الاستعمار الجديد والحرب الخاصة... كشف المسارات
أكدت عائشة غول أياز، عضوة هيئة تحرير مجلة جنولوجيا، إن الحرب توسعت عبر أساليب "الحرب الخاصة" المرتبطة بالاستعمار الجديد، وأن إعادة البناء لا تتحقق إلا عبر وعي الحرية مقروناً بمسار السلام وبناء المجتمع الديمقراطي.
أرجين ديليك أونجل
آمد ـ بينما تواصل النساء نضالهن تحت شعار "القرن الحادي والعشرون سيكون قرن المرأة"، يسعى النظام الذكوري إلى عرقلته عبر تصعيد العنف. فمنذ فجر التاريخ وحتى اليوم، جرى التعامل مع جسد المرأة كغنيمة يجب السيطرة عليها، واستخدامه وسيلة لإيصال رسائل لا تستهدف النساء فحسب، بل أيضاً الشعوب التي ينتمين إليها.
أدركت السلطة أن وجودها مهدد في المجتمعات التي تتمتع بقيم اجتماعية قوية، لذلك تلجأ إلى "الحرب الخاصة" بوصفها هجوماً أيديولوجياً يستهدف بالدرجة الأولى اجتماعية المرأة ودورها في المجتمع.
ومع تحوّل هذه الأساليب إلى سياسة ممنهجة في كردستان، ما زالت آثارها قائمة وتنعكس بوضوح على المجتمع الكردي. وفي هذا السياق، أجابت عائشة غول أياز، عضوة هيئة تحرير مجلة جنولوجيا، عن أسئلتنا حول مفهوم "الحرب الخاصة"، أهدافها، وآليات تطبيقها داخل المجتمع، ولا سيما عبر استهداف النساء.
الحرب عبر التاريخ من السلم الطبيعي إلى العنف المنهجي
وحول مفهوم الحرب وكيف دخل إلى تاريخ البشرية؟ قالت عائشة غول أياز الحرب لم تكن جزءاً أصيلاً من المجتمعات الأولى، إذ عاشت الإنسانية آلاف السنين في إطار اجتماعي سلمي. غير أن ظهور المجموعات المحاربة التي مارست السلب والاستغلال ضد المجتمع الطبيعي، خاصة ضد اجتماعية المرأة، مهّد الطريق لولادة الحضارة الدولتية، ومعها تحولت الحرب إلى ظاهرة منظمة ومنهجية.
وأضافت "منذ ذلك الحين، اتخذت الحروب أشكالاً متعددة حروب الاستغلال، حروب الإمبراطوريات، وصولاً إلى القرن العشرين حيث واجه العالم واقع الحرب العالمية التي جعلت الحرب ظاهرة كونية. فالحرب في جوهرها سلسلة من الهجمات الممنهجة التي يشنها طرف مهيمن لفرض سلطته على جماعة ما، عبر السيطرة على مواردها وقيمها. ومع القرنين التاسع عشر والعشرين، اتسعت رقعة الحرب وأصبحت أكثر عمقاً وتعقيداً".
ولفتت إلى أن القوى المهيمنة أدركت أن الاحتلال المباشر والاستيلاء بالقوة مكلف وغير فعّال، فاتجهت إلى أساليب أكثر نجاعة تقوم على الهجمات الفكرية والأيديولوجية. فالسيطرة على عقل الإنسان ووعيه تمنح هذه القوى قدرة أكبر على إخضاعه وتوظيفه بما يخدم مصالحها. ومن هذا المنظور، يمكن فهم الحرب الخاصة باعتبارها شكلاً جديداً من الحروب، يستهدف المجتمعات عبر اختراق ذهنيتها وتغيير منظومتها الفكرية.
وبيّنت أنه "عند النظر إلى واقع اليوم، يمكن القول إن الحروب خلال المئتي عام الأخيرة اتخذت طابعاً فكرياً وأيديولوجياً بالدرجة الأولى، إذ لم يعد الهدف مجرد السيطرة على الأرض أو فرض نظام استغلال مباشر، بل السعي إلى محو وجود الشعوب أو تحويله، عبر تغيير ثقافتها ووعيها التاريخي وإيمانها بذاتها، وبالنسبة للنساء السيطرة على وعيهن الجنسي وقيم الحرية. هذه العملية تخلق حالة من الاغتراب، تجعل من السهل دمج المجتمعات في منظومة القوى المهيمنة واستغلالها بما يخدم مصالحها.
