الفجوة الرقمية أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الجندرية والجغرافية
في عصر هيمنة البيانات وسطوة التكنولوجيا، تُقصى النساء اللواتي لا تتوفر لهن إمكانية الوصول إلى الإنترنت، من المشاركة الفاعلة في الحياة ويُستبعدن بشكل ممنهج من فضاءات الظهور، والتأثير، وسماع الصوت، والتي هي انعكاس لتهميش سياسي وتحيّز بنيوي عميق.
شيلان سقزي
مركز الأخبار- في عالمنا المعاصر، الذي يبدو مترابطاً، تُعدّ ما يُعرف بـ "الفجوة الرقمية" انعكاساً حديثاً لانقسامات تاريخية متجذّرة في السلطة، والنوع الاجتماعي، والجغرافيا. فالنساء في المناطق النائية لا يُحرمن فقط من الوصول إلى أدوات التكنولوجيا، بل يُقصين أيضاً من الحضور الفاعل في عالم يتجه نحو مركزية البيانات. هذا الإقصاء يُجسّد شكلاً جديداً من أشكال الاستعمار المعلوماتي، حيث لا يُختزل الفقر الرقمي في غياب الوسائل التقنية، بل يتجلى أيضاً في التهميش داخل أنظمة إنتاج المعرفة واتخاذ القرار.
يركّز هذا التقرير على تحليل الفجوة الرقمية بوصفها مظهراً من مظاهر الاستعمار المعاصر، مع تسليط الضوء على تجارب النساء في المناطق المهمّشة، اللواتي يُعانين من حرمان مزدوج: من جهة، نقص في البنية التحتية الرقمية والتعليم التكنولوجي، ومن جهة أخرى، إقصاء من التمثيل في النظام العالمي القائم على البيانات. ويسعى التقرير إلى إظهار كيف تحوّلت هذه الفجوة إلى أداة لإعادة إنتاج التفاوتات الجندرية، والجغرافية، والطبقية، واضعةً النساء المهمّشات في موقع مزدوج من "انعدام البيانات" و"انعدام الرأي".
الاستعمار الرقمي... حين تقصى النساء من عصر البيانات
في عصر هيمنة البيانات وسطوة التكنولوجيا، تُقصى النساء اللواتي لا تتوفر لهن إمكانية الوصول إلى الإنترنت، أو الهواتف الذكية، أو التعليم الرقمي، أو حتى تسجيل الهوية الإلكترونية، من المشاركة الفاعلة في الحياة الحديثة. فهن لا يُحرمن فقط من أدوات العصر، بل يُستبعدن بشكل ممنهج من فضاءات الظهور، والتأثير، وسماع الصوت. إن "انعدام البيانات" ليست مجرد حالة فردية، بل هي انعكاس لتهميش سياسي وتحيّز بنيوي عميق.
في أطراف الجغرافيا الإيرانية، تعيش نساء يُثقل كاهلهن الفقر الاقتصادي، ويُضاف إليه الفقر الرقمي، حيث تُحصر المعرفة والتكنولوجيا في المركز، وتُحرم الأطراف من حق الوصول. هذه الفجوة تُشكّل نمطاً جديداً من الاستعمار، تُحتكر فيه البيانات والأدوات الرقمية بوصفها رأسمالاً للسلطة، وتُدار من قبل الدولة والطبقات العليا، بينما تُترك النساء المهمّشات في صمتٍ وعزلةٍ رقميّة.
الفقر الرقمي ليس محايداً، بل يحمل طابعاً جندرياً واضحاً. ففي المجتمعات الأبوية، غالباً ما تُوضع النساء في أدنى سلّم الأولويات فيما يتعلق بالوصول إلى التكنولوجيا. هذا الإقصاء لا يعني فقط حرمانهن من التعليم والمشاركة والمعلومات، بل يمتد ليحرمهن من أدوات الدفاع عن الذات في مواجهة العنف. وهكذا يتحوّل الفقر الرقمي إلى شكل خفي من أشكال العنف، يُقصي النساء من ميادين السياسة، والإعلام، وسوق العمل، والمجتمع المدني.
