'النساء قادرات على قيادة التحولات الكبرى في أصعب الظروف'

مقال بقلم عضوة لجنة العلاقات والاتفاقيات السياسية الديمقراطية روكن أحمد  

عندما اندلعت الأزمة السورية عام 2011، كانت النساء تواجهن واقعاً اجتماعياً وسياسياً شديد القسوة. كانت الأنظمة الاستبدادية تحكم البلاد بقبضة حديدية، تفرض قيوداً صارمة على المشاركة السياسية والاجتماعية للمرأة. في مناطق سيطرة حكومة دمشق، اقتصرت أدوار النساء على النطاقات التقليدية المفروضة من قبل مجتمع ذكوري، تدعمه قوانين قمعية تعزز التبعية وتحد من قدرة المرأة على لعب دور فاعل. أما في مناطق سيطرة المعارضة، فقد أظهرت الحركات المناهضة للحكومة تناقضات كبيرة؛ إذ تبنت شعارات الحرية والديمقراطية لكنها في الواقع كرّست أنماط الهيمنة الذكورية وأقصت النساء من مراكز القرار.

في ظل هذه الظروف، بدت مشاركة المرأة في الثورة وكأنها تحدٍ مزدوج، ليس فقط للنظام القمعي ولكن أيضاً للأعراف والتقاليد المجتمعية التي تهمش دورها. منذ الأيام الأولى للانتفاضة، لعبت النساء أدواراً بارزة، سواء في الاحتجاجات السلمية أو في التنظيم المجتمعي والإعلامي. إلا أن هذا النشاط لم يُترجم إلى اعتراف حقيقي بدور المرأة كقوة مستقلة. فالحركات المعارضة لم تكن مهيأة بعد لتقبل فكرة مشاركة المرأة في القيادة، وظلت مقيدة برؤى تقليدية تحول دون تحقيق تطلعات النساء في الحرية والمساواة. وكانت النساء في الغالب تواجهن نفس التحديات التي يعاني منها المجتمع ككل، إلا أن العوامل الدينية والثقافية قد أسهمت في تكريس الفكر الذكوري الذي كان يهمش دور المرأة.

في مناطق سيطرة حكومة دمشق، استُخدمت النساء كأدوات دعائية تُظهر "تقدمية" الحكومة و"دفاعه عن حقوق المرأة". في المقابل، عانت النساء في مناطق سيطرة المعارضة من تهميش مشابه، مع اختلاف السياق. ورغم أن المعارضة رفعت شعارات الحرية، إلا أن النساء لم يُمنحن مساحة كافية للمشاركة الفاعلة.

أما في المناطق التي سيطرت عليها الجماعات الإسلامية المتطرفة، مثل داعش، فقد وصلت معاناة النساء إلى مستويات غير مسبوقة. فُرضت قوانين صارمة تحرمهن من أبسط حقوقهن، مثل التعليم والعمل والتنقل بحرية. بل وصل الأمر إلى استعباد النساء وبيعهن في الأسواق، كما حدث مع النساء الإيزيديات. وكانت هذه الممارسات تهدف إلى إلغاء كيان المرأة وتحويلها إلى أداة للخدمة والإنتاج ضمن منظومة قمعية.

إضافة إلى ذلك، وفي المناطق التي احتلتها تركيا مثل عفرين ورأس العين وتل أبيض وجرابلس، واجهت النساء انتهاكات جسيمة، شملت القتل والاختطاف والاغتصاب والتهجير القسري. كان الهدف من هذه الجرائم تدمير النسيج الاجتماعي وتكريس الهيمنة عبر استهداف النساء باعتبارهن عماد المجتمع. كما شُرّعت قوانين جديدة تخدم المصالح الطائفية والقبلية، مما فاقم معاناة النساء وأبعدهن عن تحقيق تطلعاتهن في الحرية.

