ساكينة جانسيز رمز الثورية المتمردة... عقود من النضال

"حينما يكون القلب والعقل متحدين يستحيل أن يستسلم المرء" إحدى المقولات الشهيرة لساكينة جانسيز، المرأة الثورية المناضلة التي يعرفها كل متابع لشؤون المرأة ونضال الحرية في كردستان

مركز الأخبار ـ ، سعت جاهدة لإيجاد حقيقة النضال والمقاومة التي طالما كانت تبحث عنها، لتكتب لنفسها مسيرة نضالية ثورية مميزة لتكون ثائرة فشهيدة فخالدة.
لنتعرف معاً إلى مسيرة نضال ساكينة جانسيز المرأة التي تميزت بشعرها المجعد الأحمر ونظراتها الثاقبة وشموخها الدائم وعدم خنوعها واستسلامها مهما كان ما مرت به قاسياً وبصقت على وجه جلادها دون أن تأبه بما ستلقاه من عقاب جراء ذلك، لتجعل من نفسها بمثابة نهج لحرية المرأة في كردستان.  
ساكينة جانسيز كردية من مدينة ديرسم الواقعة في شمال كردستان، من مواليد عام 1957، امرأة تميزت بشخصيتها القوية، اكتسبت خصائص النضال والمقاومة والروح الثورية من مدينتها التي عرفت المجازر والإبادة والتطهير العرقي والإنكار والإقصاء على يد الدولة التركية الحديثة والتي كان آخرها "مجزرة ديرسم 1938"، حيث قتل الآلاف ونكل بالنساء إلى أن سطرت تاريخاً عظيماً بمقاومتها.
أدركت في سن مبكرة التناقضات تجاه الحقائق في وسطها الاجتماعي، فبدأت مسيرتها بالبحث عن الحقيقة لتصبح مرحلة الطفولة لديها عبارة عن مرحلة لتكوين وبناء الذات، أنهت المراحل الدراسية بتفوق وبلغت المرحلة الجامعية لتكبر وتكبر معها التناقضات يوماً بعد آخر في ذهنها، ومنذ ذلك الحين تشبثت بفكر الاشتراكية والديمقراطية على الدوام.
 
"سارة" ورحلة النضال من أجل كردستان حرة
تعتبر ساكينة جانسيز من النساء اللواتي استطعن تحقيق التوازن بين رفض الخضوع للعادات والتقاليد البالية، والمحافظة على القيم المقدسة التي اكتسبتها من البيئة التي نشأت فيها، ظلت شامخة دوماً لم تعرف الاستسلام.
تعد واحدة من الشخصيات القيادية التي تركت أثراً وحددت ملامح المستقبل الواعد، فساكينة جانسيز مناضلة أممية عرفت بتمردها وتميزت بالإيمان الثوري والعزيمة التي لا تتزعزع، خاصةً على صعيد حرية المرأة وأخوة الشعوب، لم يعرف اليأس طريقاً إلى قلبها ولم يوجد في قاموسها ما يدعى بـ "المستحيل".
لم تكن على صراع مع مَن حولها فقط، بل ومع ذاتها أيضاً إذ حاربت نقاط الضعف في نفسها، وتغلبت على نواقصها بكل جرأة، وقد عرفت منذ ريعان شبابها بعملها كناشطة في الشبكات اليسارية المؤيدة للقضية الكردية في تركيا، بدأت مسيرتها بمبادرتها في العمل ضمن المصانع والمعامل لتوسع دائرة معرفتها بالشابات، وإيجاد الفرصة لفتح نقاشات معهن، وإرشادهن لطرق تنظيم الذات والتعرف على فكر القائد عبد الله أوجلان الذي أولى في بداية النضال أهمية كبيرة للمرأة وقال "إذا انضمت من كل بيت امرأة الى النضال، فهذا يعني ولادة ثورة هناك، لو خرجت امرأة من ‏قرية وانضمت الى صفوف النضال فتصبح تلك القرية ثائرة"، من خلال الانضمام إلى حزب العمال الكردستاني الذي تأسس من قبل 23 شخصاً من الناشطين الكرد عام 1978، فقد كانت واحدة من امرأتين وضعتا الحجر الأساس لتأسيس الحزب، وشاركتا في مؤتمره التأسيسي، ومنذ ذلك الوقت تم التأكيد على أن حرية المجتمع تمر من حرية المرأة.
فانضمامها إلى المجموعة التي وجدت للنضال وتحرير كردستان تعتبر الولادة الثانية لساكينة جانسيز كونها وجدت فيها حقيقة النضال والمقاومة التي طالما كانت تبحث عنها، فقد أصبحت من مؤسسات حزب العمال الكردستاني، وبدأت على الفور بممارسة النشاطات الحزبية وتنظيم الشابات.
 
