نساء القصرين يُجددن الموروث التقليدي بما يتماشى مع روح العصر

أكدت الحرفيات التونسيات على أهمية الحفاظ على التراث التقليدي باعتباره رمزاً للهوية الثقافية، حيث يسعين إلى تطوير الأزياء التراثية بإضافة لمسات عصرية لتواكب الحداثة.

إخلاص حمروني

تونس ـ لا تعتبر التونسيات اللباس التقليدي أنه مجرد زي، بل روح الجهة وهويتها، حيث تحافظن على هذا الإرث العريق، وتطورنه ليبقى شاهداً على أصالة المنطقة ومتجدداً بروح الأجيال القادمة.

في محافظة القصرين التونسية، تتجلى روح الأصالة في أيدي نساء استثنائيات، يحملن تراثاً عريقاً كأنه نفَس الزمن المتجدد، إنهن أكثر من مجرد حرفيات؛ هنّ حارسات لذاكرة جماعية، وسفيرات لثقافة محلية متجذرة في التاريخ، بإبداعهن وبصبرهن، ينسجن من خيوط الماضي لوحات تحاكي الهوية والانتماء، محافظات على اللباس التقليدي التونسي ليبقى شاهداً على عراقة الجهة وأصالتها، فكل غرزة في نسيجهن تحكي قصة مقاومة، كل تطريز يحمل روحاً من الصمود، وكل قطعة تروي حكاية عشق للتراث لا يتلاشى مع الزمن.

وفي هذا السياق، تؤكد وحيدة سعدي، الحرفية المتخصصة في الاكتساء والتطريز في الزي التقليدي منذ عام 1990، أن هذا الإرث "يمثل روح الجهة وهويتها"، معبرة عن ارتباطها العميق بهذا التراث العريق.

وأشارت إلى أنها بدأت رحلتها في هذا المجال من مركز تكوين مهني في العاصمة، حيث حصلت على شهادة اختصاص في اللباس التقليدي، ثم واصلت مسيرتها لتطوير خبرتها، متخذةً قراراً بالتعمق في أزياء ولايتها التي تزخر بأنماط تراثية متنوعة وغنية، فمن خلال مهارتها وإبداعها، تساهم في الحفاظ على هذا التراث ونقله للأجيال القادمة، مجسدةً الهوية الثقافية لمنطقتها عبر كل غرزة وتطريز.

وأوضحت أنها اختصّت في صناعة "محرمة الكتان"، التي تعرف أيضاً بـ "المحرمة المزهّرة"، إلى جانب "ملحفة حبّ الرمّان" و"التلحيفة"، وهي أزياء تقليدية تتميّز بها مدن فوسانة، وحيدرة، وتالة في محافظة القصرين وسط تونس، لافتةً إلى أنها عملت على إعادة ابتكار هذه القطع بلمسة عصرية، محولة إياها إلى تصاميم حديثة مثل "الفوطة والبلوزة"، مع الحفاظ على ألوانها التقليدية، خاصة الأسود الذي يميز مناطق فريانة، سبيطلة، والعيون، ولم تكتفِ بذلك، بل أدخلت عليها التطريز والوشم البربري، مما أضفى عليها طابعاً يجمع بين الأصالة والحداثة، ليكون هذا المزيج تجسيداً حياً للتراث المتجدد.

ومشاركاتها في فعالية "الخمسة الذهبية"، من خلال ثلاث مجموعات من اللباس التقليدي للمناسبات والاستخدام اليومي، أثمرت بتكريمات على المستويين الجهوي والوطني، وقد عزز هذا النجاح قناعتها بأهمية الحفاظ على هذه الحرفة العريقة وتطويرها بما يتماشى مع تطلعات الأجيال الجديدة.

ونوهت إلى أنها قامت بتجديد "البخنوق القصريني"، الذي كان يُصنع في الأصل باللون الأبيض ثم يُصبغ بالأحمر، حيث أعادت إنتاجه باللون الأبيض مع إدخال تطريز عصري يعكس الذوق الحديث، ليحافظ على أصالته ويواكب متطلبات العصر.

 

الحفاظ على التراث وتطويره

ويعمل فريق وحيدة سعدي غالباً في أرياف المعتمديات، حرصاً على استمرار هذه الحرفة وعدم اندثارها كما أوضحت، لافتةً إلى أن جهودهم لم تقتصر على الحفاظ على التراث فحسب، بل توسعت لتشمل تقديم أزياء حديثة تستلهم روح الهوية التقليدية، مما يعكس مزيجاً متناغماً بين الأصالة والتجديد "اللباس التقليدي هو أكثر من مجرد زي؛ إنه رمز لهوية الجهة، وحمايته مسؤولية جماعية"، مشددةً على أهمية التكاتف للحفاظ عليه وتطويره.