وأكدت على إنها في جوهرها هجمات أيديولوجية، لكن ذلك لا يعني التخلي عن أدوات الحرب التقليدية؛ فما زالت القنابل تُلقى على المدن، بالتوازي مع استخدام الإعلام والثقافة والفنون والرياضة كوسائل للسيطرة على العقول وتوجيهها. وهكذا يصبح مفهوم "الحرب الخاصة" تعبيراً عن منظومة متكاملة، تجمع بين العنف المادي والهجمات الفكرية، بهدف إخضاع المجتمعات وتحويلها إلى أدوات تخدم مصالح القوى المهيمنة.
الحرب الخاصة في كردستان... سياسات الإنكار والاغتراب ومقاومة الهوية
وحول واقع الحرب الخاصة في كردستان، قالت عائشة غول أياز يتضح أن الشعب يعيش منذ قرن كامل تحت نظام قائم على هذه السياسة بشكل ممنهج. فقد قُسمت حدود كردستان إلى أربعة أجزاء من قبل القوى الأجنبية، ورُسمت خطوط مصطنعة من قبل الدول المهيمنة، الأمر الذي أدى إلى تغريب الشعب عن هويته، وتمزيق مفهوم الانتماء، وتهيئة الأرضية لسياسات تستهدف وجوده.
وأوضحت "في شمال كردستان على وجه الخصوص، شكّل إنكار الوجود الكردي منذ تأسيس الجمهورية وحتى اليوم الركيزة الأساسية لسياسات الحرب الخاصة. فلكي يُفرض على شعب ما الاعتقاد بأنه "لم يعد موجوداً"، مورست بحقه على مدى مئة عام سياسات قاسية للغاية، بدءاً من "خطة إصلاح الشرق"، مروراً بالانتفاضات وما تلاها من تهجير جماعي ومجازر، وصولاً إلى أشكال متعددة من الحرب المباشرة التي استُخدمت لإخضاع الشعب".
ولفتت إلى أنه لا تزال قضية "فتيات ديرسم المفقودات" جرحاً مفتوحاً لم تتم معالجته بعد، وهي من أبرز القضايا التي تتطلب مواجهة جادة. كما أن فتح مدارس البنات في شمال كردستان كان جزءاً من سياسة تهدف إلى نشر النظام التركي المهيمن في أبعد المناطق، عبر القضاء على الهوية الكردية وبناء هوية تركية جديدة، وهو ما يعكس عمق السياسات الممنهجة التي استهدفت المجتمع الكردي.
وعن تطور أدوات الحداثة الرأسمالية المدعومة بالتكنولوجيا، أكدت عائشة غول أياز أن أساليب الحرب الخاصة تعمّقت بشكل ملحوظ. وخلال العشرين إلى الثلاثين عاماً الأخيرة، برز واقع جديد في شمال كردستان يتمثل في حركة الحرية التي انطلقت قبل نحو خمسين عاماً. هذه الحركة جسّدت نضال الشعب الكردي للخروج من دائرة إنكار الهوية، والعودة إلى التلاقي مع ذاته، وإعادة امتلاك هويته.
ولفتت إلى أنه هذا المسار ولّد وعياً متنامياً بالحرية "مكّن الشعب من مواجهة السياسات المفروضة عليه بشجاعة، وأطلق صحوة لإعادة بناء الحياة على أسس جديدة. يمكن القول إن الشعب الكردي يعيش اليوم حالة من اليقظة والوعي، تتجلى في إصراره على الدفاع عن وجوده وهويته، وفي تطور وعيه بالحرية كقيمة أساسية لمستقبله".
ولمواجهة هذه الصحوة، قالت عائشة غول أياز إن القوى المهيمنة لجأت إلى استخدام أدوات الحداثة الحديثة، من وسائل التواصل الافتراضي إلى مختلف وسائل الاتصال، كأدوات للحرب الخاصة، ما جعل السياسات أكثر عمقاً وتأثيراً. ومن الخطأ اختزال الحرب الخاصة في قضايا مثل المخدرات أو الدعارة، فهي تشمل أشكالاً متعددة من السيطرة والقمع. فسكان آمد يعرفون جيداً أن مجرد التعرض اليومي لأصوات الطائرات الحربية يُعد بحد ذاته وسيلة لبث الرعب وخلق مناخ خوف منظم.
