العنف الرقمي وجه جديد لهيمنة المجتمع الأبوي على النساء
أكدت عدد من نساء كرماشان بشرق كردستان أنهن تواجهن في الفضاء الرقمي أنماطاً جديدة من العنف، مثل التهديد، الابتزاز، نشر الصور الخاصة، والتحرش الجنسي، وهو امتداد لهيمنة المجتمع الأبوي بأدوات حديثة.
نسيم أحمدي
كرماشان ـ أصبح الفضاء الرقمي اليوم جزءاً لا ينفصل عن الحياة الفردية والاجتماعية لكل إنسان. وكما يفتح هذا الفضاء آفاقاً جديدة أمام النساء للتواصل والتعلم والمشاركة المجتمعية، فإنه في الوقت نفسه يفرض تهديدات متزايدة عليهن، إذ تكاد كل امرأة أن تتعرض، ولو مرة واحدة، لشكل من أشكال العنف أو التهديد عبر الإنترنت، بما يحمله ذلك من أبعاد واسعة ومعقدة.
يشكل اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة محطة سنوية لإعادة التفكير في سبل مواجهة التمييز والعنف الممارس ضد النساء. أما هذا العام، فقد خُصصت فعالياته للتركيز على العنف الرقمي ضد النساء، في إشارة إلى أن العالم دخل مرحلة جديدة من النضال ضد عدم المساواة؛ مرحلة لم تعد حدودها مقتصرة على الشارع أو المنزل، بل امتدت لتشمل الفضاء الرقمي وشبكات التواصل الافتراضية أيضاً.
غياب آليات المتابعة يجعل العنف الرقمي أكثر خطورة
باتت النساء أكثر عرضة لأنماط جديدة من العنف الذي نشأ في ظل التكنولوجيا والفضاء الرقمي. وتشمل هذه الممارسات الإيذاء اللفظي والتهديدات عبر الإنترنت، الرسائل المهينة، التحريض القائم على النوع الاجتماعي، إضافة إلى نشر الصور والمعلومات الشخصية دون موافقة، وكلها أشكال من العنف الذي يُفرض على النساء في هذا العالم الرقمي الحديث.
يهدف هذا العنف إلى إقصاء النساء أو تقييد حضورهن في الفضاء الافتراضي، وهو امتداد مباشر للعقليات التي تسعى إلى تهميش النساء في الواقع أيضاً. ورغم غياب إحصاءات دقيقة ودراسات علمية موسعة حول العنف الرقمي ضد النساء في إيران، تشير تقارير إعلامية إلى أن أكثر من 70% من النساء الإيرانيات واجهن أو تعرضن لأشكال مختلفة من هذا العنف.
وعلى الصعيد العالمي، تكشف بيانات صادرة عن منظمة الأمم المتحدة لمراقبة المرأة أن نحو 73% من النساء مستخدمات الفضاء الافتراضي تعرضن لهذا النوع من الانتهاكات، ما يعكس اتساع نطاق الظاهرة وخطورتها.
أوضحت سودابه. ر، الأخصائية النفسية والناشطة في كرماشان، أن "العنف ضد النساء في الحياة الواقعية يتم في فضاء يمكن فيه تتبع السلوكيات والوصول إلى المعتدين بسهولة، ومع ذلك لا يتردد كثير من الرجال في ممارسة هذا العنف. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن إيران تحتل مراتب متقدمة عالمياً في معدلات العنف ضد النساء. وإذا انتقل هذا الواقع إلى العالم الرقمي، حيث تغيب آليات المتابعة والمساءلة، فإن الوضع يصبح بلا شك أكثر خطورة".
هذا التحليل يكشف أن العنف ضد النساء لا يقتصر على المجال الاجتماعي أو الأسري، بل يتخذ في الفضاء الرقمي أشكالاً جديدة ومعقدة. فغياب الرقابة وصعوبة الملاحقة القانونية يمنح المعتدين جرأة أكبر، لتظهر أنماط متعددة من العنف مثل التهديد والإهانة عبر الشبكات الاجتماعية، أو نشر الصور والمعلومات الشخصية دون إذن. هذه الممارسات تترك آثاراً نفسية واجتماعية عميقة على النساء. ومن خلال المقارنة بين الواقع والفضاء الافتراضي، يتضح أنه رغم إمكانية المتابعة القانونية في الحياة اليومية، تبقى النساء في العالم الرقمي أكثر عرضة للعنف وأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهن.
العالم الافتراضي سلاح ذو حدين
بدورها، تروي ندا. ك، التي تعرضت لتهديدات من زوجها السابق عبر شبكات التواصل الافتراضي "لديه العديد من صوري الشخصية. في أحد الأيام، تابعني حساب خاص على إنستغرام. رفضت طلبه بدايةً، لكنه أرسل رسالة يطلب فيها أن أرى الصور على صفحته. بدافع الفضول، قمت بمتابعته، وفوجئت بأنه أخفى وجهي في الصور لكنه تعمد إظهار جسدي في خاصية القصص، وكان يتابعه مئات الرجال. ثم هددني بأنه إذا طالبت بمهر الزواج فسوف ينشر صوري كاملة مع وجهي، إضافة إلى عنواني ورقم هاتفي".
