يسرى فراوس: غياب الإرادة يؤدي إلى تأجيج العنف ومجلة الأحوال الشخصية لم تؤدي دورها المطلوب (1)

ـ واقع النساء اليوم في تونس بات مُقلقاً خاصة مع ارتفاع الأرقام المسجلة التي تحكي قصص عنف خطيرة وجب الوقوف عندها

وباء العنف فاق وباء كورونا في تونس  
زهور المشرقي
تونس ـ واقع النساء اليوم في تونس بات مُقلقاً خاصة مع ارتفاع الأرقام المسجلة التي تحكي قصص عنف خطيرة وجب الوقوف عندها. واقع يبعث على القلق العميق مع ضعف دور حقيقي تستحقه المرأة في المجتمع للدفاع عن حقوقها، والدفع نحو سن تشريعات أقوى تحميها من العنف والنظرة الذكورية المتسلطة، هذا الواقع يدعو نساء تونس إلى مزيد من النضال لتغييره وتطوير مشاركتهنَّ في الحياة العامة بما يتناسب مع قيمهنَّ العلمية والاجتماعية.
رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات يسرى فراوس، تحدثت في الجزء الأول من الحوار لوكالتنا عن وضع المرأة اليوم في تونس، وعن وباء العنف الذي يقتل نساء تونس في ظلّ تقاعس السلطات عن تطبيق القوانين. وهذا نص حوار الجزء الأول:
 
تم تأجيل مؤتمر الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بسبب الوضع الوبائي الذي تعيشه البلاد، وهذا التأجيل أثار غضب البعض، لا سيما وأن كل شيء كان جاهزاً... لماذا هذا الغضب؟
تقرّر إجراء المؤتمر في التاسع من نيسان/أبريل، وهي ذكرى مرتبطة بأهم إحدى المظاهرات في الحركة الوطنية التونسية في عام 1938 خلال فترة الاحتلال الفرنسي، والتي شاركت فيها جموع النساء والرجال للمطالبة ببرلمان تونسي وحق الشعب في اختيار من يمثّله، وهو يوم يذكّر بأمجاد الشعب التونسي الذي قرر استرجاع بلده وتحريرها من المستعمر الفرنسي... للأسف الحكومة التونسية وقبل ساعات من موعد انعقاد المؤتمر قررت فرض حجر شبه شامل. استجبنا للقرار احتراماً للحق في الحياة الذي نراه مقدساً ولكن غضبنا ليس بسبب تأجيل المؤتمر، بل من سياسة هذه الحكومة التي اعتادت اتخاذ إجراءات مفاجأة منذ أشهر مع أن كل المؤشرات كانت تدل على خطورة الوضع الوبائي، وغضبنا الأكبر هو عدم مرافقة القرارات بإجراءات اجتماعية يفترض أن تصاحبها ضماناً لسلامة الشعب، لم يكن بوسعنا إلا الاستجابة، لكن الدولة لم تلتزم بواجبها تجاه شعبها في بلد يعتبر جزءٌ من اقتصاده قائماً على المشاريع الصغرى، والكل يعلم أن النساء هنَّ أكبر المتضررين من أزمة وباء كورونا وارتفاع نسب البطالة في بلد يضم 3 ملايين فقير. 
هذا الوباء عرّى وباء العنف المسلط على التونسيات مع استمرار الصمت التام من قبل الجهات المسؤولة عن هذه الآفة التي تنخر المجتمع وتهدد النساء في كل المجالات والمساحات، ولا نسمع شيئاً عن توفير العدالة لضحايا العنف وتأمين حياتهنَّ من المخاطر المحدقة وتمكينهنَّ من التنقل للتبليغ عن العنف المسلط ضدهنَّ. 
 
