السلام خيار حتمي تجاوز الحلول المؤقتة نحو مستقبل أفضل
هناك ضرورة ملحة لتجاوز الحلول المؤقتة والتمسك بخطوات جذرية نحو السلام والديمقراطية، مع التأكيد على أن العنصرية والفاشية وخطاب الكراهية تشكّل عوائق خطيرة يجب تخطيها.
مقال بقلم روزا ولات
لم يُكتشف بعد سبيل للتدخل في الماضي أو إصلاحه، غير أن البحث عن طرق جديدة لحياة يسودها السلام، تجلب معها الطمأنينة والرفاه، وتجنّب الحاضر والمستقبل جراحاً إضافية، أصبح أمراً ممكناً وضرورة ملحّة. فابتكار أساليب مغايرة لما اعتيد عليه لم يعد خياراً، بل حاجة حتمية لصون الإنسان وصناعة غدٍ أفضل.
تحولات ضرورية في مسار الحل
حين يواجه الإنسان مشكلات متكررة، فردية كانت أم جماعية، فإن إدراك حقيقة أن الحلول المؤقتة لا تصنع تقدماً، بل تزيد الأزمات رسوخاً وتضاعف الخسائر، يمثل منعطفاً حاسماً. وعند تجاوز هذا المنعطف، يبدأ المسار نحو معالجة جذرية شاملة، تستند إلى الخبرة والبصيرة، لاستئصال المشكلة من حياتنا.
أما إذا كان السلام هو القضية المطروحة، فهناك أسباب لا تُحصى تجعل التوجه إليه خياراً نبيلاً وضرورياً. فالسلام لا يمكن أن يكون موضع لوم أو ذم أو إدانة، ومن يصفه بذلك إنما يكشف عن عجزه وسوءه ويستحق الإدانة. لأن كل إنسان يضع القيم الإنسانية أساساً للتفكير، ويجعلها مبادئ للحياة، ويزن الأحداث بميزانها، يتوق إلى عالم تُطوى فيه صفحة الحروب، ويسود فيه سلام عادل وكريم، ويعمل بإخلاص لتحقيقه.
في ظل إصرار أحد الأطراف على جعل تركيا خالية من الإرهاب، وتمسك الطرف الآخر ببناء مجتمع سلمي وديمقراطي، يؤكد الجانبان في كل مناسبة أن القضية ليست مجرد مساومة أو تبادل مكاسب. فلا شك أن هناك خطوات أُنجزت في الماضي ولن تُنفذ مجدداً، وأخرى لم تُنفذ سابقاً لكنها ستُنفذ الآن. ويظل التنسيق بين الخطاب والممارسة العملية أمراً أساسياً، إذ عندها فقط يمكن القول إن المراحل الحاسمة قد تم تجاوزها، وأن المشكلة دخلت مساراً نحو حل نهائي.
وفي هذا السياق، يُعدّ تخلي حركة الحرية عن العمل المسلح ضد الحكومة التركية وحلّ هيكليتها التنظيمية خطوة بالغة الأهمية فيما يتعلق بما لن يُنفذ بعد اليوم. وفي المقابل، فإن الانخراط في الحياة السياسية الديمقراطية يمثل الخيار العملي لما سيُنجز مستقبلاً.
القضية الكردية بين الإنكار والاعتراف
عندما نوجّه أنظارنا إلى زاوية أخرى، نلاحظ أن التقييمات الحكومية في تركيا بدأت تتحول من تجاهل القضية الكردية إلى التركيز على مفهوم الأخوة التاريخية. وقد شُكّلت لجنة برلمانية لوضع العملية على جدول الأعمال واقتراح القرارات اللازمة. وهنا تجدر الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية: فبينما جرى الاستماع إلى العديد من الأفراد والمؤسسات، لم يتم الاستماع حتى الآن إلى مؤسس حركة الحرية القائد عبد الله أوجلان، الذي خاطبته الدولة في إطار ملف إمرالي، ولم يُعلن بوضوح إن كان ذلك سيحدث ولم يتم الإفصاح عن هذا التأخير.
ولا شك أن تصريح دولت بهجلي "لن أتردد في الذهاب إلى إمرالي" يحمل دلالات وتداعيات خاصة. لكن ما الذي يكشفه تباطؤ اللجنة في التعامل مع ملف إمرالي ورفضها زيارته؟ وما هي الحسابات التي تُجرى لتفادي خطوة تُعدّ في هذه المرحلة ضرورة لا غنى عنها للوصول إلى حل؟
هنا تتجلى بوضوح مؤشرات على وجود مشكلات، وهي لا تغيب عن أنظار أحد. فغياب الخطوات العملية الملموسة يثير شكوكاً مشروعة حول جدية النوايا والعزم على التغيير، ويُفضي إلى تساؤلات ويغذّي حالة من عدم الثقة.