وأكدت أنه أيّاً كانت الهوية، امرأة، كردية، علوية أو غيرها، فإن أي خروج عن الإطار الذي يرسمه النظام المهيمن يُواجَه برسائل تهديد تُنقل بطرق مختلفة "شهدنا هذه الأساليب بوضوح في تسعينيات القرن الماضي، حيث جرى تحويل الخوف ـ وهو شعور إنساني طبيعي ـ إلى أداة للحرب الخاصة، عبر نشر صور التعذيب واستخدامها لترهيب المجتمع".
وأضافت "من أبرز الأمثلة ما تعرض له الأطفال الكرد في المدارس الداخلية الإقليمية، حيث جرى تغريبهم عن هويتهم. فالطفل الذي نشأ بلغته الأم كان يُواجه منذ دخوله المدرسة الرسمية اعتبار استخدام لغته أو هويته جريمة. بل إن بعض المعلمين كانوا يطلبون من الطلاب الإبلاغ إذا كان أحد أفراد الأسرة يتحدث بالكردية في المنزل، ليُحوَّل الطفل إلى أداة ضد عائلته ويُستخدم في خدمة سياسات السلطة".
ولفتت إلى أن هذه الممارسات ضمن الحرب الخاصة تشمل أيضاً الاعتقالات، والعمليات العسكرية، والتعذيب، والتهجير القسري، وكلها أدوات ممنهجة لإخضاع المجتمع وإضعاف مقاومته.
الهجرة الحديثة والحرب الخاصة... سياسات تفكيك المجتمع وإضعاف هويته
وحول الهجرة الحديثة بيّنت عائشة غول أياز أنها حلت محلّ الهجرات القسرية التي شهدها القرن العشرون، سواء في بداياته مع التهجير الإجباري أو في تسعينيات القرن الماضي مع إفراغ القرى وفرض نظام الحراس القسري "أما في الوقت الراهن، فإن الحداثة الرأسمالية تستخدم أساليب مختلفة، إذ تقدّم أوروبا أو بيئات أخرى على أنها النموذج الحقيقي للحياة، لتجعل الأرض بلا هوية وتدفع الناس إلى مغادرتها طوعاً. وربما تكون هذه من أبرز القضايا التي تواجه كردستان اليوم، حيث يغادر أبناؤها أراضيهم بإرادتهم، بعد أن استُخدم العامل الاقتصادي كأداة ضغط أساسية".
ولفتت إلى أنه في الوقت نفسه، تحولت وسائل التواصل الافتراضي إلى أداة خطيرة لتشويش هوية المرأة، عبر خلق حالة من الغموض حول ما هو صحيح وما هو خاطئ، وما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، لتوليد فوضى فكرية. وهكذا يُدفع الفرد إلى الاعتقاد بأن كل شيء ممكن، ويُغرق في عالم افتراضي يجعله غير مبالٍ بما يحدث في الواقع، ليصبح أداة بيد النظام لاستمرار وجوده.
وخلصت إلى أن الغاية الأساسية هي السيطرة على الوعي؛ فبتجريد الفرد من وعيه وإرادته بالحرية، يتحول إلى شخص خاضع لكل ما يُفرض عليه، فاقد القدرة على المقاومة أو الرفض.
وأكدت عائشة غول أياز أن الهجمات التي تمنع الشعب من حريته وتُحدث صدمات متتالية تُعد جزءاً من الحرب الخاصة. فمنذ عام 2015 وما بعده، ومع انطلاق ثورة روج آفا، تصاعدت هذه الهجمات بشكل ملحوظ. وقد استُخدم الانقلاب الفاشل كذريعة، وبموجب المراسيم التشريعية الطارئة جرى قلب القوانين رأساً على عقب "أُحرق الناس في الأقبية، ثم تلت ذلك تعيين أوصياء، وعمليات واسعة النطاق، واعتقالات، وهجمات عنيفة واجهها الشعب الكردي".
وأضافت "علاوة على ذلك، لم تتوقف السياسات عند هذا الحد، بل خلال السنوات العشر الأخيرة نُفذت برامج تهدف إلى تغريب المجتمع عن ذاته. فقد انتشرت المخدرات، والدعارة، والسرقة، والفقر، وأنشطة التجنيد الاستخباراتي بشكل مكثف. وفي إطار بعض أعمالنا الميدانية وزياراتنا للأسر، كان الجواب المتكرر "في السابق، كان كل شخص يعرف جاره، أما اليوم فلم نعد نعرف من هو جارنا".