كما لفتت إلى دورها الفاعل في تمكين المرأة اقتصادياً، سواء في الأوساط الريفية أو الحضرية، حيث استطاعت تدريب وتأهيل نحو ألف حرفية في ثلاث محافظات حتى الآن، إضافةً إلى تدريب سنوي يشمل ما بين عشر وخمس عشرة حرفية، يلتحقن لاحقاً بالتعاونية الاجتماعية للاقتصاد التضامني، مساهمات بذلك في تعزيز الاستقلال الاقتصادي للمرأة وإحياء التراث الثقافي في آنٍ واحد.

وتعمل حالياً على دراسة فرص تسويق منتجاتها خارج تونس، مستهدفةً الأسواق العربية والأوروبية، بهدف نشر هذا الإرث الثقافي وتعزيز حضوره عالمياً، مشيرةً إلى أن الغاية الأساسية من هذا المسعى ضمان انتقال الحرفة عبر الأجيال، بحيث تستمر الفئة الشابة في الحفاظ على الموروث التراثي الذي يعكس هوية الجهة وتاريخها العريق.

وأكدت على مدى ارتباطها الشخصي والعاطفي بالتطريز، مشيرةً إلى أنها ورثت هذا العشق عن والدتها، التي كانت تحرص على تعليم بناتها فنون التطريز للحفاظ على "الرمز والموروث القصريني"، ومنع اندثاره أو نسيانه، ليبقى شاهداً على الأصالة والتجذر في الثقافة المحلية.

 

 

التطريز التقليدي بين الحفاظ على الأصالة وتجديد الهوية

من جانبها، شددت الحرفية المتخصصة في التطريز اليدوي التقليدي ملاك السعدي، على أن ما تمارسه ليس مجرد إعادة إنتاج للأشكال القديمة، بل عملية تطوير مدروسة وإبداعية، حيث يتم تطويع الحرف اليدوية التراثية لتصبح أكثر انسجاماً مع متطلبات العصر.

وقد ورثت ملاك السعدي هذه الحرفة عن والدتها، التي بدورها تلقتها عن جدتها، مما جعلها حلقة جديدة في سلسلة نسائية متعاقبة حافظت على هذا الفن جيلاً بعد جيل، مؤكدةً أن الحفاظ على التراث لا يعني الجمود، بل يتطلب تحديثاً واعياً يواكب التغيرات دون المساس بجوهر الأصالة.

وأضافت "نحن لا نكتفي بتطريز القطع اليدوية التقليدية، بل نعمل على تطويرها وتحويلها من كونها مجرد أزياء خاصة بالمناسبات والأعراس إلى تصاميم حديثة تُناسب الاستخدام اليومي، مما يتيح للمرأة إمكانية ارتداء التراث بروح معاصرة".

ويظل اللباس التقليدي للجهة حاضراً بقوة، حيث يشهد اهتماماً متزايداً من قبل الفئة الشابة، كما أوضحت ملاك السعدي، فاليوم يُصنَّع من أنواع متنوعة من الأقمشة، ومنها الصوف، مع الحفاظ على جوهره التراثي وإضفاء لمسات عصرية عليه، كما أن العديد من الرجال والنساء عادوا إلى ارتداء الملابس التقليدية المطرزة، مثل "الفوطة" و"القفطان"، تقديرًا لجمالها وقيمتها الرمزية.

 

الحرفية التقليدية والتجديد العصري

ولفتت إلى الفئة الشابة أصبحت أكثر اهتماماً بالتطريز اليدوي، لما يمثله من توازن بين التراث العريق والتصاميم الحديثة، ورغم هذا التطور الإيجابي، لا تزال هناك تحديات كبيرة، لاسيما في مجالي التسويق والترويج، فهناك شريحة من المجتمع لم تدرك بعد القيمة الحقيقية لهذا التراث أو كيفية الحفاظ عليه بأسلوب يجمع بين الحداثة والاستدامة.

لكنها نوهت إلى أن الوعي بأهمية الحرف اليدوية أصبح يتزايد، حيث بات الناس أكثر اهتمامًا بتعلم هذه المهارات وربطها بالتصاميم العصرية، مؤكدة على أن "التراث التقليدي، سواء في القصرين أو في مختلف المحافظات التونسية، بدأ يستعيد مكانته بفضل جهود الحرفيات اللواتي يعملن على تطويره وتبسيطه ليكون أكثر جاذبية وسهولة في الاستخدام".

