الهجرة أداة هيمنة... قراءة في سياسات التفريغ السكاني وإعادة تشكيل المجتمعات
أكدت الرئيسة المشتركة للمجلس الاقتصادي لمدينة كوباني، أميرة علي، على أن الهجرة ظاهرة سياسية واجتماعية عميقة، وأنها باتت تستخدم كأداة هيمنة استراتيجية لإعادة تشكيل المجتمعات وتفريغها من سكانها الأصليين، عبر سياسات داخلية وخارجية تخدم مصالح القوى المهيمنة.

برجم جودي
كوباني ـ تحوّلت الهجرة إلى ظاهرة مركزية في منطقة الشرق الأوسط، حيث باتت حركة النزوح الجماعي مشهداً مألوفاً، هذه الهجرة في جوهرها ليست مجرد تحوّل اجتماعي، بل تعكس تفككاً سياسياً عميقاً، وتُعد نتيجة مباشرة لسياسات ضيقة واستراتيجيات تفرضها القوى المهيمنة والدول القومية، التي تسعى لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها الخاصة.
قدّمت أميرة علي الرئيسة المشتركة للمجلس الاقتصادي لمدينة كوباني في مقاطعة الفرات، تقييماً معمّقاً لسياسات الهجرة، متطرقةً إلى أهدافها وتأثيراتها، موضحةً أن قضية الهجرة تحمل جذوراً تاريخية عميقة، تختلف في طبيعتها باختلاف الأزمنة "ففي العصور التي سبقت نشوء الدول، كان الأفراد يسعون إلى تعزيز قوتهم عبر التحالفات وخوض الحروب، بهدف السيطرة على الأرض والممتلكات من خلال الهجرة، ومع تأسيس الدول وتطور أنظمة الدولة القومية، تحوّلت الهجرة إلى نهج تُستخدم فيه الحروب الخاصة كأداة لترسيخ هذا المسار".
وأضافت أن هذا التحول بدأ فعلياً مع الحرب العالمية الأولى، وبلغ ذروته في مراحل لاحقة، حيث أصبحت الهجرة نتيجة مباشرة للصراعات والتحولات السياسية. وفي ظل استمرار الحروب، من المؤكد أن الهجرة ستظل إحدى أبرز نتائجها، تعكس عمق الأزمات وتعيد تشكيل المجتمعات.
كيف تُستخدم الهجرة لتعزيز السلطة الاقتصادية؟
في السنوات الأخيرة، ازداد عدد الأشخاص الذين يهاجرون إلى أوروبا بشكل ملحوظ، تحت ذرائع متعددة إما بحثاً عن الأمان أو للتخلي عن نمط حياتها السابق، وفي هذا السياق أشارت أميرة علي إلى أن هذه الظاهرة هي نتيجة مباشرة للسياسات الأوروبية.
وقالت "في الأساس، يجب على الإنسان أن يبحث في أسباب نشوب الحروب، أوروبا تُعرف بالقارة العجوز، قارة كهذه تفتقر إلى القوة والطاقة، فكيف يمكنها أن تطوّر اقتصادها وتعزز سلطتها؟ هنا تظهر حاجة أوروبا إلى قوة تنفذ مشاريعها، لكنها لا تجد هذه القوة بين شعوبها، ولهذا السبب تفتعل الحروب والصراعات، وتقوم من جهة ببيع الأسلحة ومن جهة أخرى تروّج لدعاية أمنية في بلدانها، لتدفع الناس نحو الهجرة، أما الشعوب ومن أجل حماية حياتها فإنها دائماً ما تهاجر إلى البلدان التي توصف بالأكثر أماناً، والآن في هذا المسار، أين تحدث الهجرة بشكل أكبر؟".
وأوضحت أميرة علي أن للهجرة أشكالاً متعددة، منها الهجرة الخارجية والداخلية، ولكل منها أهداف مختلفة "في الوقت الراهن، نشهد في سوريا، إيران، العراق وتركيا تصاعداً ملحوظاً في الهجرة الداخلية، ما يؤدي إلى تغييرات ديموغرافية عميقة وشاملة".
وأضافت أن المثال الأبرز على ذلك هو سوريا، حيث تُمارس سياسات تعريب ممنهجة بهدف تحويلها إلى منطقة ذات غالبية عربية، وهو ما يُعد جزءاً من استراتيجية داخلية لإعادة تشكيل التركيبة السكانية "هذا النمط من السياسات ظهر أيضاً في العراق، إيران وتركيا، حيث تم تهجير آلاف الكرد من قراهم ومناطقهم، وأُحرقت قراهم، وتم تحويل أراضيهم إلى مناطق قاحلة، ليُستبدلوا لاحقاً بسكان من قوميات أخرى كالعرب، الأتراك، الفرس والمغول".
من مقولة "قسّم وحرّك" إلى واقع التهجير
واصلت أميرة علي حديثها مؤكدةً أن الهجرة، في كثير من الحالات، تُستخدم كأداة سياسية داخلية، مشيرةً إلى تطبيق مقولة أتاتورك الشهيرة "قسّم وحرّك"، والتي تحولت إلى نهج عملي.
وأوضحت أن تقسيم المجتمعات إلى فئات متباينة، وتفكيك وحدتها، وتغيير تركيبتها الديموغرافية، يسهّل عملية السيطرة عليها، ومع ذلك فإن هذه السياسات لا تحقق دائماً أهدافها، بل قد تؤدي إلى تعزيز وحدة الشعوب، مما يُضعف قدرة القوى المهيمنة والدول القومية على الاستفادة منها.