ولفتت إلى أن "تغيير البنية الديموغرافية كان مقصوداً، إذ جرى تفكيك الروابط الاجتماعية وعزل الأفراد. من جهة أخرى، حُبست النساء داخل المنازل، وحُكم عليهن بالعيش في ظروف منعدمة الأمان، بينما عمّق الفقر هذه المعاناة أكثر فأكثر. وفي النهاية، لم يُترك أمام المجتمع سوى خيارات مدمرة مثل المخدرات، العمالة الاستخباراتية، العصابات، والدعارة، لتُطرح كسبيل وحيد للبقاء".
وبينت أن الشعب تعرّض لسلسلة من الهجمات المتتالية "قبل أن يستوعب ما حدث له كان يواجه موجة جديدة، وقبل أن يدركها كانت تأتي اعتداءات أكبر وأشد. هذه السياسة وصلت في مرحلة معينة إلى حد شلّ إرادة الحرية نفسها. ومع ذلك، لم يتخلَّ الشعب الكردي عن هويته ولم يعرف الاستسلام، بل أظهر إرادة صلبة في مواجهة كل هذه الضغوط".
وأضافت "في المقابل، تسللت إلى المجتمع تدريجياً تيارات دينية تحت ستار الأصولية الدينية، ونشأت جماعات وطرق مختلفة. فقد شهدت المدن مداهمات للمقاهي في الشوارع، وتهديد النساء في منازلهن، واقتحام المقاهي، واندلاع اشتباكات مسلحة. كل ذلك كان يهدف إلى خلق عنصر خوف دائم في حياة الناس"، مشيرةً إلى أن محاولة زرع الرعب في هذه المدينة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن السياق التاريخي، بل يجب فهمها كجزء من مسار طويل من السياسات التي تستهدف المجتمع الكردي، وتعمل على تفكيكه وإضعافه عبر أدوات متعددة، من القمع المباشر إلى نشر الفوضى الدينية والاجتماعية.
عنف الرجل- الدولة... هجمات ممنهجة تستهدف المرأة والهوية الحرة
ومع اقتراب الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، لفتت عائشة غول أياز إلى أنه يبرز موضوع عنف الرجل-الدولة كأحد العناوين الأساسية التي يجب التوقف عندها. فهذا العنف لا يقتصر على القتل المباشر أو الاعتداء الجسدي، بل يتجاوز ذلك ليضرب في عمق المجتمع. فالشباب، باعتبارهم أمل الشعوب ومستقبلها وقوتها الديناميكية، هم الفئة الأكثر حضوراً في الميادين، الأكثر احتجاجاً وتفكيراً وتساؤلاً، ولذلك كان استهدافهم هدفاً رئيسياً "تعرضت الشابات لهجمات تهدف إلى محو وعيهن الجنسي والهوياتي، وقد تحولت أسماء مثل إيبك إر، كلستان دوكو، روجين كباياش، ونارين كوران إلى رموز لهذه القضية، في حين أننا نتابع آلاف القضايا الأخرى. نحن نسعى إلى كشف الشبكة الفضيعة والمنهجية التي تقف خلف هذه الجرائم، حيث لم يكن ارتباط وفاة إيبك إر بعنصر عسكري مثل موسى أورهان صدفة، بل جزءاً من ممارسة معروفة في شمال كردستان، حيث يُستغل الجيش والشرطة للتلاعب بمشاعر الشابات وتوظيفهن كسلاح ضد مجتمعهن".
وأوضحت أن "هذه الأحداث ليست فردية، بل جزء من منظومة عنف ممنهج. فالدولة التي تستطيع العثور فوراً على شاب يرفع شعاراً، تعجز عن العثور على كلستان دوكو المفقودة، وهو ما يكشف عن حقيقة مخفية. وفي وفاة روجين كباياش أيضاً ظهرت شكوك مشابهة، حيث تدخلت إدارة الجامعة، وتصرف جهاز الأمن بشكل مشبوه، وحتى هيئة الطب الشرعي اتخذت موقفاً منحازاً للرجل. كل ذلك يؤكد أن ما يجري ليس وقائع معزولة، بل هجمات منظمة تستهدف المرأة الشابة الحرة، والهوية النسائية الحرة، في محاولة لإخضاعها وكسر إرادتها".
