الكتابة ذاكرة تنبض بالحياة

مقال بقلم الكاتبة فريدة ربّو

"الكتابة انتزاع من الموت"، عبارة آسرة تدفع للتأمل، فقد تتعدد التفسيرات حول سبب الانجذاب إليها، لكن ما نتفق عليه جميعاً هو أن الكتابة، حين تتحول إلى فعل يومي، تصبح وسيلة لتحويل التجربة الفردية إلى ذاكرة جماعية، ولإضفاء المعنى على ما نعيشه. إنها تمنح الحياة امتداداً يتجاوز اللحظة، وتُبقي ما هو زائل حيّاً في الوعي.

فهل كان الإنسان، حين نقش كلماته الأولى على ألواح الطين، يسعى إلى الخلود؟ أم كان مدفوعاً فقط برغبة في الفهم والكشف؟ لا يمكننا الجزم، لكن المؤكد أن الكتابة تخلق الذاكرة، وتمنحنا القدرة على إعادة تشكيل العالم من حولنا، بل وحتى أنفسنا.

وفي السياق الكردي، تُعد الكتابة امتداداً حياً للذاكرة الشفوية، وجزء أصيل من الهوية الثقافية. لقد كانت الكلمة دائماً وسيلة فنية تعبّر عن الذات والجماعة، وتتحوّل إلى ملحمة، قصة، لحن، وغناء، بهذا الشكل، استمرت عبر الأجيال ولا تزال حاضرة حتى اليوم.

الكتابة والسرد يخلقان ذاكرة جماعية، ومن يسعى إلى فهمها وتفسيرها، يقدّم نفسه لهذه الذاكرة، فالحقيقة التي تولد في أعماق الإنسان، تتحوّل مع الزمن إلى نتاج اجتماعي، الأغاني، القصائد، والأصوات تصبح خالدة، لأنها تعبّر عن جوهر الإنسان وتمنح الحياة معنى يتجاوز اللحظة.

دفن الإنسان في التراب ليس مأساة بحد ذاته؛ بل هو أشبه بزرع الروح في الأرض كبذرة قد تنمو لتعطي زهرة، أو شجرة، أو حتى صبّاراً، فلدى البعض، تصبح نسمة عطرة؛ ولدى آخرين، جسداً يثير الحنين أو الألم. لكنها، في كل حال، تمنح الوجود معنى جديداً وتُعيد تشكيله.

مع مرور الزمن، تعامل الإنسان مع هذه الحقيقة، فحوّلها أحياناً إلى أداة للخير، وأحياناً إلى وسيلة للشر، هذه الجدلية بين الحياة والموت، بين الفناء والخلق، ظلّت تتفاعل في عمق التجربة الإنسانية، لكن الروح التي سكنت في تلك البذرة لم تختفِ، بل بقيت كامنة، تنتظر من يصغي إليها، هناك من التقط إشاراتها، وهناك من جعل منها مساراً لحياة كاملة.

ومع تطور التكنولوجيا، قد يبدو أن الحاجة إلى الكتابة قد تراجعت، لكن هذا لا ينفي حقيقتها الراسخة كفعل وجودي لا يُستغنى عنه، فالكتابة، منذ بداياتها، لم تكن مجرد وسيلة للتوثيق، بل كانت فعلاً فنياً، امتداداً للذاكرة، وتجسيداً للوعي الجمعي.

ما يُكتب من شعر أو يُحفظ في الذاكرة لا يندثر بسهولة، لأنه يحمل روحاً تتجاوز اللحظة، ورغم أن الوصول إلى المعرفة بات أكثر سهولة اليوم، يجب ألا نغفل أن الكتابة ليست مجرد أثر بصري على الورق، بل هي بصمة فكرية، وندبة عميقة في صفحات الحياة.

القول والكتابة كانا دوماً أولى تجليات الفن، ولهذا بدأت حديثي عن الكتابة، رغبةً في استحضار معناها وقيمتها من جديد، فمن المهم أن ندرك أن هذه الحقيقة تتجلى بأقوى صورها في يوميات الشهداء وفي فكر القائد أوجلان، حيث تتجاوز حدود الذاكرة والتاريخ لتصبح إحساساً حياً نابضاً.

لقد قدّم القائد أوجلان، خاصة في تجربة إمرالي، من خلال الكتابة فلسفةً عميقة، وبحثاً فكرياً، ورؤية متقدمة للحياة، والكتابة هنا لم تكن مجرد توثيق، بل تحوّلت إلى قوة خَلْق، أعادت تشكيل الواقع، وخلّدت التجربة، فمن خلال كلماته، لم يُحفظ فقط تاريخ النضال، بل صيغت ذاكرة لا تنتهي، انتشرت في العالم، وألهمت من يحملون همّ الحقيقة.

في زمنٍ يعيد فيه النظام الرأسمالي إنتاج نفسه، أُحييت من جديد سُبل المعرفة، ووجد أولئك الذين يحملون آلام الحقيقة طريقهم إلى الحياة، وبنفس الروح، فإن رفاق الشهداء، أو من يواصلون الكتابة ببصيرتهم، يسيرون على ذات الدرب، ويخلّدون القيم التي تركها لنا من سبقونا، فالكتابة إذاً ليست فعلاً عابراً، بل استمرارٌ للوجود، وامتدادٌ للمعنى، وذاكرةٌ تصنع المستقبل.

الألم لا يُلغي التفكير، بل يوقظه، فبعض الكلمات بقيت بعد عمليات دفن قسرية، بعضها احترق، بعضها فُقد، وبعضها ظلّ مدفوناً تحت الثلج، ربما يأتي يوم نسير فيه على جبال كردستان، خطوة بخطوة، لنستعيد تلك الذكريات ونقرأ تلك الكلمات التي قاومت النسيان.

الذين يكتبون الحقيقة، يضحّون بسنوات من حياتهم في السجون، ويقدّمون أرواحهم فداءً لها، أليسوا هم التاريخ الحقيقي؟ هم على الأقل أكثر صلابة من أولئك الذين كتبوا على ألواح الطين بصمت، لأنهم واجهوا الحقيقة ودوّنوها بدمهم ووجدانهم.

لهذا السبب، تُعد الكتابة نقطة الانطلاق في كل موضوع يُتناول بالكتابة، إذ تحمل في جوهرها سعياً دائماً نحو الخلود، واليوم، باتت الكتابة، لا سيما في بدايات الفن النسوي، أكثر حضوراً وتأثيراً، كل كلمة كُتبت من أجل الحقيقة تتحول إلى بذرة تنبض بالحياة.

وإذا ما وجدت المعاني مكانها، فأنا على يقين بأن غربتلّي، ناغيهان، نهار، جيهان، وغيرهن الكثيرات، سيشعرن بتلك المعاني تنبض في كلماتهن.