المرأة الليبية وحكايات الليل... تراث يُروى ويتجدد عبر الأجيال
أكدت الباحثة المتخصصة في التراث الشعبي، أن التراث كائن حي يتفاعل ويتشكل عبر الزمن، مشيرةً إلى أن المرأة الليبية لم تكن فقط راوية للحكاية، بل مساهمة في إعادة تشكيلها بأساليب حديثة دون أن تفقد جوهرها الأصلي.

ابتسام اغفير
بنغازي ـ يحمل التراث الشفهي الليبي بين ثناياه ذاكرة شعب حيٍّ وملامح هوية متجذرة، تمتد جذورها عبر الأجيال، وتتجلى من خلال الحكايات الشعبية والأمثال والأغاني والألعاب التقليدية، إلى جانب أشكال التعبير الشفوي الأخرى التي تنسج وجدان المجتمع.
في قلب هذا المشهد الثقافي النابض، تبرز المرأة الليبية بصفتها الراوية الأولى والحارسة الأمينة لهذا التراث، إذ قامت بدور الأم والجدة والناقلة، التي تتفنن في سرد الحكايات، وتنقلها بعفوية ودفء من جيل إلى آخر، محافظة بذلك على نبض الذاكرة الجمعية وروح الثقافة الليبية.
مع تطور وسائل الاتصال الحديثة، برزت أشكال مبتكرة للتوثيق والترجمة الرقمية للتراث الشفهي، مما أثار تساؤلات عميقة حول كيفية الحفاظ على جوهر الحكاية وسط زخم الحداثة الرقمية، هل يعني التحديث إقصاءً للأصالة أم يمثل فرصة لإحيائها بأسلوب معاصر؟ وما الدور المتجدد الذي يمكن أن تؤديه المرأة في هذا المشهد المتحول؟
من فضاء الرواية الشفوية التقليدية إلى رحاب التوثيق الرقمي المعاصر
وفي إطار لقاء ملهم اتسم بعمق الطرح، تحدثت سكينة بن عامر الباحثة المتخصصة في التراث الشعبي وأستاذة الصحافة بجامعة بنغازي، عن الحضور اللافت للمرأة الليبية في التراث الشفهي، مسلطة الضوء على انتقال هذا الإرث الثقافي من فضاء الرواية الشفوية التقليدية إلى رحاب التوثيق الرقمي المعاصر.
وبرؤية أكثر عمقاً ومنطقية، قدّمت تصوراً متوازناً لمفهوم التراث، مؤكدة أن التراث ليس مجرد كيان ثابت، بل هو كائن حيّ نابض، يتفاعل مع التحولات المجتمعية، ويعيد تشكيل ذاته باستمرار وفقاً للتغيرات في المفاهيم والوسائل.
وأوضحت أن الحكايات الشعبية، كـ "نُصّ انصيص"، لا تبقى على هيئة واحدة، بل تتخذ أشكالاً متعددة مع مرور الزمن، فشقيقها الأكبر كان يرويها بأسلوب مختلف عن طريقتها، وقد تحولت لاحقاً إلى مسلسل إذاعي، واليوم نجد الأطفال يستعيدونها بطرائقهم الخاصة، مما يعكس قدرة التراث على التجدد والتكيف مع السياقات الجديدة.
وترى أن التحول في تقديم التراث ليس تشويهاً، بل هو انعكاس طبيعي لطبيعة العصر وتغيراته، فالتراث، كما تؤكد، ليس حالة جامدة، بل كيان حيّ يتفاعل مع المتغيرات المجتمعية، ويُعاد تشكيله من جيل إلى آخر، وهو ما يبقيه حياً ومتجدداً.
شكله متغير بينما جوهره ثابتاً
وتعتمد في تعريفها للتراث الشفهي على اعتباره "ذاكرة الأمة"، بما تحمله من قصص وأمثال وأغانٍ وأزياء وألعاب، فهو مستودع للوجدان الجمعي، يتغير شكله بتغير الزمن، بينما يبقى جوهره ثابتاً.
واستحضرت سكينة بن عامر، موقفاً حين روت لأبناء شقيقتها حكاية "سبع أمعيزات"، لكن ردّ فعل الأطفال جاء مختلفاً؛ إذ قابلوا الحكاية بمنطق يثير الدهشة، متسائلين عن كيفيّة شق بطن الذئب دون ألم أو تخدير، في تناقض واضح مع جيلها الذي اعتاد استقبال الحكاية بضحكة بريئة.
من هذه التجربة، تؤكد على ضرورة تطوير أدوات وأساليب جديدة تواكب عقلية الأجيال الصاعدة، دون أن تُفقد القصة روحها الأصيلة، فالتهذيب، كما تقول، لا يعني التغيير، بل التطوير الذكي، الذي يحفظ الجوهر ويعيد تقديمه بأسلوب أكثر عقلانية وجاذبية.