وأوضحت عائشة غول أياز أنه واقع ذكوري قائم لا يقبل المرأة إذا لم تتوافق مع مقاييسه، فيمارس ضدها العنف، وإذا لم يكفِ العنف يصل الأمر إلى القتل، ثم يُبرَّأ عبر القضاء ليكتسب من ذلك جرأة أكبر على مواصلة جرائمه "الأخطر من ذلك أن أنقى المشاعر الإنسانية مثل الحب والعشق تُحوَّل إلى أدوات حرب، حتى تُدفع المرأة أحياناً إلى التعلق بجلادها".
وتطرقت لحادثة وقعت في مدينة آمد "شهدنا حادثة لامرأة قدّمت نفسها بهوية مناضلة باسم الحرية، لكنها أجبرت شابات يعملن في مقهى على ممارسة الدعارة. هذه القضية تستحق التفكير العميق، لكنها في الوقت نفسه تتطلب سياسات جدية لمواجهتها، إذ يسعى النظام بإصرار إلى إبقاء مثل هذه المسائل في الظلام".
وأكدت أن أساليب العنف تتغير باستمرار "بما أن طرقه تتبدل، فإن أساليبنا في مواجهته يجب أن تكون أكثر ثراءً وإبداعاً. نحن أمام مرحلة تتطلب جهداً مكثفاً لإغلاق الفجوة التي يُراد فتحها بيننا وبين المجتمع، ولإزالة المسافات التي يُراد فرضها بيننا وبين النساء، عبر عمل أكثر عمقاً واتساعاً يرسّخ التضامن ويعزز المقاومة".
الفقر والاغتراب الثقافي... المرأة والطفل في مرمى الحرب الخاصة
وأشارت عائشة غول أياز أنه "بصفتنا جمعية أكاديمية المرأة أجرينا دراسة ميدانية خاصة بمنطقة سور، ونخطط لعرض نتائجها قريباً أمام الرأي العام. ركّزنا بشكل أساسي على ما عاشه السكان خلال السنوات العشر الأخيرة، ولا سيما النساء، فجاءت النتائج أكثر خطورة مما توقعنا. ففي الماضي كانت هذه الأحياء تتميز بروح جماعية قوية، حيث لم تكن النساء محصورات في المنازل، بل كنّ يخرجن بحرية ويعبرن عن هويتهن بلا خوف. أما اليوم، فقد أكدت النساء أنهن يخشين الخروج أو التصريح بهويتهن، بعدما فُرض عليهن فقر مدقع جعل بعضهن مضطرات لغضّ الطرف حتى عن تجارة المخدرات".
وأضافت "حتى الأطفال، حُرموا من التعليم بلغتهم الأم، ومن النمو في إطار ثقافتهم الخاصة، وهو ما يعكس سياسة ممنهجة انتهجتها الدولة منذ قرن كامل. وقد أظهرت دراساتنا الميدانية أن الأطفال يُدفعون عمداً نحو مستقبل مجهول، عبر تشجيعهم على التماهي مع ثقافات غريبة".
وفي مشهد صارخ للتناقض، قالت "نجد أن بعض شوارع سور تعيش حالة من الفقر العميق، بينما إلى جانبها مقاهٍ تعرض حياة مترفة. هذا التباين يترك أثراً بالغاً على وعي الأطفال، إذ يربطون بين ما يشاهدونه في المسلسلات أو على وسائل التواصل الافتراضي من مظاهر الرفاهية، وبين الوصول إليها عبر طرق قصيرة لكنها قائمة على علاقات مشبوهة. وهكذا يسقطون في براثن شبكات مظلمة تُبعدهم عن قيم الحرية التي كان يُفترض أن تُبنى في تلك البيئة".
ولفتت إلى أنه عند الحديث عن آمد أو سور بشكل خاص، يظهر أن فقر النساء يقود إلى نتائج سلبية متعددة. فالشابات يُجبرن على العمل في ظروف غير آمنة ودون أي ضمانات، بينما تُحبس النساء داخل المنازل، ولا يُعرف إن كنّ يتعرضن للعنف أو الاغتصاب أو أشكال أخرى من الانتهاكات إلا بعد الدخول إلى تلك البيوت. وهذا في جوهره يمثل حالة من التدهور الثقافي.