وفي هذا السياق، استشهدت أميرة علي بما حدث في عام 2014، حين دفعت الدولة التركية بداعش نحو مدينة كوباني، ما أدى إلى اندلاع معركة كبيرة وموجة هجرة واسعة، لافتةً إلى أن تركيا استغلت هذه الهجرة، ودمجت المهاجرين في مجتمعها، حيث يتم تشغيلهم حتى اليوم في أسواقها، معتبرةً ذلك مثالاً صارخاً على توظيف الهجرة لأغراض سياسية واقتصادية.
الهجرة ليست انتقالاً جغرافياً بل اقتلاع للهوية
وأشارت إلى أن القوى المهيمنة توظّف الاقتصاد بشكل استراتيجي في سياساتها الداخلية، موضحةً أن أحد أبرز أشكال الهجرة الداخلية يتمثل في حرمان بعض المدن من فرص العمل والتنمية الاقتصادية "النظام السوري السابق على سبيل المثال لم ينفذ أي مشاريع اقتصادية في المدن الكردية، ولم يوفّر بنى تحتية تُمكّن السكان من بناء حياتهم، مما دفعهم قسراً إلى الهجرة نحو مدن أخرى داخل سوريا، أو إلى دول مجاورة مثل لبنان والعراق".
ونوهت إلى أن هذه السياسات لا تؤدي فقط إلى تغيير المكان، بل تُحدث تحولات عميقة في هوية الإنسان، حيث تتأثر الثقافة، والأخلاق، واللغة، والشخصية، وتُعاد صياغتها وفقاً للبيئة الجديدة.
وأوضحت أن المهاجر سواء داخلياً أو خارجياً، يُجبر على التكيف مع محيطه الجديد وغالباً ما يُفرض عليه تعلم لغة جديدة، ما يؤدي تدريجياً إلى تبنّي ثقافة مختلفة وفقدان الخصائص الأصلية لهويته.
وأكدت على أن الهجرة تخدم ذات الهدف أي إضعاف الهوية الثقافية واللغوية للإنسان، ففي الهجرة الخارجية تُطمس الانتماءات القومية مثل الكردية أو العربية أو التركية، ويُعاد تشكيل الإنسان وفقاً لمعايير المجتمع الجديد، لذلك فإن الهجرة في هذا القرن لم تعد مجرد انتقال جغرافي، بل أصبحت هجرة من الذات والهوية والحقيقة ما يفتح الباب أمام أزمات متعددة، مثل العقم، الفقر، والانفصال الاجتماعي، تحت غطاء الحداثة المفروضة.
الوعي الشعبي في مواجهة سياسات التفريغ والهجرة القسرية
ولفتت أميرة علي أن الدول الغنية غالباً ما تكون في قلب سياسات الهجرة، مشيرةً إلى أن القوى المهيمنة والدول القومية تستخدم الهجرة كأداة سياسية ضد مختلف الشعوب، لكن التأثير الأكبر يقع على المجتمعات المستضعفة "الشعب الفلسطيني يُعد من أكثر الشعوب تضرراً من هذه السياسات، رغم أن فلسطين من أغنى الأراضي وأكثرها خصوبة وإنتاجاً، إلا أن الجميع يرى ما حلّ بها من تهجير وتدمير".
وكردستان تُعد مثالاً آخر على هذا الواقع، فهي تُعرف عالمياً بأنها من أغنى مناطق العالم من حيث الأرض والثروات، وتُوصف بأنها جنة على الأرض، ومع ذلك فقد تعرضت للتقسيم والنهب والهجرة القسرية، والحروب المتواصلة، ما جعلها ضحية دائمة لسياسات الهيمنة والصراع، كما أوضحت.
وعن كون الهجرة في هذا القرن باتت من أخطر الظواهر التي تهدد المجتمعات، قالت أميرة علي "في هذا القرن أصبحت الهجرة خطراً حقيقياً، إذ شهد العالم ارتفاعاً غير مسبوق في عدد السكان، وهو ما لم يكن ضمن حسابات القوى المهيمنة التي وجدت نفسها في مواجهة تداعيات هذا الواقع".
وأضافت أن هذه القوى في محاولة للسيطرة على الأوضاع فتحت الطريق أمام حروب واسعة ونشرت الفوضى حتى بلغت مراحل حاسمة، لتتمكن من إعادة تشكيل المشهد وفق مصالحها ومن هذا المنطلق، كثّفت استخدام سياسات الهجرة كأداة استراتيجية تهدف إلى إدارة الفوضى والتحولات والانقسامات ضمن نطاق سيطرتها.
واختتمت أميرة علي حديثها بالقول "الخطر الأكبر يكمن في أن شعوبنا باتت تستقبل هذه السياسات بترحيب ورضى، دون إدراك لنتائجها، فالقوى المهيمنة تروّج للهجرة وتُغري الشعوب بها، لتجعل الإنسان نفسه أداة في خدمة دعايتها، لذلك على الشعب الكردي وسائر شعوب الشرق الأوسط أن يتحلوا بالوعي واليقظة وأن يدركوا أبعاد هذا المخطط لا يجوز أن نسمح للهجرة بأن تقتلعنا من جذورنا أو أن تتحول إلى وسيلة لنهب أوطاننا وتفريغها من أهلها".