العنصرية والفاشية... عقبات أمام السلام الاجتماعي والديمقراطية
في الوقت الذي ينبغي فيه أن نسعى جاهدين لتحقيق سلام شامل، ما زالت الممارسات القديمة تتكرر بطريقة توحي وكأن لا نية حقيقية لصنع السلام، فيما تُترك الخطوات الجديدة دون تنفيذ. فهل الهدف مجرد كسب الوقت؟ ومع استمرار تأجيل خطوات التحول الديمقراطي وغياب الإصلاحات القانونية والتشريعية، يظل السؤال قائماً: من هو المستفيد فعلاً؟ وما المكاسب والخسائر؟ هذه التساؤلات تكاد تكون ثابتة في قلب المشهد المزدحم.
من جانبها، لم تُقدم الحكومة التركية على أي تغييرات ملموسة ودائمة في كيفية معالجة المشكلات، مكتفية بالتصريح بأنها لن تعود إلى ما كانت عليه سابقاً. أما حركة الحرية، فتطرح مشاريع واسعة لمعالجة قضايا الهوية والمعتقد والتمييز القائم على النوع الاجتماعي، لا في تركيا وحدها بل في المنطقة بأسرها، إلى جانب مشكلات بنيوية ومجتمعية أخرى. وهي لا تكتفي بالخطاب، بل تستعد بخطوات عملية لبناء واقع جديد، معلنةً بوضوح ما تتخذه من إجراءات في هذا السياق.
وإذا كان الهدف هو تحمل المسؤولية في قيادة المجتمع نحو مستقبل يسوده السلام والطمأنينة، فإنه من المؤسف أن البعض ما زال يكرر افتراضات بالية عن الانقسام والتشرذم والتفكك وخطر الفناء، وهي أطروحات فقدت مصداقيتها منذ زمن إذا ما نظرنا إلى تجارب العالم. أولئك الذين يتهمون كل من يقرّ بوجود الكرد بالأمس أو يدعو اليوم إلى حل القضية الكردية بالخيانة، والذين يرون في المساواة إهانة، ويعتبرون كل من ليس تركياً أو سنياً أو ذكراً تهديداً، يرسخون خطاباً عنصرياً فجّاً. ولا شك أن تصريحات مثل "أفضل كردي هو الكردي الميت" تمثل شكلاً صارخاً من العنصرية المرفوضة.
العنصرية والفاشية وخطاب الكراهية تشكّل عوائق خطيرة أمام السلام الاجتماعي والديمقراطية، ولا بد من تجاوزها. فهذه الخطابات لا تُعدّ معياراً اجتماعياً في أي مكان بالعالم، لأنها مرفوضة أخلاقياً وإنسانياً واجتماعياً. تخيّلوا! هل يمكن لشخصٍ يرى نفسه متفوقاً على الآخرين، ويعتبرهم غير جديرين بحقوقهم، بل يبرّر كل أشكال الشر ضد من يختلفون معه، أن يسعى إلى العدالة أو المساواة أو حياة قائمة على الأخوة أو جنة للشعوب؟.
وبالنظر إلى مواقف هؤلاء السياسية ونسبة الأصوات التي حصلوا عليها في الانتخابات الأخيرة، يتضح أن ما يطرحونه حول العملية، خصوصاً عبر بعض القنوات، يُنشر بشكل متعمّد. فقد بلغ مجموع الأصوات التي نالها الحزبان الأكثر تبنياً للخطاب العنصري 3.39% فقط من سكان تركيا، وهي أقل من 3.5%.
أولئك الذين ينخرطون في خطابات وأفعال عنصرية وفاشية بدافع المصالح السياسية والاقتصادية لا يستحقون التعامل معهم بحساسية أو محاولة إقناع، إذ يبدو أن هدفهم الأساسي هو زيادة حصتهم الانتخابية وحماية مصالح تجار الحرب عبر مواقف سياسية مصطنعة. فهم يستهدفون العملية ذاتها لا تنفيذها، وهو ما يترك لهم قاعدة انتخابية لا تتجاوز 3.38% من الناخبين.
ومع مرور الوقت، ومع كل خطوة تُتخذ نحو التعافي والتئام الجروح، يبرز السؤال: لماذا لا تتغير أفكارهم وتتطور إيجابياً ليشاركوا هم أيضاً في السعي نحو السلام والديمقراطية والعدالة والمساواة؟ فهذا هو المناخ الحيوي الذي يحتاجه الشعب التركي. وما يمكن تحقيقه عبر تحالف كردي ـ تركي متجدد وهادف يستحق الدراسة والنقاش، كما يستحق أن تُبنى الحياة وتُصاغ حول هذه المبادئ.