الخوف الذي لا يزول في إيران... ذاكرة القمع في وجدان الأجيال

رغم الإعلان عن انتهاء التوترات العسكرية، لا تزال الأوضاع الاجتماعية في بعض مناطق إيران، ولا سيما في شرق كردستان، متوترة، فالأجواء الأمنية الخانقة، ونقاط التفتيش المنتشرة، والاعتقالات الموجهة، تعيد إلى الأذهان التجارب المريرة بعد ثورة عام 1979.

سوما كرمي

جوانرود ـ بعد مرور 26 يوماً على إعلان وقف إطلاق النار بين تل أبيب وطهران، لا تزال مناطق شرق كردستان تعيش أجواء أمنية مقلقة، فمحافظات كرماشان، سنه، إيلام وأورمية، التي كانت منذ الأيام الأولى للصراع تحت تهديدات مباشرة، تعيش اليوم أيضاً في ظل القلق، وانعدام الثقة، والقيود الأمنية الواسعة.

في جوانرود بشرق كردستان، لم يتراجع وجود القوات العسكرية عند مداخل المدينة، بل في بعض الحالات ازداد، تركيب كاميرات مراقبة في مناطق مختلفة من المدينة، وإنشاء نقاط تفتيش دون إعلان رسمي، والتفتيش المتكرر لسيارات النقل، كلها زادت من قلق السكان.

وعن وضع المدينة هذه الأيام قالت كلرخ أحمدي "في الليل، عندما يملّ الأطفال من الروتين اليومي، كنا نأخذهم في جولة بالسيارة، لكن الآن، حتى لو أردت فقط تعبئة الوقود ومررت من ميدان القلعة، يتم تفتيشك، وذلك من قبل أشخاص مسلحين، مقنّعين، وبمظهر مخيف، حقاً أتساءل، إن كان عملهم مشروعاً، فلماذا يخفون وجوههم؟".

وأضافت "أطفالي يرتعبون عند رؤيتهم، ويسألونني في كل مرة هل بدأت الحرب من جديد؟ وأرى القلق في أعينهم، وكأن وقف إطلاق النار مجرد كلمة على ورق".

وتطرقت في حديثها إلى الماضي "أتذكر أن والدي كان دائماً يتحدث عن ثمانينيات القرن الماضي، حيث لم يكن أحد يجرؤ على الخروج ليلاً بمصابيح مضاءة خوفاً من الحرس الثوري، والآن، أرى نفس الخوف في جوانرود".

 

الضغط الاقتصادي غرامات بلا وعود

إلى جانب الأجواء الأمنية، زادت المشاكل الاقتصادية من ضيق الحال على الناس، حيث قالت تارا. ن، امرأة من سكان جوانرود، وهي تروي كيف خذلها المسؤولون "في الأيام الأولى للحرب، أعلنت وسائل الإعلام الرسمية أن التأخير في سداد القروض لن يُحتسب عليه غرامات، ونحن، بثقة في هذا الوعد، اضطررنا إلى إنفاق مدخراتنا القليلة في أيام حُرمنا فيها من العمل والدخل، لكن الآن، ومن دون أي إشعار مسبق، قام بنك مهر بسحب مبلغ من حسابنا كغرامة".

وأضافت "هذا هو ما سبب لنا الإحباط، وهو أمر يتكرر دائماً هنا، فلا مؤسسة تلتزم بوعودها، كذلك، خلال فترة الحرب، لم تُعاد المبالغ التي دُفعت عبر أجهزة نقاط البيع التابعة لبنك سبه إلى حساباتنا، راجعنا البنك عدة مرات، وكان الجواب نفسه يتكرر كل يوم "سيتم الإيداع غداً" لكن ذلك "الغد" لم يأتِ بعد، لذلك في ظل هذا الوضع المكلف والغلاء القاسي بعد الحرب، كيف يمكن للمرء أن يستمر في الحياة بصعوبة؟".

وأفادت أن "الحرب تنتهي عندما يتذوق الناس طعم الأمن، والطمأنينة، والأمل من جديد، ولكن إذا كان الناس، حتى في غياب صوت الرصاص، يعيشون في قلق، وضغط نفسي، وفقر، وانعدام للأمان الذهني، وانعدام للثقة، فهذا يعني أن الحرب لا تزال مستمرة، حرب صامتة، لكنها أكثر تدميراً".

وفي ختام حديثها أشارت إلى أن "الاكتئاب، الهجرة، البطالة، التضخم، التآكل النفسي، والانقسام الاجتماعي، هذه علامات على استمرار أزمة، اسمها وقف إطلاق النار، لكنها تركت جرحاً عميقاً في نفوس وعقول الناس الذين لا يزالون يعيشون وسط دمارٍ خرّب دواخلهم".