للنساء دوراً جوهرياً في حفظ التراث الشفهي
وفي سياق مشروعها الثقافي، تشير إلى مبادرتها في توثيق الألعاب الشعبية الليبية من خلال كتابها "طيارة ورق"، الذي جمع 103 لعبة، قدمتها كما هي، لكنها ربطتها بالعصر الرقمي باقتراح تحويلها إلى تطبيقات وألعاب إلكترونية، حفاظاً على ذاكرة اللعب الشعبي، وتقديمها للأجيال الجديدة بلغتهم الخاصة.
وترى سكينة بن عامر أن للنساء دوراً جوهرياً في حفظ التراث الشفهي، فهن الناقلات للقصص والأغاني والأمثال، تبدأ الحكاية من لحظة تهويدة تُغنيها الأم لطفلها، وتنتقل من جيل إلى آخر كوصية وجدانية، تتجاوز كونها مجرد قصة، لتتحول إلى رابط روحي يُغرس في وجدان المجتمع.
تتوقف بتأمل عند العلاقة بين الحكاية والليل، مشيرة إلى أن الجدّات لم يخترن هذا التوقيت عبثاً؛ فالليل زمن الراحة والسكينة، بخلاف النهار الذي يرتبط بالعمل والانشغال، وحتى التحذير الشعبي من رواية الحكايات نهاراً، الذي يصف من يفعل ذلك بصفات غير محببة، لم يكن قولاً عشوائياً، بل يحمل حكمة تربوية تكرس مفهوم التوقيت المناسب للحكاية وتأملها.
وفيما يتعلق بالإعلام، ترى أن له دور بالغ الأهمية في إحياء التراث الشفهي ونشره، معبرة عن أسفها لانعدام الدعم المؤسسي والتمويل اللازم، ما جعل الكثير من جهودها البحثية، ومن ضمنها مخطوطات ثمينة جمعتها من والدتها وجدتها، تظل حبيسة الأدراج، دون أن تجد من يتبناها أو يحولها إلى محتوى مرئي أو رقمي.
فروق بين المدن والقرى في طريقة التفاعل مع هذا الإرث
ومن خلال جمعها للألعاب الشعبية من مختلف المناطق الليبية، رصدت فروقاً واضحة بين المدن والقرى في طريقة التفاعل مع هذا الإرث؛ ففي مدن مثل "هون"، وجدت سرداً حياً وحنيناً عميقاً للتراث، بينما لاحظت في المدن الكبرى كطرابلس وبنغازي نوعاً من التحفظ والبعد عن التفاعل الحقيقي، وكأن الحكايات تُعرض كمشهد مصور لا يُعاش، وهذا التفاوت برأيها، لا يعود لاختلاف الأشخاص بقدر ما يرتبط بالبيئة ونمط الحياة السائد في كل منطقة.
ومع هيمنة الإنترنت وتداخل الثقافات، لاحظت أن الرواية الشفوية فقدت كثيراً من حضورها ونقائها، إذ بات من تسألهم عنها يجيبون "نسيت"، في مؤشر على انشغال الناس بالشاشات وابتعادهم عن فضاء الحكي التقليدي، رغم ذلك، تُبدي سكينة بن عامر تفاؤلاً في كون بعض القرى الصغيرة ما تزال تحتفظ بهويتها الثقافية، وتحافظ على نبض الحكاية الشعبية التي تُغرس في الوجدان دون أن تخبو.
وتؤمن بأن التوثيق الرقمي يشكل امتداداً طبيعياً للرواية الشفوية، شرط أن يُستخدم بعناية ووعي، خاصة في ظل الإقبال المتزايد على المحتوى الرقمي مقارنة بالكتب الورقية، لكنها تحذر من الرقمنة العشوائية، مشددة على أهمية تهذيب المحتوى قبل نقله، نظراً لما قد يتضمنه من رسائل غير تربوية أو صور نمطية، خصوصاً فيما يتعلق بعلاقة المرأة والرجل، والتي لم تعد تتماشى مع معايير الوعي الحديث.
وترى أن هذا الواقع يحمل في طياته تحدياً وفرصة؛ إذ يمكن تسخير أدوات التوثيق الرقمي لترسيخ القيم الإيجابية في التراث، والتخلص من المضامين السلبية، من خلال سرد مدروس ومهذب يجمع بين الأصالة والتربية المعاصرة، محافظاً بذلك على نبض الحكاية وروحها الإنسانية.
في ختام حديثها، دعت الباحثة المتخصصة في التراث الشعبي سكينة بن عامر، إلى وقفة تأملية حول مستقبل الرواية الشفهية، مؤكدة أن الحفاظ على التراث لا يعني تجميده في الزمن، بل يستدعي تنقيته وتفعيله بأدوات جديدة، تضمن استمراريته ونقله للأجيال دون أن يُمحى من الذاكرة.