من منظور سياسي، تُسهم الحكومة والمؤسسات الرسمية في إعادة إنتاج الفقر الرقمي من خلال تركيز الموارد التكنولوجية في المراكز الحضرية، وحرمان الأطراف من الوصول العادل إليها. هذا التوزيع غير المتكافئ لا يُعدّ مجرد خلل إداري، بل يُجسّد شكلاً معاصراً من الاستعمار المعلوماتي، حيث تُعامل المناطق النائية كمجرد خزّان بشري ويد عاملة، دون أن تُمنح حقها في البنية التحتية الرقمية، أو العدالة الاتصالية، أو الحقوق المعلوماتية. وضمن هذا السياق، تصبح النساء المحرومات من البيانات، نساءً بلا قدرات.
وإذا كان للفكر النسوي أن يمارس فعله السياسي في العصر الرقمي، فلا بد أن يجعل من النضال من أجل الوصول المتساوي إلى التكنولوجيا، والبيانات، والتعليم الرقمي، وحق السرد الذاتي، محوراً رئيسياً في مشروعه السياسي. فالفقر الرقمي ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو تجلٍ حديث لتمييز طبقي، وجندري، وجغرافي، يتطلب فضحه ومواجهته من خلال نضال بنيوي عابر للتخصصات والمجالات.
النساء بين انعدام البيانات وسرقتها
خلافاً للتصور السائد، لا تقتصر الفجوة الرقمية على غياب الوصول إلى الإنترنت أو الأدوات التكنولوجية، بل تُعدّ أحد الأشكال الحديثة للاستعمار والهيمنة في أواخر العصر الرأسمالي. ففي هذا السياق، ما يُوصف ظاهرياً بـ "غياب التنمية" أو "الافتقار إلى التكنولوجيا" في المناطق النائية، هو في الحقيقة نتيجة مباشرة لآليات الاحتكار، وتفريغ السياسة من مضمونها، وتركيز السلطة على أجساد وأراضٍ بعينها.
الفجوة الرقمية ليست حادثاً تقنياً عابراً، بل خياراً سياسياً مقصوداً؛ إذ تتحكم الحكومات والأسواق العالمية عمداً في الوصول المتكافئ إلى المعلومات والمعرفة والأدوات الرقمية، مما يُعيد إنتاج شكل جديد من الاستعمار المعلوماتي. ففي هذا النظام، تحتكر المراكز العالمي، خاصة الدول الغنية والشركات التكنولوجية الكبرى، الموارد، ولكن هذه المرة الموارد ليست ذهباً أو نفطاً، بل "البيانات"، و"البنية التحتية الرقمية"، و"الذوات القابلة للتحليل".
ويُعاد إنتاج هذا النمط من الاستعمار داخلياً في دول مثل إيران، حيث تتجلى الفجوة الرقمية بين المركز والأطراف، وبين النساء والرجال، والمدينة والريف، والفقراء والأغنياء، والأقليات العرقية والطبقات المهيمنة. في هذا السياق، تُقصى مجموعات مثل النساء في مناطق مثل شرق كردستان وبلوشستان من الوصول إلى الإنترنت، والتعليم الرقمي، وأدوات السرد، ويُدفعن إلى موقع الصمت والاختفاء. ونتيجة هذه السياسات ليست مجرد تخلّف تكنولوجي، بل استمرار للعنف السياسي، والثقافي، والاقتصادي. فالاستعمار الرقمي الجديد لا يكتفي بحرمان المناطق النائية، بل يُبقيها تابعة، عاجزة عن التنظيم، ومجردة من أدوات المقاومة.
إذا لم نُدرك خطورة الفجوة الرقمية ونتعامل معها بجدية، فلن يكون تحقيق العدالة الاجتماعية ممكناً، بل ستستمر الهيمنة بأشكال أشد قسوة. إن استعادة التكنولوجيا، وأدوات السرد، وحق الاتصال، ليست مجرد مطالب تقنية، بل جزء لا يتجزأ من نضال أوسع ضد النظام السلطوي المعاصر. فبين الإقصاء والاستغلال، تعيش النساء في الأطراف حالة مزدوجة من "انعدام البيانات" و"سرقة البيانات".