 

لماذا لا تزال الآثار النفسية للحرب حيّة؟

الحرب النفسية التي شُنّت ضد الشعب منذ عام 1979 لم تتوقف قط؛ بل غيّرت شكلها فقط، زرع الخوف، وانعدام الثقة، وانعدام الأمن النفسي في قلب المجتمع، حيث نشأ الناس في تلك السنوات وهم يحملون القلق من صوت الباب في منتصف الليل، والخوف من الاعتقالات المفاجئة، وملامح الوجوه المقنّعة والعناصر المسلحة.

بدلاً من تضميد الجراح، أعادت الحكومة إنتاج نفس الأنماط القديمة في قالب جديد، من خلال استمرار الأجواء الأمنية، قمع الهويات المحلية، والدعاية الأحادية، حتى الأجيال التالية ورثت هذا القلق من آبائهم.

والآن، بعد مرور 26 يوماً على وقف إطلاق النار، فإن تكرار نفس المشاهد في مدن مثل جوانرود، من الوجود المكثف للقوات المقنّعة إلى الوعود الاقتصادية غير المحققة، يُظهر أن ما يحدث اليوم هو امتداد لتلك الحرب النفسية، حرب قد يكون صوت رصاصها قد خمد، لكن جراحها لا تزال نازفة، وإن كان وقف إطلاق النار قد حدث في ساحة المعركة، فإنه لم يُعلن بعد في حياة الناس اليومية.

ريحان حيدري، امرأة على مشارف الثمانين، بيدين متشققتين ونظرة تحمل ثقل سنوات من المعاناة، تتحدث عن زمن لم ينتهِ بالنسبة لها وللكثيرين "خوف سكان جوانرود اليوم ليس غريباً عليّ؛ لأن هذا الخوف سكن قلوب الناس منذ سنوات طويلة، بعد الثورة، بدا وكأن الحرب لم تكن فقط على الحدود؛ بل استقرت الحكومة داخل البيوت، تبحث عن المشتبه بهم والمعارضين، كانت تقتحم المنازل ليلاً، تأخذ البعض، ولا يعودون أبداً".

وأضافت "بالنسبة لنا نحن الكرد، حتى التعبير عن مطالب مثل حق تقرير المصير أو الهوية الثقافية كان يُعتبر عداءً، منذ تلك السنوات، أدركنا أن الصمت هو شرط للبقاء، أتذكر كيف كانت الأحياء تحت سيطرة كاملة من اللجان وقوات الحرس الثوري، وكانت تحركاتنا تحت المراقبة، كان هناك أشخاص من بيننا يرفعون التقارير لصالح الحكومة".

وأكدت أنه "حتى أبسط تعليق يمكن أن يؤدي إلى الاعتقال في اليوم التالي، الخوف من الوشاية والاستجواب أصبح جزءاً من الحياة اليومية، وللأسف، اليوم أيضاً، رغم التغييرات الشكلية، لا يزال هناك من يلعب نفس الدور بين الناس".

وأشارت ريحان حيدري إلى بداية الحرب بين إيران والعراق، وما فرضته من ضغوط إضافية على العائلات "مع بداية الحرب، اشتدت وتيرة التجنيد الإجباري، كانوا يأخذون الشباب إلى الجبهات بالقوة، اضطررت مرة إلى إخفاء ابني في مخزن القش حتى لا يأخذوه، كانوا يطلبون منا تشجيع أبنائنا على الشهادة، ومن يعارض يُعتبر خائناً".

وتتابع حديثها بقلق "اليوم أيضاً، هناك مؤشرات على عودة تلك السياسات، مؤخراً، قيل إنه إذا بلغ شخص السن القانونية وكان مشمولاً بالتجنيد، ورأوه يعمل في متجر أو مكان عمل دون أن يكون قد التحق بالخدمة، فإن صاحب العمل سيتعرض للغرامة، بهذه الطريقة، ومن دون إعلان رسمي، يُعاد فرض التجنيد الإجباري بشكل جديد، لأنهم يخشون بوضوح من احتمال اندلاع حرب جديدة".

وفي ختام حديثها قالت ريحان حيدري "من أهم أساليب الحرب النفسية كان خلق خوف دائم من الاعتقال، والتعذيب، والاستجواب، والإعدام، حتى من لم يكن له أي نشاط، كان يشعر بعدم الأمان في البيت، والمدرسة، والإدارة، والشارع، هذا الشعور العام بانعدام الثقة كان نوعاً من السيطرة غير المباشرة، وهذا ما نراه بوضوح في هذه الأيام أيضاً، ظاهرياً، انتهت الحرب، لكن ما يجري في ذهن وحياة الناس هو استمرار لنفس الدورة القديمة الخوف، الضغط، وانعدام الثقة، ما لم يتغير هو طريقة التعامل مع الناس".