسبل العيش الشبه المعدومة، لكن مقاومة النساء لم تنتهي ولم ترضين بالاستسلام واستمرت المقاومة والتمسك بالعيش الحر وإحياءه من جديد، كل هذه الأسباب وغيرها من ضرورة دراسة أوضاع المرأة أثناء الهجرة وتأثيراتها، أصبحت الدواعي الأساسية لإعادة افتتاح مركز أبحاث جنولوجي عفرين -  الشهباء مرة أخرى وذلك بضم مقاطعة عفرين ـ الشهباء، أُفُتتح المركز بتاريخ 9 كانون الثاني/يناير 2021، وذلك استذكاراً لشهيدات مجزرة باريس "ساكينة فيدان وليلى". اُفتتح المركز بإمكانيات قليلة وأجواء مُحاصرة، لكن بحب وأمانة علمية وفضول وشوق كبير من قبل العضوات والمجتمع أيضاً.

منذ بداية افتتاح المركز قامت مجموعة من النساء الباحثات بالعمل ضمنه وإعطاء التدريبات الفكرية في الأكاديميات العسكرية والمدنية، والقيام بحملة تعريف جنولوجي، وأيضاً حسب احتياج المنطقة قام المركز بالأبحاث السيسيولوجية اللازمة لتجاوز المشاكل والأزمات التي يعيشها المجتمع في ظل النزوح والهجرة القسرية.

وبما أن الشهباء منطقة لديها طابع عشائري وديني فكانت ذهنية الدولة البعثية ومن خلال سياساتها لمحو وانصهار مكونات المجتمع في بوتقة القومية الواحدة والدين الواحد وخلق ذهنيات متشددة وراديكالية، لذا جميع هذه التقربات وضعت المرأة في حدودٍ ضيقة وعمِلت على ترسيخ الأفكار التعصبية بشكلٍ أعمق، أيضاً وبشكلٍ خاص في فترة احتلال المنطقة من قبل المجموعات الإرهابية المسلحة فقد عرفوه النساء بفترة الغيوم السوداء أي بمعنى أنهن لم يستطعن أن تلبسن سوى الأسود وتحولت حياتهن إلى لونٍ واحد لا غير، من ثم تم تحريرها على يد وحدات حماية الشعب والمرأة، فالتحليلات السيسيولوجية لوضع المرأة قبل وأثناء وجود الإدارة الذاتية والتنظيمات النسائية ومن خلال اللقاءات الفردية والجماعية بنساء المنطقة أكدن على التغيير الحاصل وبأن النساء استطعن فهم ومعرفة أنفسهن أكثر، وخاصة في التدريبات الإيديولوجية التي نركز فيها على تعريف جنولوجي والحياة الندية الحرة، فعمل المرأة ضمن المؤسسات كإدارة مشتركة أو إدارية خير دليل على كسر بعض القوالب التي تم بناؤها من قبل الذهنية الذكورية السلطوية.

بعد هجمات جهاديي إدارة هيئة تحرير الشام في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 على مدينة حلب، تم تطويق منطقة الشهباء من جميع الجهات. وفي 1 كانون الأول/ديسمبر 2024، شنت مرتزقة الاحتلال التركي هجمات على منطقة الشهباء وتل رفعت، حيث تصدت قوات تحرير عفرين لهذه الهجمات وأبدت مقاومة عظيمة. صمد مهجرو عفرين حتى الرمق الأخير في وجه الهجمات التركية. عقب ذلك، أدلى مجلس شعب عفرين والشهباء ببيان عاجل إلى الرأي العام، جاء فيه "قامت الدولة التركية ومرتزقتها بالهجوم على منطقة تل رفعت والشهباء، وخلال اليومين الماضيين، أبدت قوات تحرير عفرين مقاومة عظيمة من أجل حمايتنا، ولكيلا يتعرض شعبنا للمجازر ولا يتم قتل الأبرياء. قررنا بمحض إرادتنا الخروج من المنطقة التي كانت مطوقة من قبل مرتزقة الدولة التركية".

وأكد المجلس "نود التأكيد على أن خروجنا من منطقة الشهباء لا يعني أننا استغنينا عن نضالنا في سبيل تحرير عفرين، بل إننا، كما تحملنا كل الظروف الصعبة خلال السنوات الماضية في الخيم وفي العراء، سنستمر في نضالنا بشكل أقوى من الآن فصاعداً"، وبعد بيان المجلس، خرج أهالي المنطقة في قوافل.

في تلك الأثناء قامت عضوات المركز بجمع الأرشيف والمقتنيات المهمة في المركز، كيلا يتمكن العدو والإرهابيين من استخدامه ضدنا، أو لتشويه مفهوم المركز. فالمركز الذي فُتح بإمكانيات صعبة أُغلق أيضاً كما في عفرين نتيجة احتلال الدولة التركية وإرهابها.

علينا أن نعلم بأن مهما تغيرت أسماء هذه الفصائل والتنظيمات فأن جميعها تسعى لإحياء الذهنية الجهادية الراديكالية المتطرفة البعيدة عن المبادئ الإنسانية، التي تسعى لوضع المرأة ضمن دور نمطي للغاية وتقوم بإبعادها عن مجالات الحياة كافة لتتفرد بالحكم والسلطة.

مدينة الشهباء الآمنة في ظل وجود وحدات حماية الشعب والمرأة، وقوات تحرير عفرين. أصبحت مكاناً للممارسات الإرهابية الوحشية من تخويف، قتل، اختطاف المدنيين، ترهيب المواطنين العزل والقاطنين فيها. فلكل عائلة ولكل فرد قصة طويلة يرويها، ويسطرها لتبقى بين أسطر التاريخ. فمنهم من خرج وبقيت عائلته هناك، ومنهم من اُعتقل لأنه لم يكن يعلم بقرار الخروج. والكثير من القصص التراجيدية الطويلة. فمن الذي يتحمل مسؤولية هذا الشعب المقاوم الذي يحمل هوية كردية منذ الأزل؟

نعلم أن ما نعيشه في هذه اللحظات صعبٌ للغاية، لكن عندما تكون المرأة متعمقة بقضيتها وتعلم ممارسات وأفعال العدو فيتحول كل شيء للمقاومة ونضال لترسيخ مبادئها وأفكارها العلمية التي تصب في خدمة ومصلحة الشعب. كما قالت الشهيدة ناكيهان أكارسال "الثورية تعني تنمية إرادة تجميع الغضب بدلاً من الإحباط والحزن وتفجيره في ذهن النظام الذكوري المسيطر. كمحبين للحرية وللحركة التي تحول الألم إلى قوة، وثقافة الوجود والمقاومة، نحاول تحويل غضبنا إلى قوة حياة وعمل ونشاط. نمضي قدماً من خلال تكرار عهودنا والوعد بمواجهة الآلام المتزايدة بقوة العقل والقلب الحر. نسعى لتجاوز وتطوير سبل التغلب على صعوبات الحياة وجوانبنا المضطربة وغير المنظمة التي تضعف غضبنا وحماسنا".

فهكذا إصرار على العمل لنشر علم المرأة "جنولوجي" سيكون الرد الأمثل على كافة مخططات وأهداف العدو والاحتلال لمحاولاته الدائمة لطمس ومحو هوية المرأة الحرة والمجتمع الديمقراطي.

تكرار الاحتلال والسيناريو ذاته وعلى الشعب ذاته مرات عديدة، دليل على أن المقاومة مستمرة، وأن هذا الشعب مُصر على العيش بكرامة ويرفض الخضوع لجهات لا تُمثله ولا تُمثل إرادته.