فارسات الجنوب... فتيات يكسرن القيود على صهوة الخيول
في مجتمع اعتاد أن يربط بين الشجاعة والذكورة، ظهرت فارسات الجنوب الليبي ليُثبتن أن القوة لا تُقاس بالجسد، وأن المنطقة المحافظة يمكن أن تكون مهداً لثورة هادئة تقودها فتيات يحملن اللجام بيدٍ، وباليد الأخرى يكتبن ملامح مستقبل مختلف.
منى توكا
ليبيا ـ في الجنوب الليبي، حيث تتشابك التقاليد مع التحديات، تنبثق قصة فارسات نادي واحة فزان كحكاية استثنائية على الإصرار، وكسر القيود، وإعادة تعريف الشجاعة.
لم تكن الفروسية يوماً مجرد رياضة في الجنوب الليبي، بل كانت رمزاً للرجولة، وميداناً مغلقاً أمام الفتيات، لكن نادي واحة فزان للفروسية قرر أن يفتح أبوابه لهن، ليبدأ فصل جديد من الحكاية، من شهد حميد التي بدأت حلمها في الطفولة، إلى أبرار عمر التي تغلبت على خوفها، مروراً بجيداء وإيلاف اللتين تحدّتا التقاليد، تتشكل قصة فارسات الجنوب كمرآة تعكس شجاعة فتيات قررن أن يكتبن واقعاً جديداً بخطوات الخيل على أرض سبها.
عند الغروب تبدأ الحكاية
الساعة السادسة مساءً في ساحة نادي واحة فزان للفروسية بمدينة سبها، تبدأ السماء في التدرج نحو الغروب، تتسلل خيوط الشمس الذهبية بين أرجل الخيول، ويعلو صوت حوافرها وهي تضرب الأرض بثقة.
في هذا المشهد الذي يخالطه الغبار والدهشة، تتقدم مجموعة من الفتيات بثياب الفروسية البيضاء، تحملن ملامح الحماس والرهبة في آنٍ واحد، يمسكن اللجام بأيدٍ صغيرة لكنها ثابتة، وكأنهن يمسكن بخيوط حريتهن القادمة من عمق الجنوب الليبي المحافظ.
هؤلاء الفتيات هنّ فارسات نادي واحة فزان، أول نادي في الجنوب الليبي يستقبل ويُدرّب الفتيات على رياضة الفروسية وقفز الحواجز، في خطوة غير مسبوقة كسرت واحدة من أكثر الصور النمطية تجذراً في المجتمع، مفادها أن "امتطاء الخيل للفتيان فقط".
حلم الطفولة الذي كبر مع الخيل
تقول شهد حميد، وهي إحدى أقدم الفارسات في النادي، بابتسامة لا تخلو من الفخر "أمارس التدريب في النادي منذ ثماني سنوات، وكانت أولى تجاربي في قفز الحواجز عام 2020. عشقي للفروسية بدأ منذ الطفولة، فنحن نحب الخيل ونحب أن نكون بينهم".
وتتابع حديثها وهي تمرر يدها على عنق فرسها "خضت أولى مسابقاتي وأنا لا أزال على مقاعد الدراسة، وكان عمري عشر سنوات فقط، بعدها شاركت مرتين في مسابقات للخيول، وتمكّنا من كسر الصورة النمطية التي تقول إن الفتيات لا يمتطين الخيل"، مضيفةً بعزيمة لا تخفى "لن نتوقف سنواصل مشوارنا في قفز الحواجز ونبدع فيه، لأصبح فارسة متمرسة في الرياضة التي أحببتها من أعماق قلبي".
الإقناع يبدأ من البيت
أما جيداء أحمد وهي فارسة بدأت مشوارها التدريبي هذا العام، فتضحك وهي تستعيد ذكريات محاولاتها الأولى لإقناع والدها "عندما جئت إلى النادي لأول مرة لم يكن الأمر سهلاً، فوالدي لم يكن مقتنعاً بالفكرة، لكنني واصلت إقناعه يوماً بعد يوم، حتى وافق في النهاية بعدما لمس شغفي الحقيقي، ثم جاءت والدتي لتدعمني هي الأخرى".
وتتابع بابتسامة "حتى صديقاتي في المدرسة كن في البداية مندهشات من اختياري، لكن سرعان ما بدأن يقلن لي لماذا لا؟ ولم لا نمتطي الخيل نحن أيضاً؟".
وتتحدث جيداء أحمد بحماس عن تجربتها الأولى في عالم الفروسية "شاركت في مسابقة هنا في سبها، وكانت تجربة لا تُنسى، الفروسية ليست مجرد رياضة، بل هي شجاعة، التزام، وثقة بالنفس. أنصح كل الفتيات أن يخضن هذه التجربة، لأنها فريدة ولا تتكرر".
بين الطموح وكسر التكرار
من جانبها، ترى إيلاف عمر أن دخولها عالم الفروسية لم يكن مجرد هواية عابرة، بل كسراً لروتين الحياة تقول بثقة "انضممت إلى النادي لأنني أحب خوض تجارب جديدة، لا أحب الروتين، بل أبحث دائماً عن التحدي واكتشاف قدراتي".
وأضافت "شاركت في مسابقة على مستوى المغرب العربي أقيمت في مصراتة، صحيح أنني لم أفز، لكنها كانت أول مشاركة لي، وتعلمت منها الكثير".
وتؤمن إيلاف عمر كزميلاتها أن الفروسية تتجاوز كونها مجرد رياضة بدنية، فهي تجربة إنسانية عميقة بكل ما تحمله من معانٍ "طريقة التعامل مع الخيل تعلمك الصبر، والهدوء وتحمل المسؤولية، أشعر أنني أنمو معهم يوماً بعد يوم، أحلم بأن أواصل التقدم لأصبح فارسة معروفة وربما حتى مدربة في المستقبل".
الخوف الأول.. والبداية التي لم تتوقف
أما أبرار عمر، أصغر الفارسات سناً ذات الأربعة عشر عاماً، فتقول بخجل ممزوج بالشغف "أحببت الخيل منذ أن كنت في الصف الرابع، وكانت أول تجربة لي في الامتطاء مليئة بالخوف، لكن أمي وأختي شجعتاني، ووالدي أيضاً كان دائم الدعم والتشجيع".
تبتسم وهي تنظر إلى فرسها "تدربت في نادي واحة فزان لمدة أربع سنوات، وخلالها تعلمت كيف أتعامل مع الخيل وكيف أزرع الثقة في نفسي، الخيل يشعر بك عندما تخاف، لذلك من المهم أن تكون قوياً ليس فقط بجسدك، بل أيضاً بقلبك".
كسر الصمت
نادي واحة فزان لم يكن مجرد ساحة تدريب، بل مساحة حرية لنساء وفتيات الجنوب، حيث استطعن كسر الصمت الاجتماعي المحيط بهن، وإثبات أن الفروسية ليست حكراً على الرجال.
وقد تبنى النادي فكرة تمكين الفتيات منذ تأسيسه، رغم الانتقادات والاعتراضات الأولى، فالمجتمع لم يكن يتقبل فكرة أن الفتيات يمتطين الخيل، لكن اليوم أصبحت الفارسات نفسهن مثالاً يُحتذى بهن في سبها والجنوب.
أصبحت الفروسية للفتيات هنا أكثر من مجرد هواية، إنها هوية جديدة تتحدى التقاليد وتفتح نوافذ للحلم وسط واقع مليء بالقيود.