انعدام البيانات تعني حرمان النساء من حق التعليم الرقمي، والخدمات الإلكترونية، والسرد الذاتي، بسبب الفقر، والسياسات التمييزية، وتركيز الموارد في المركز، وإنكار فاعليتهن السياسية. إنهن غائبات عن الفضاء الرقمي، غير مرئيات، غير مسموعات.
أما سرقة البيانات، فيتمثل في استخراج المعلومات من أجسادهن، وحركاتهن، وأنماط حياتهن، وحتى من غيابهن، عبر إحصاءات تُنتج دون موافقتهن، وأبحاث تُجرى عليهن دون مشاركتهن، ومراقبة تُمارس عليهن دون حماية.
هذا التناقض الصارخ يضع نساء المناطق النائية في موقع "الغائبة المُستهلَكة"؛ لا فاعلات سياسيات، ولا مالكات لبياناتهن، ولا شريكات في التكنولوجيا، ولا محميات من الاستغلال. في هذا النظام، تُحرم المرأة من قوة البيانات، وتُحوّل إلى مادة خام لإنتاج بيانات يستفيد منها الآخرون.
ولا يمكن فهم هذا الواقع دون تحليل بنى السلطة، والاستعمار الجديد، واللامساواة الرقمية، والسياسات الجندرية. والخروج من هذه الحلقة يتطلب سياسة تحررية تُعيد الاتصال، وصناعة الأدوات، وحق السرد، إلى أيدي الذوات الصامتة والمنسية.
العدالة الرقمية مطلب نسوي في مواجهة النظام السلطوي
مع توسّع تقنيات المعلومات والاتصالات، برزت آمال كبيرة بشأن تمكين النساء في المجتمعات الهامشية. غير أن التجارب المعيشة للنساء في المناطق النائية، سواء داخل الدول النامية أو في هوامش المجتمعات المركزية، تكشف أن الفجوة التكنولوجية لم تُعد إنتاج أنماط اللامساواة السابقة فحسب، بل فرضت أيضاً أشكالاً جديدة من الهيمنة والإقصاء.
من جهة، يُسهم الفقر، والتمييز الجندري، والسياسات الذكورية، وغياب البنى التحتية العادلة في تقييد وصول النساء إلى التكنولوجيا، مما يحرمهن من فرص التعليم الرقمي، والعمل عبر الإنترنت، وبناء الشبكات، والتعبير الذاتي. هذه الحالة من "انعدام البيانات" تُقصي النساء من فضاءات اتخاذ القرار، والاقتصاد الرقمي، وخطابات القوة.
ومن جهة أخرى، حتى عندما تتمكن النساء من الوصول إلى الأدوات الرقمية، فإن غياب التعليم النقدي، وافتقار السياسات الحامية، قد يحوّل هذه الأدوات إلى وسائل للرقابة، والعنف الرقمي، والاستغلال المعلوماتي. فالنساء على المنصات الرقمية قد يتعرضن للتحرش الإلكتروني، وسرقة البيانات، والإهانة العرقية والجندرية، أو الاستغلال في أسواق العمل غير الرسمية. وهكذا، تصبح التكنولوجيا سيفاً ذا حدّين: تحمل إمكانات للتحرر، لكنها قد تُستخدم أيضاً لإعادة إنتاج الهيمنة.
إن الاستفادة الحقيقية من التكنولوجيا لا تتحقق بمجرد توفير الأدوات، بل تتطلب مراجعة جذرية لبُنى السلطة، والسياسات الجندرية، ونماذج التنمية. فالفجوة الرقمية ليست مجرد فجوة في الوصول إلى الأجهزة، بل فجوة في الوصول إلى العدالة، والتمثيل، والقدرة على التحرر.