في ظل هذا المشهد المعتم، كانت مناطق روج آفا تقدم نموذجاً مغايراً، لم تكن ثورة المرأة مجرد تمرد على النظام السياسي، بل ثورة شاملة تهدف إلى إعادة تعريف دور المرأة في المجتمع. منذ البداية، تبنت الحركة النسائية في روج آفا بقيادة المرأة الكردية وبمشاركة كافة مكونات المجتمع من عرب وسريان وأرمن وغيرهم نهجاً يقوم على فلسفة Jin Jiyan Azadî، المستمدة من فكر القائد عبد الله أوجلان، الذي يرى في حرية المرأة مفتاحاً لتحرير المجتمع بأسره.

وقد تأسست وحدات حماية المرأة (YPJ) كقوة عسكرية دفاعية، لكنها كانت تعبيراً عن مشروع أعمق لتحرير المرأة من كافة أشكال الهيمنة. لم يكن دور هذه القوات مقتصراً على القتال فقط، بل كانت رمزاً للمقاومة الشاملة ضد الفكر الذكوري والتطرف الديني. شاركت النساء في تحرير مناطق واسعة من قبضة داعش، وقدمن نموذجاً عالمياً للمرأة المناضلة التي تجمع بين القوة العسكرية والوعي السياسي.

ومن أبرز الإنجازات التي حققتها الثورة في روج آفا هو اعتماد نظام الرئاسة المشتركة، الذي يضمن مشاركة النساء بنسبة لا تقل عن 50% في جميع المجالات السياسية والإدارية والاجتماعية. كان هذا النظام تجسيداً عملياً لفلسفة المساواة والديمقراطية، إذ لم يعد دور المرأة مجرد شعار بل حقيقة ملموسة.

كما نجحت النساء في صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن لهن حقوقهن، ويجرّم كافة أشكال العنف والتمييز. هذا العقد لم يكن مجرد وثيقة قانونية، بل كان تعبيراً عن تحول جذري في بنية المجتمع، إذ أعاد تعريف العلاقات بين الجنسين على أساس العدالة والمساواة.

الثورة في روج آفا لم تقتصر على الجانب العسكري أو السياسي، بل كانت ثورة اجتماعية شاملة تستهدف إعادة بناء المجتمع على أسس الحرية والديمقراطية. في هذا السياق، لعبت المرأة في إقليم شمال وشرق سوريا دوراً محورياً في قيادة عملية التدريب الشامل للقضاء على كافة أشكال العنف والتمييز والتعصب، ومواجهة الذهنية الذكورية والدولتية والقوموية والرجعية والرأسمالية التي تكرّس الهيمنة والسيطرة.

تم إنشاء أكاديميات نسائية متخصصة لا تهدف فقط إلى تمكين النساء في المجالات التقليدية مثل التعليم والصحة والاقتصاد، بل تعدت ذلك إلى تدريب الرجال والنساء على السواء. ركزت هذه التدريبات على تغيير الذهنية التقليدية المفروضة التي تُقيد حرية المرأة وتحصر دورها في إطار محدد. وشملت الجهود التدريبية إعادة صياغة المفاهيم الاجتماعية بما يضمن إنهاء التصورات الذكورية والتمييزية، مع التأكيد على ضرورة بناء وعي مشترك يعزز العدالة والمساواة والديمقراطية.

من خلال برامج تدريبية متنوعة، استطاعت النساء في روج آفا أن يقدن عملية تحول عميقة في المجتمع تشمل كافة المجالات. في المجال القانوني، تم التركيز على تعزيز فهم القوانين التي تحمي حقوق المرأة والعمل على تطبيقها بفعالية. سياسياً، كانت المرأة في طليعة القادة الذين صاغوا سياسات جديدة تستند إلى مبدأ المساواة والتمثيل العادل.

إضافة إلى ذلك، تم توجيه جهود كبيرة لتحقيق الحماية الاجتماعية، ليس فقط عبر القوانين والتشريعات، ولكن من خلال بناء أنظمة مجتمعية قادرة على مواجهة كافة أشكال العنف والتمييز. عملت الأكاديميات ولجان المرأة على تنظيم ورش عمل ونقاشات مستمرة تهدف إلى تمكين المرأة وتعزيز دورها في بناء مجتمع ديمقراطي قائم على احترام الحريات.