توجهتنَّ إلى الأمم المتحدة للفت انتباهها بخصوص تفاقم العنف، هل نفهم من هذه الصيحة أنه قد خاب أملكنَّ في تطبيق التشريعات التونسية لردع التصرفات العدوانية تجاه النساء؟ 
نحن في الجمعية التونسية كناشطات منذ أربعين عاماً لا يمكن أن نفقد الأمل؛ لأننا عبَرنا من مرحلة ديكتاتورية تنكر العنف المسلط على النساء إلى زعزعة هذه الديكتاتورية بفرض تناول قضية النساء منذ عام 2008، باستراتيجية وطنية للقضاء على العنف، وفيها محور تغيير التشريعات كما تتضمن مسحاً وطنياً، حول حالات العنف في تونس، إلى جانب المنازعة في حق المساواة، وصولاً إلى فرض دستور يلزم تونس في عام 2014 باتخاذ الاجراءات اللازمة للقضاء على العنف، وما نتج عن ذلك لاحقاً من فرض قانون شامل للقضاء عليه عام 2017، نحن كما يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي نؤمن بضرورة اكتساب تشاؤم الذكاء والعقل وربطه بإرادة الأمل أو أمل الإرادة.. طالما هناك إرادة هناك أمل، وإرادتنا قوية لتغيير هذا الواقع المتعلق بالعنف، لكن هذا لا ينفي أن هناك كبوات في تاريخ الشعوب، فبعد الانتصارات التي حققناها على المستوى التشريعي لاحظنا وعاينّا غياب الإرادة السياسية لإنفاذ القانون رقم 58 لعام 2017، وهناك مؤشرات كثيرة كانت تدل على ذلك، بداية من مناقشة الميزانية لعامي (2018 ـ 2019) التي أغفلت تخصيص موارد كافية لتطبيق القانون المتعلق بمناهضة العنف، ثم رأينا بعد انتخابات 2019 غياباً كلياً لقضايا النساء بصفة عامة في الخطاب السياسي، بل شاهدنا صعود قوى يمينية ومحافظة لا تؤمن بالمساواة وتعتبرها قيمة بورجوازية، وقد عبّر عن ذلك رئيس الدولة الحالي خلال حملته الانتخابية ثم شدّد عليها بعد تسلمه السلطة، إلى جانب مجلس نيابي يعج بقوى من اليمين بالمعنى الليبرالي الرأسمالي، وأيضاً اليمين بالمعنى المحافظ والمتطرف، كما رأينا الشق الآخر الذي يدّعي أنه استمرار لدولة الاستقلال يتحفظ على قضايا من قبيل الحريات الفردية أو المساواة في الإرث.
في البرلمان ظلت قضية النساء خارج الأولوية بالنسبة للجميع، ولم نرَ أي طرف بادر بتقديم مقترحات وقوانين تنتصر للنساء، بل رأينا تغييباً لموضوعين مهمين هما: مشروع الحريات الفردية الذي تم إيداعه بالبرلمان في تشرين الأول/أكتوبر 2018، ومشروع المساواة في الإرث الذي تم إيداعه في نوفمبر 2018، وأمام هذه الطبقة السياسية من الضروري اعتماد كل الآليات السلمية والنضالية من أجل الانتصار لقضايا النساء.
ولا يمكن أن نتحدث عن بناء ديمقراطي وإحداث مؤسسات دستورية دون أن يكون هناك جوهر يقوم على قيمة المساواة والكرامة الإنسانية ويحارب العنف... وما عاينّاه هو أنه مع صعود هذه القوى الإسلامية برز خطاب محافظ ضد النساء ورأينا ذلك بشكل فج وصادم للتونسيات يوم 4 كانون الأول/ديسمبر عام 2020، عندما استغل أحد  نواب ائتلاف الكرامة، محمد العفّاس، مصدحه في جلسة نقاش ميزانية وزارة المرأة ليعبر بكل وضوح عن رفضه أساسات تحديث المجتمع التونسي، ومنها مجلة الأحوال الشخصية، وليقسّم التونسيات والتونسيين على أساس أن هناك من يحتكمون للشريعة وآخرين من يحتكمون لقوانين وضعية، على غرار ما جاء في مجلة الأحوال الشخصية، وليفسر كل علات المجتمع وأزماته ببعض الحقوق التي تم تمكين النساء منها، واستخدم ذلك النائب عبارات (تحت قبة البرلمان) تنضح برائحة العنف وتترجم عقلية التعسف على التونسيات بنعتهن بنعوت خطيرة جداً، والعقلية الباترياتية التي تعتبر النساء اللواتي يدافعنَّ عن حرياتهنَّ واختيار مسارهنَّ في الحياة، خارجات عن السياق المجتمعي وبالتالي يلحق بهنَّ الوصم والتقزيم والتشويه.
وللأسف، لم نرى ردة فعل أو أي موقف رسمي في مواجهة هذا الخطاب، بل أتيحت له امكانية إكمال خطابه في البرلمان ونفث سمومه، في مشهد يذكرنا بالخطاب التكفيري عام 2012، وكانت التعليقات ضعيفة جداً وكأن المسألة لا تعني أحد، وقد رأينا في ذلك رِدّة خطيرة، فتحركنا كجمعية عريقة للتظاهر أمام البرلمان تنديداً بهذا الخطاب الخطير. بعد ذلك مر الخطاب من العنف الشفوي إلى العنف الجسدي، حيث تم الاعتداء على نائبة، وتعرضت ناشطات من جمعيتنا لمحاولة دهس بالسيارة من قبل أحد عناصر حركة "النهضة" أمام البرلمان.
وإذا كان بعض النواب يستغلون الحصانة البرلمانية لارتكاب مثل هذه التجاوزات الخطيرة، فمَن ينصف نساء تونس اللواتي يتعرضنَّ للعنف؟
للأسف، لا توجد إرادة سياسية جادة، بل هي المصالح والنفاق السياسي الذي يجيز الافلات من العقاب، فطيلة العهدة البرلمانية النيابية التي بدأت في عام 2019 تم تسجيل العديد من الممارسات العنيفة التي استهدفت الناشطات في الحقل المدني والسياسي والحقوقي، على غرار ما حدث للنائبة المستقلة مريم اللُّغماني، والنائبة السابقة بشرى بلحاج حميدة، ورئيسة كتلة "الحزب الدستوري الحر" عبير موسي، المعارضة لحركة النهضة، إلى جانب ما تعرضت له النائبة عن التيار الديمقراطي، سامية عَبّو.
كل النساء يتم الاعتداء عليهنَّ باستعمال أساليب منحطة كالتركيز على الحياة الخاصة والجسد والعلاقات والإنجاب من عدمه والعادة الشهرية. وفي مواجهة انفلات موجة الترذيل والاعتداءات توجهت الجمعية إلى القضاء التونسي، كما توجهنا إلى الآليات الإقليمية مثل المقررة الخاصة بالعنف في اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، ونعتبر أن هذا جزء من تحميل الدولة التونسية المسؤولية، وتذكيرها بأن لديها التزامات تجاه النساء من بينها حمايتهنَّ من العنف، وعلى هذا الأساس توجهنا إلى المؤسسات الدولية. وإذا ما استمر الوضع على هذا النحو من التجاوزات فلن ندخر جهداً في استعمال كل النضالات.
  