حولت السجون إلى ساحة أخرى للنضال
نضال وكفاح ساكينة جانسيز وفق مبادئ الحياة الندية وحقوق الشعب الكردي في وقت حرم فيه ذكر اسم أو نطق حرف باللغة الكردية وبقاء الكرد تحت وطأة ظلم القوى السلطوية الظلامية المستغلة، عرضها خلال مسيرتها الثورية للكثير من المضايقات والاعتقالات على يد الحكومة التركية.
فبعد انخراطها في صفوف حزب العمال الكردستاني باشرت بتسيير الأنشطة التنظيمية في مختلف مدن شمال كردستان إلى أن اعتقلت إثر انقلاب 12 أيلول/سبتمبر 1980 العسكري، وتم إيداعها في الحجرة رقم 5 في سجن آمد أكثر من عشر سنوات.
كانت مقاومة السجون طفرة نوعية حددت ملامح الحزب، فقد تميزت ساكينة جانسيز بوقفتها الأبية في سجن آمد سيء الصيت أمام شتى أنواع التعذيب والظلم الذي تعرضت له، لقد كانت من أوائل اللواتي قاومن، فتحولت إلى أسطورة بين رفاقها وشعبها على السواء، ورغم تجريمها لعضويتها في اللجنة المركزية واللجنة التأسيسية لحزب العمال الكردستاني، إلا أنها دافعت عن نفسها سياسياً في المحكمة في كل مرة، بل وحثت رفيقاتها على المقاومة، فقمن بالعمليات المشتركة وبدأن الإضراب عن الطعام معاً، وخضن المقاومة جماعياً.
قادت حركة احتجاج اندلعت في سجن آمد في الثمانينيات وعملت مع القائد عبد الله أوجلان في سوريا، بالإضافة إلى أنها قادت مجموعة من المقاتلات الكرديات في إقليم كردستان، وأصبحت لاحقاً مسؤولة للحركة النسوية التابعة لحزب العمال في اوروبا.
تقول ساكينة جانسيز عن فترة اعتقالها وتعذيب المعتقلين الكرد في سجن آمد "كان السافل أسعد أوكتاي يعرضنا جميعاً لشتى أنواع التعذيب. لكنني وقفت أمامه، وحدقت في عينيه اللئيمتين، وبصقت على وجهه القذر"، لم تأبه ساكينة بما ستلقاه من عقاب مانحةً حياتها للثورة، وقد ذاع صيت فعلتها هذه واعتبرها كثيرون أنها عملية جريئة للغاية في ظل التعذيب السافر الذي يتعرضون له، كل تلك المحاولات باءت بالفشل أمام إرادتها بل كانت تزيد من إصرارها على المقاومة، كانت تنشر المرح بين رفاقها ورفيقاتها حتى داخل السجن، كي تخفف عنهم وطأة العذاب الذي يعانونه، ولم يقتصر نضالها في السجن مع رفاق نهجها فقط، بل كانت تناقش وتحتك مع المساجين الآخرين، قائلةً "بهذا المجتمع يجب كسب الجميع، وتعريفهم على حقيقة التنظيم، وبالتالي حقيقتهم".
تمكنت مع رفاقها من إصدار مجلة تتناول تاريخ كردستان، وتعريف حركة PKK، استطاعت هذه المجلة أن تتبوأ مكانة مميزة لها بين المجلات التركية، إلا أنه في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 1988، اكتشف أمر مجلتهم فتم معاقبتها مع 130 شخصاً وتم نفيهم إلى سجن أماسيا في آمد. 
أفرج عنها عام 1991 لتذهب إلى أوروبا بعد تلقي التدريب في سهل البقاع، لتشرف هناك على تنظيم الأنشطة النسائية، لكن الانتربول الدولي كان قد وضعها على اللائحة الحمراء، فاعتقلت في آذار/مارس عام 2007 في فرنسا بموجب مذكرة توقيف دولية صادرة عن أنقرة، لتبقى قرابة شهر ونصف في سجن دامتور ويطلق سراحها بعد ذلك.
 