وأشارت ملاك السعدي إلى أن ارتفاع تكلفة المواد الأولية يشكل تحدياً كبيراً، نظراً لاعتمادهن على خامات ثمينة مثل السمسم، العدس، الفضة، والكريستال، مما يزيد من تكاليف الإنتاج "نحن الحرفيات في الجهة أخذنا على عاتقنا مسؤولية نقل الحرفة إلى الفتيات، ليس فقط لتمكينهن اقتصادياً وتأمين مصدر رزق، بل أيضاً للحفاظ على هذه الحرفة من الاندثار وتطوير اللباس التقليدي ليواكب العصر بأسلوب عصري ومستدام".

وفي ختام حديثها أكدت على أهمية دعم الفتيات والنساء من خلال منحهن امتيازات وتشجيعهن على الحفاظ على الموروث الثقافي الذي تناقلته الأجيال، مع إتاحة الفرصة لهن للابتكار وفق متطلبات العصر، مشيرةً إلى الحماس الذي يبديه الجيل الجديد لتعلم هذه الحرف، مؤكدةً أن الجهود تبذل لضمان استمرارية تقاليد الجهة وتراثها العريق، وشددت على ضرورة عدم التفريط بهذا الإرث، بل يجب غرس قيم المحافظة عليه في الأجيال القادمة ليظل حيّاً ومتجدداً.

 

 

اللباس التقليدي رمز للهوية الثقافية

والحرفية بشرى عمري، أيضاً تؤكد على أن النساء في منطقتها يحرصن على الحفاظ على اللباس التقليدي الذي يعكس هويتهن الثقافية ورمزيته العريقة، مشيرةً إلى أنهن ما زلن يرتدين الملحفة، وهي قطعة قماش واسعة تُلف حول الجسم، غالباً سوداء أو ملوّنة، وتعتبر جزءاً أساسياً من اللباس النسائي التقليدي، خاصة في القصرين، كما يستخدمن الحزام، وهو شريط عريض يُربط حول الخصر لإضفاء لمسة من الأناقة على اللباس التقليدي، وغالباً ما يكون مطرزاً أو مصنوعاً من قماش سميك.

إضافة إلى ذلك، لا يزال "مريول فضيلة" حاضراً كأحد الملابس النسائية التقليدية ذات التطريز اليدوي المميز، وكان يُرتدى في المناسبات وأيضاً في الحياة اليومية، أما "الخلخال" ذلك السوار الفضي الذي يُزين الكاحل، فيبقى من الإكسسوار التقليدي الذي يحمل رمزية ثقافية وجمالية كبيرة، وتشير بشرى عمري إلى استمرار استخدام "المشطة" وسلسلتها الفضية، إضافة إلى الإكسسوار اليدوي التقليدي الذي ما زالت الأمهات يحرصن على ارتدائه، مما يعكس ارتباط الأجيال بهذا الإرث العريق.

 

التطريز اليدوي فن يعكس الهوية

وعن شغفها بالموروث التقليدي تقول أنها ورثته عن والدتها التي لا تزال تحافظ على ارتداء القطع التقليدية، لافتةً إلى أنها اختارت تعلم فن التطريز لإبراز مهاراتها وإثبات ذاتها، وبدأت في المشاركة بالمعارض التي تُقام في محافظات مثل تونس، سوسة، والمنستير، إيماناً منها بأهمية الحفاظ على هذه الحرفة العريقة في ظل قلة الترويج لها، رغم جودة العمل والحرفية العالية.

وعن التحديات التي تواجه الحرفيات، تقول أن ابرزها ارتفاع أسعار المواد الأولية وصعوبة الحصول عليها، مما يضطرهن إلى السفر إلى صفاقس لتأمينها، ورغم هذه التحديات، أكدت أن الفئة الشابة في الجهة أصبحوا أكثر تعلقاً بالحرف التقليدية، حيث يحرصون على استلهام الموروث الجهوي وإضافة لمسات عصرية إليه، مشددةً على ضرورة تكثيف الجهود لتعريف الناس بهذه الحرف وتوسيع دائرة انتشارها، وأن الحفاظ على هذا الموروث التقليدي واجب، لأنه يعكس ثقافة جهة القصرين ويمثل هويتها العريقة.