بماذا تفسرون التقاعس في تطبيق القانون رقم 58 لعام 2017 من قبل منظومة الحكم؟
أعتقد أنّ التقاعس موجود، فضلاً عن أن هناك عدم فهم حقيقي لقضية العنف المسلط على النساء في تونس، بيْدَ أن العنف جريمة وهو مسؤولية شخصية ويتحمل الشخص مسؤوليته في الاعتداءات والأضرار التي يخلفها على الضحية، سواءٌ أكان العنف معنوياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو جنسياً أو مادياً، وقد حاول القانون تغطية أكبر ما يمكن من أشكال العنف.
كما شكّلت وحدات أمنية مختصة للتعهد بالنساء ضحايا العنف واستقبال شكاوى النساء الضحايا وأيضاً إسناد دور لوكلاء النيابة العمومية ليكونوا مختصين في مجابهة العنف، وحتى من الناحية المؤسساتية اشترط القانون أن تكون هناك فضاءات في المحاكم والمستشفيات تستقبل فقط النساء ضحايا العنف.
إذاً، هناك نظرة متكاملة لكيفية القضاء عن العنف، وبالتالي هدف القانون هدف بعيد المدى، ويفتح مجالاً كبيراً للعمل على ذلك في التربية والتعليم والمؤسسات وأمام القضاء، كل هذا يتطلب موارد مالية وخاصة إرادة سياسية فولاذية.
فمنذ عام 2017 تم تأخر النصوص الترتيبية التي تطبق القانون وتأخر خاصة تخصيص الميزانيات له برغم الحاجة إلى أموال كثيرة لبناء مقرات للاستماع لضحايا العنف وإيوائهن على المستوى الجهوي، والإشكالية الأكبر في توزيع الميزانيات في بلد ثار من أجل الكرامة والحرية، هي تخصص الميزانيات الأضخم والأكبر للقضاء عن الارهاب وتعزيز القدرات الأمنية بينما كل ما هو مرافق اجتماعية وحقوق اجتماعية بصفة عامة يتم إهماله.
هناك أيضاً مشكلة في تنظيم الأولويات تتمثل في غياب الإرادة السياسية، علماً أن هناك بعض الإجراءات لا تتطلّب موارد مالية كبيرة، فلمقاومة العنف واعتباره جريمة، هناك ما يسمى بالسياسة الجزائية، أي أن تقوم وزارة العدل بالاشتراك مع وكلاء النيابة العمومية بضبط الأساسيات والأولويات في مكافحة الجريمة، وهذه الآلية موجودة في العديد من دول العالم إلا أنه لم يتم ضبطها إلى اليوم في تونس.
نفهم أيضاً أن العنف يجب أن يتصدر أيضاً الأولويات لدى الدولة، بمعنى أنه كلما تم التبليغ عن وجود حالة عنف من الأولوية القصوى أن تتحرك الدوائر المختصة، ولا بد من إيقاف الشخص الذي يرتكب العنف، ولا ينتظر وقوع الخطر إنما يجب استباقه، بينما نرى السلطات تتشدق وتروج لسرعة تحركها في قضايا أخرى على غرار عمليات استباقية ضد التطرف.
بينما في قضايا العنف عندما تقدم المرأة شكوى تضطر للانتظار، وتتباطأ الإجراءات ويطلب منها تقديم أدلة وشهود، وهذا يوضح أنه لا توجد أولوية لمكافحة العنف والتصدي لها. هناك مظاهر أخرى عديدة توحي بغياب الإرادة السياسية ومن بينها الخطاب السياسي الضبابي لدى الحكومات المتعاقبة، إذ لا نجد سوى وزيرة المرأة تثير قضية العنف من حين إلى آخر شبيهة بصرخة في واد، ولا تحرك السلطات إزاءها ساكناً وكأن القضية ليست قضية وطنية تستوجب خطاباً واضحاً من مختلف الأطراف وخاصة من أعلى قيادات الدولة التونسية. ففي فرنسا أو إسبانيا على سبيل المثال، هناك سنوياً مخططات حول مدى تقدم الدولة في مكافحة العنف ونجد أن كبار المسؤولين هم الذين ينهضون بهذه المهمة، أما في بلادنا فظلت القضية مهملة. 
يتبع....