"حياتي كلها صراع"... مذكرات من المعتقل
كانت قد اختصرت ساكينة جانسيز سيرة حياتها الشاقة والمليئة بالمغامرات والمجازفات في كتاب ضخم مؤلف من ثلاثة مجلدات تحت اسم "حياتي كلها صراع"، أنهت تدوينه في نهايات تسعينيات القرن الماضي.
في المذكرات تروي ساكينة جانسيز ما تعرضت له أثناء الاعتقال، إلى جانب قصص الاستجواب والإضراب عن الطعام ومحاولتها الهروب من السجن ومقاومتها، ومن خلال يومياتها قدمت صوراً حية لأصدقائها من السجناء والمقاتلين، وتشكل مذكراتها لقطة لليسار التركي في الثمانينيات من القرن الماضي، كما تتضمن بين طياتها قصة حب مستحيلة.
يعد كتاب "حياتي كلها صراع" الذي كتب باللغة التركية وترجم إلى اللغة الكردية، الصادر عن دار "بلوتو برس" أول مذكرات سجن تصدرها امرأة كردية تنشر باللغة الإنكليزية، وقد وصفتها الصحافة بأنها "وثيقة غير عادية لحياة غير عادية"، وقد نشرت نسخ الكتاب في أرجاء كردستان ودول أخرى وفي عام 2016 تم إعداد فلم وثائقي عنها، ومؤخراً تعمل الكاتبة الكردية بشرى علي على ترجمة السيرة الذاتية إلى العربية متخذةً على عاتقها التأريخ لسيرة المرأة الكردية ونضالاتها.
وقد عمل عدد من الفنانين والسينمائيين في إقليم كردستان على تحويل قصة نضال ساكينة جانسيز في سجن آمد إلى فلم قصير، يسلط الضوء على وقائع حقيقية لمقاومة القيادية الأولى.
 