لكن تجربتها ليست حالة فردية، إذ إن كثيراً من النساء يتعرضن في الفضاء الرقمي للعنف من أشخاص مجهولين لا تربطهم بهن أي معرفة. هذا العنف يتجلى في صور متعددة منها تهديدات مباشرة، نشر صور خاصة دون إذن، إساءات لفظية، أو رسائل مهينة.
ورغم أن العالم الافتراضي يتيح فرصاً واسعة للتواصل والتعبير، فإنه يتحول في كثير من الأحيان إلى ساحة للاستغلال والضغط النفسي ضد النساء، حيث تُنتهك حدود الأمان الشخصي بسهولة، وتجد الضحايا أنفسهن أمام مشاعر الخوف والعجز، إضافة إلى آثار نفسية واجتماعية عميقة.
تخفي أشكال التحرش في الفضاء الافتراضي
تروي میترا. د من كرماشان تجربتها مع العنف الإلكتروني، موضحةً أن أغلب المضايقات التي تواجهها في الفضاء الرقمي تأتي على شكل دعوات إلى ما يُعرف بـ "المحادثات الجنسية"، مشيرةً إلى أن "بعض الأشخاص يبدأون بمدحي أو مدح أنفسهم كمقدمة، بينما آخرون يدخلون مباشرة في الموضوع؛ يرسلون صورهم الخاصة ويقولون "انظري، هل يعجبك؟".
هذه الشهادة تكشف أن العنف الإلكتروني يمكن أن يحدث في أبسط أشكال التواصل اليومي، مهدداً بشكل مباشر الأمان النفسي والاجتماعي للنساء. فالرسائل غير المرغوبة والصور الصريحة لا تُعد فقط انتهاكاً واضحاً للخصوصية، بل تولّد أيضاً شعوراً بالقلق والعجز لدى الضحايا.
وتزداد خطورة هذه الانتهاكات الرقمية بسبب مجهولية الفاعلين واتساع نطاق الفضاء الافتراضي، مما يجعل مواجهتها أكثر صعوبة. كما أن كثيراً من النساء الضحايا يلتزمن الصمت خوفاً من الأحكام الاجتماعية أو بسبب غياب الدعم القانوني الكافي، وهو ما يسهم في استمرار العنف وتفاقمه.
ابتزاز وانتهاك الخصوصية بدافع "السمعة"
لا يقتصر العنف في الفضاء الرقمي على المضايقات من المعارف أو الدعوات ذات الطابع الجنسي من الغرباء؛ ففي بعض الحالات يستغل المعتدون مفهوم "السمعة" للضغط على النساء وممارسة الابتزاز. إذ يتحول التهديد بكشف المعلومات الشخصية أو نشر الصور الخاصة إلى وسيلة للسيطرة وفرض مطالب غير قانونية.
تروي نسترن. ا تجربتها قائلة "تواصل معي شخص مجهول عبر تطبيق تلغرام وأرسل ليّ رابطاً، مدعياً أنني سأجد فيه صوري الشخصية. بدافع الخوف والقلق، فتحت الرابط، فتمكن من الوصول إلى محتوى هاتفي. بعدها هددني بأنه سينشر صوري إذا لم أنفذ طلباته. خوفاً على سمعتي، اضطررت لتحويل مبلغ مالي إلى حسابه، وإلى الابتعاد عن جميع شبكات التواصل الافتراضي".
هذه الحادثة تعكس كيف يمكن للعنف الرقمي أن يستغل مخاوف النساء من فقدان السمعة، ليحوّل الفضاء الافتراضي إلى ساحة للابتزاز والضغط النفسي، حيث تُنتهك الخصوصية بسهولة وتُترك الضحايا في مواجهة الخوف والعجز.
العنف الرقمي يضاعف آثار الخوف والعجز النفسي لدى النساء
تُظهر التجارب المروية أن المجتمع الأبوي لا يقتصر على العلاقات الاجتماعية والواقع الملموس، بل يمتد حضوره إلى الفضاء الرقمي حيث يسعى إلى ترسيخ سلطته بطرق جديدة. وكما تواجه النساء في البيئات التقليدية قيوداً ثقافية واجتماعية، فإنهن في العالم الافتراضي يواجهن أشكالاً حديثة من السيطرة والإيذاء.
وراء هذه الممارسات تقف عقلية أبوية متسلطة ومتقادمة، لم يتغير منها سوى الأدوات المستخدمة. ففي العصر الرقمي، وجد النظام الأبوي وسائل جديدة لفرض العنف، مستفيداً من التكنولوجيا لتقييد حضور النساء وإسكات أصواتهن في الفضاء الافتراضي.
هذا العنف ليس سوى امتداد للأنماط التقليدية للهيمنة، لكنه في العالم الرقمي يكتسب قوة وانتشاراً أكبر بفضل مجهولية الفاعلين واتساع نطاق الشبكات، مما يضاعف تأثيره ويزيد من خطورته على النساء.