إدراكاً لأهمية التضامن النسائي العالمي، عملت نساء روج آفا على بناء تحالفات مع حركات نسائية إقليمية ودولية. أصبحت فلسفة " "Jin Jiyan Azadîرمزاً عالمياً للنضال النسوي ضد كافة أشكال القمع. من خلال هذه التحالفات، تمكنت نساء روج آفا من نقل تجربتهن إلى العالم، لذا فإن الكثير من الحركات التحررية والديمقراطية النسائية ترى في هذه الثورة مصدر إلهام لنضالها. ففي ظل الأزمات العالمية المتفاقمة، بما في ذلك الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تقدم ثورة المرأة في روج آفا بديلاً حقيقياً لحل هذه الأزمات. فهي لا تسعى فقط إلى تحرير المرأة من قيودها، بل تهدف أيضاً إلى إعادة بناء المجتمع على أسس جديدة، قائمة على المساواة والحرية والديمقراطية.

رغم هذه الإنجازات، لم يكن الطريق مفروشاً بالورود. لا تزال النساء في روج آفا تواجهن تحديات كبيرة، ومن هذه التحديات أيضاً هو الهجمات العسكرية المستمرة من قبل الدولة التركية، والتي بذلك تسعى إلى تقويض المكاسب التي حققتها ثورة المرأة، خاصة في المناطق التي شهدت انتصارات كبيرة ضد داعش. كما أن التهديدات الأمنية التي تواجهها الناشطات والقياديات والسياسيات والعسكريات في روج آفا تستمر في التأثير على عملهن، رغم صمودهن في وجه هذه التهديدات.

إضافة إلى ذلك، لا تزال هناك تحديات ثقافية واجتماعية متعلقة بتغيير الذهنية الذكورية التي تعيش في بعض أجزاء المجتمع. على الرغم من الإنجازات الكبيرة في مجال حقوق المرأة، إلا أن بعض الأفراد في المجتمع لا يزالون يرفضون الاعتراف بتلك الحقوق ويقاومون تغييرات الأدوار الاجتماعية التقليدية.

إلا أن النساء في إقليم شمال وشرق سوريا أثبتن أنهن قادرات على تجاوز التحديات الكبيرة التي واجهنها وتحقيق تغييرات جذرية في المجتمع. من خلال تنظيم أنفسهن والمشاركة الفعالة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية، وأثبتن أن الحرية والمساواة هما أساس أي مجتمع ديمقراطي. ورغم التهديدات والهجمات العسكرية المستمرة، استمرت النساء في النضال من أجل بناء مستقبل يسوده العدل والحرية.

ثورة المرأة ليست مجرد حدث محلي، بل هي رسالة عالمية بأن النضال من أجل الحرية لا يكتمل إلا بتحرر المرأة. إن النساء في إقليم شمال وشرق سوريا يقدمن نموذجاً ملهماً للنساء في جميع أنحاء العالم، خاصة في المناطق التي تعاني من قمع الأنظمة الاستبدادية وغياب العدالة الاجتماعية.

هذه التجربة تثبت أن النساء قادرات على قيادة التحولات الكبرى في أصعب الظروف، وأن إشراكهن في صنع القرار وبناء المجتمعات هو الحل الأمثل للأزمات الإنسانية والسياسية التي يواجهها العالم اليوم.

بالتالي، تظل المرأة رمزاً للأمل والتغيير، وتجربتها دليلاً على أن بناء مستقبل أفضل يبدأ بتحرير المرأة وتمكينها من أن تكون قائدة وفاعلة في المجتمع. هذه الثورة ليست فقط للنساء في روج آفا، بل هي ثورة لكل امرأة تؤمن أن الحرية والمساواة هما حقان لا يمكن التنازل عنهما.