التجويع كسلاح ناعم... النساء بين حصار الجوع وصمت العالم

حين يتحول الجوع إلى سياسة، تصبح الحياة اليومية معركة بقاء، لا تخاض بالسلاح بل ببطون خاوية وكرامة مثقلة بالقهر، من حصار غزة إلى فوضى السودان، تتكرر المأساة بصيغ متعددة، ويظل التجويع أداة تعري وجه الحروب الأبشع.

مقال بقلم المديرة التنفيذية لمنظمة "كيان" لتمكين المرأة مريم حامد

في خضم الحروب التي لا تعرف رحمة، تبرز سياسة التجويع كأحد أبشع أدوات القتل البطيء، التجويع لا يدمر الأجساد فحسب، بل يكسِر النفوس ويحاصر الأرواح، وفي قلب هذه المأساة، تقف النساء وحدهن، محاصرات بجوع لا يشبع وبصمت لا يحتمل، ليست المرأة ضحية عابرة في هذه الصراعات، بل هي جبهة مقاومة يومية، تواجه العدم بكرامة، وتعيد خلق الحياة من حطامها.

 

لماذا النساء أولاً؟

ليست مصادفة أن تتحمل النساء العبء الأكبر في سياقات الحصار، ففي المجتمعات المنهارة، يُنظر إليهن بوصفهن المسؤولات عن تأمين الغذاء، ورعاية الأسرة، وصون الكرامة، وبهذا، يصبح التجويع شكلاً من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، حين تحرمن من الموارد، وتعزلن عن الخدمات الصحية، ويقصين من القدرة على الإعالة والبقاء.

هذا العنف لا يمارس فقط بالجوع، بل بالتجويع المتعمد بالحصار، بانهيار الأسواق، بغياب الإغاثة، وبانسحاب الدولة أو احتلالها، يستهدف جسد المرأة لا كعدو عسكري، بل كحارسة للحياة، يراد لها أن تنهار كي ينهار من خلفها الجميع.

 

الفاشر... معركة الجوع وسط الإهمال والحرب

في الفاشر، عاصمة شمال دارفور التي تقع غرب السودان، يعيش السكان منذ شهور تحت حصار خانق، وسط اشتباكات دموية بين الجيش وقوات الدعم السريع، لا تدخل شاحنات الإغاثة، ولا تصل الإمدادات، في هذا الجحيم، تخرج النساء قبل الفجر بحثاً عن دقيق مفقود، أو ماء شحيح، أو بقايا الحشائش لطحنها وخبزها.

ما يؤكل هناك لا يُؤكل في الأصل، "الأمباز"، بقايا الفول السوداني التي تستخدم كعلف للحيوانات، أصبح وجبة يومية للأطفال، إحداهن قالت "نطحن الحشيش ونخلطه بالماء فقط... حتى لا ينام الأطفال جوعى"، هذه ليست مجرد وصفة للبقاء، بل شهادة على روح مقاومة تقف أمام آلة الموت، وتصر على النجاة.

ورغم الخطر، لم تستسلم النساء، نظمن مبادرات جماعية للطهي في الأحياء المحاصرة، يقتسمن ما تبقى من الغذاء، ويخلقن دوائر تضامن قادرة على الاستمرار وسط الخراب.

وكادوقلي عاصمة جنوب كردفان الواقعة جنوب السودان، لا يقصف يومياً كما الفاشر، لكنها تعاني من حصار صامت وخانق، الطرق مغلقة، المنظمات الإنسانية انسحبت، والأسواق باتت فارغة من كل شيء، ليس هناك ضجيج للحرب، بل صمت يحاصر الأرواح ويفتت الحياة تدريجياً.

النساء هناك يجبرن على غلي أوراق التبلدي لساعات، ليعدن منها ما يسمى مجازاً "وجبة"، لا توجد خدمات صحية، خاصة للحوامل والمرضعات، والزراعة المحلية انهارت، تاركة آلاف الأسر بلا مصدر رزق أو غذاء.

إحدى النساء من حي الرديف تقول "نغلي أوراق الأشجار فقط لنخدع أجسادنا لعلها تصمد قليلاً"، وهكذا يتحول الحصار إلى سياسة تجويع متعمدة، تمارس بلا قذائف، لكن بأدوات أكثر خبثاً.

وفي الأُبيّض، عاصمة ولاية شمال كردفان، كانت الحياة التجارية والزراعية تعج بالنشاط، لكنها الآن تنهار تحت وطأة الغلاء وانقطاع الإمدادات، النساء خاصة النازحات، يقمن ببيع ما تبقى من ممتلكاتهن، من ثياب وحلي، فقط للحصول على القليل من الدقيق، إنه ليس مجرد فقر، بل سياسة ممنهجة من الإهمال والتجويع، ورغم كل ذلك، لا تزال النساء تدرن الحياة داخل البيوت، يربين ويعالجن، ويخلقن من الضعف قوة تمكن الأسرة من الصمود.

 

غزة... الجوع تحت الاحتلال

غزة الشريط الساحلي الضيق في فلسطين، ليست بعيدة عن هذه المعاناة، بل تمثل وجهاً آخر لها، فهي تحت الحصار الإسرائيلي منذ 17 عاماً، تعاني النساء هناك من حرمان مركب "احتلال عسكري، انقطاع الموارد، قصف متكرر، وفقدان مستمر"، يرضعن أطفالهن بماء وملح، يدفن أطفالهن الجياع بصمت، ويتقاسمن بقايا الغذاء مع الجيران كفعل مقاومة.

قالت أم فلسطينية لإحدى المنصات "ابني توفي بين يدي، كنت أعلم أنه جائع، لكن لم يكن بيدي شيء"، في هذه الكلمات تختصر المأساة، وتعلن الحقيقة، ألا وهي أن الجوع في غزة ليس نتيجة فقر عارض، بل سياسة عقاب جماعي تستهدف المرأة لأنها رمز الحياة.

 

للجوع ملامح نسوية

حين يستخدم الجوع كسلاح، تتحول المرأة إلى جبهة نضال لا تقهر، ليست الضحية وحدها، بل الشاهدة والفاعلة، من الفاشر إلى غزة، تجبر النساء على اختراع طرق النجاة، على التأقلم مع الندرة، وعلى احتضان أطفالهن وسط العدم.

لكن هذا الصمت لا يحتمل، وهذه الجريمة لا تسقط بالتقادم، لا يكفي التوثيق، بل يجب أن ترفع أصوات النساء في المناصرة، وفي المحاسبة، وفي تشكيل العدالة.

لذا أرى أنه يجب فتح تحقيق دولي مستقل في استخدام التجويع كسلاح، مع التركيز على الأثر النوعي على النساء، وتجريم هذه السياسة ومحاسبة مرتكبيها وفق القانون الدولي، وتوفير ممرات إنسانية آمنة، خاصة لاحتياجات الحوامل والأمهات والأطفال، وإشراك النساء في تصميم وتنفيذ خطط الاستجابة الإنسانية، ودعم التوثيق الحقوقي لشهادات النساء، وتضمينها في الحملات الدولية.