وخلصت إلى أن الغاية لا تقتصر على محو اللغة أو الثقافة أو التقاليد، بل تتعدى ذلك إلى منع قيام مجتمع قابل للحياة "غياب بناء منظومة حياتية متوازنة هو بحد ذاته شكل خطير من الاغتراب الثقافي. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إننا رصدنا بوضوح النتائج المدمرة لكل هذه السياسات التي تُمارس كجزء من الحرب الخاصة ضد المجتمع، والتي تستهدف تفكيكه وإضعافه عبر المرأة والأطفال على وجه الخصوص".
السلام والديمقراطية بين مقاومة العنف وتعزيز وعي المرأة
وأوضحت عائشة غول أياز أن الرجل الذي يمارس القتل أو الاغتصاب أو العنف يجد نفسه محمياً بشكل كبير من قبل القضاء؛ فبمجرد أن يرتدي ربطة عنق ويقول "أنا نادم"، يحصل على تخفيف في العقوبة. والأسوأ أن الرجال الذين يعتقدون أن لهم سنداً أو نفوذاً يمارسون اعتداءاتهم بوحشية أكبر، في ظل واقع ذكوري متجدد يُعاد إنتاجه باستمرار "عسكرة المجتمع، وما يعيشه الناس من ضغوط هائلة، وفقر وجوع، وغياب المساحات الاجتماعية للتعبير عن الذات، وانعدام العدالة، وغياب الفضاءات الثقافية، كلها عوامل تنعكس في النهاية على شكل عنف موجّه ضد المرأة".
وفي سياق بناء الذكورية، أشارت إلى أن "الرجل الذي يتعرض للاضطهاد من طبقة أو قوة أخرى، نجده يعود إلى بيته ليُفرغ ذلك القهر في المرأة، فيمارس ضدها العنف كوسيلة للتنفيس. ولهذا فإن هذه السياسات جميعها تتحول إلى حالة خطيرة من الاغتراب، وتنعكس يومياً على النساء في صورة عنف ممنهج ومستمر".
وأوضحت "نحن اليوم في مرحلة نناقش فيها مسار السلام وبناء المجتمع الديمقراطي، ونؤكد باستمرار أن اجتماعية السلام قضية جوهرية بالنسبة للنساء. فإلى جانب ذلك، تقع على عاتقنا مسؤوليات كبيرة: مواجهة العنف، تعزيز وعي المرأة، العمل على تغيير الذهنية السائدة، وبناء فضاءات حياتية مستقلة لها".
وعن أبرز السياسات التي نفذها الأوصياء، قالت "إغلاق المؤسسات النسائية، في محاولة للتغطية على العنف واستخدامه كسلاح ضد المرأة. لكننا نقول اليوم، إن المؤسسات في آمد التي أعيد فتحها لمواجهة العنف تتحمل مهام جسيمة. المطلوب أن نطرق كل باب، ونتعرف على قصة كل امرأة خلفه، وأن ننفذ أعمالاً ميدانية في القرى والأحياء. كما ينبغي أن تُقام ورش عمل وحملات توعية جدية لتعريف المجتمع والنساء بماهية العنف، ولإطلاق مسارات فكرية تعزز القوة وتفتح الآفاق وتضيء الطريق".
وأكدت عائشة غول أياز على المسؤولية الواقعة على عاتق المجتمع بأسره "العائلات مطالبة بأن تكون أكثر نقداً وتساؤلاً، وأن تربي أبناءها وفق ثقافتها ومعايير الحرية. من الضروري أن نعمل على جعل الأسرة أكثر ديمقراطية، وأن نُظهر حساسية تجاه أي حدث يقع بجوارنا. فالنظام يسعى إلى تكريس الفردية، ويغرس في المجتمع عقلية "ما دام الثعبان لا يمسني فليعش ألف عام". لكن الحقيقة أن كل ما يحدث هو شأن اجتماعي، ولا يوجد أي توجه فردي بمعزل عن المجتمع.
وقالت عضوة هيئة تحرير مجلة جنولوجيا عائشة غول أياز في ختام حديثها "علينا أن نُنشئ ردود فعل جماعية، ونبني وعياً وتنظيماً مجتمعياً، وأن نعزز العمل المشترك مع الحركة النسائية. فإذا كان هناك بناء للسلام، فلن يتحقق إلا بهذه الطريقة. وإذا كان هناك بناء لمجتمع ديمقراطي، فلن يتطور إلا عبر هذه الأساليب والآليات".