أبرز ما قدمته للمرأة والقضية الكردية
كافحت الحركات النسائية لوقتٍ طويل من أجل إنهاء العنف بحقها وسعت لنيل حقوقها المشروعة، بما فيها التغلب على الممارسات الوحشية التي فرضتها الأنظمة الرأسمالية، فالمرأة الكردية لها باع طويل في هذا النضال، فساكينة جانسيز تعد من أوائل النساء اللواتي خلعن ستار التقاليد وكسرن حواجز الصمت لتطلق على ذاتها الاسم الحركي "سارة" ولتتوجه بإرادتها القوية نحو هدفين أساسيين تحرير النساء وبناء حياة وكردستان حرة، كانت ساكينة بوقفتها وتنظيمها ومعرفتها شخصية مؤثرة جداً، حيث قامت بتنظيم عدد من الشابات في مدة قصيرة، وطورت معهن العلاقات بشكل قوي واستمالت بأفكارهن من الحياة البسيطة نحو السياسة والحياة المليئة بالمعاني، وبثت روح البحث عن الحقيقة في داخلهن، كما كانت دبلوماسية محنكة في الدول الأوروبية، وناشطة تنظيمية في مدن كردستان، وفيلسوفة في نظرتها للحياة بشأن كل نساء العالم.
تركت أثراً غائراً في كل مكان لجرأتها في طرح أفكارها حتى وإن كانت عكس التيار، عملت على شق الطريق لخلق الفرص المواتية بجهودها الحثيثة واعتماداً على مقاومة شعبها، وهذا ما جعلها تتحول إلى قيادية وطليعية نسائية بامتياز حول العالم الذي يشهد انتهاكاً لحق المرأة وإقصاءها من جميع مجالات الحياة.
منذ أن تعرفت سكينة جانسيز على الحركة التحررية الكردية، بدأت بالتمرد على العائلة وعلى محيطها من أجل الدفاع عن قناعاتها الفكرية، ونشرها والتعريف بها وتوعية الفتيات وطنياً وقومياً، فأقسمت على أن تكون صوت الحرية للمرأة التي يراد استعبادها، لم يكن انخراطها في صفوف هذه الحركة اليافعة سهلاً، وقد ذكرت ذلك في إحدى مقابلاتها قائلةً "لقد تخليتُ عن العائلة، ورفضت ضغوطها عليّ، وأصرَّيتُ على الالتحاق بالثورة".
وقد دعيت في عام 2011 لحضور المؤتمر الثالث لاتحاد نساء شرق كردستان‎(YJRK) ‎، وقد عقدت المحررة في مجلة "زيلان" جيمن آراس، لقاء صحفي معها حول مخرجات المؤتمر وأهمية النضال بالنسبة لنساء شرق كردستان وسياسات النظام الإيراني تجاه المرأة، تم بث اللقاء للمرة الأولى في صحيفة "Newaya Jin" في بداية العام 2022، تقول في اللقاء "النظام في شرق كردستان، حول الدين الى سياسة، والوطنية إلى دولة، وفي مواجهة ذاك النظام الذي نهب حرية المرأة، فإن انضمامها الى صفوف النضال سيكون أعظم رد".
وقالت أيضاً "يمكننا القول إنه في جميع أنحاء كردستان بشكل عام تتشابه المشاكل التي تعيشها المرأة الكردية وحالة المرأة... أن المرأة الكردية والمجتمع الكردستاني كانا متشابهين، في كردستان لم يكن هناك لا فكر أو تنظيم أو بحث أو نضال للمرأة، قبلت المرأة الكردية هذه الحياة على أنها قدرها... لذلك كان من المهم للغاية في مثل هذا الوقت البدء بنضال الحرية وتأسيس حزب العمال الكردستاني".
كان لها دور في التأسيس للبعد الأممي والعالمي في تواصل الحركة الكردية المعاصرة مع المثقفين والمناضلين والثوار من القوميات والإثنيات الأخرى في مختلف أصقاع العالم، ولها دور محوري في كل محطة أو جانب أو بعد منه. "حقيقةً إخراج المرأة من الظلم والقمع مهم جداً"
 
الاغتيال شرارة نضال جديدة 
التاسع من كانون الثاني/يناير عام 2013، يومٌ تاريخي أسود لم ولن يتم نسيانه، أنه اليوم الذي اغتيلت فيه المناضلة ساكينة جانسيز بالقرب من المعهد الكردي في العاصمة الفرنسية باريس، من قبل الاستخبارات التركية مع رفيقتيها المناضلتين ممثلة المؤتمر الوطني الكردستاني KNK فيدان دوغان والتي كانت تعرف بالاسم الحركي "روجبين" والناشطة في مجال العلاقات الدبلوماسية وممثلة حركة الشبيبة الكردية في أوروبا ليلى شايلمز التي أطلقت على نفسها اسم "روناهي"، رميا بالرصاص.
في ذلك اليوم انتهت حياة امرأة عاشت حياة استثنائية غمستها بالسياسة التي استولت على أيامها، ترك استشهادها أثراً كبيراً في نفوس الآلاف بعد نضال دام لعقود في خدمة الشعب الكردستاني وحرية المرأة، إذ كشف استشهادها مدى تأثر النساء بها لدرجة أن المؤتمر النسائي الأول في الشرق المتوسط والذي عقد في مدينة آمد بعد حادثة الاغتيال ببضعة أشهر، قد خرج بتوصيات من أهمها اعتبار 9 كانون الثاني/يناير يوماً عالمياً لمناهضة الجنايات السياسية. 
ارتكبت جريمة اغتيالهن بالتعاون مع الاستخبارات التركية، على يد "عمر كوناي" الذي اعتقل بعد الحادثة بأيام، وقتل في السجن من قبل تركيا لإغلاق ملف القضية وإخفاء الجريمة، لكنهم أثبتوا من خلالها مخاوفهم من المرأة الطليعية والمناضلة؛ لأنهم يدركون بأن المجتمع السليم يبنى بيد المرأة المناضلة.
لكن، وبعد اعتقال مسؤولين رفيعي المستوى وهما أرهان بكجتين وآدين جونل من مدراء "منظمة الاستخبارات التركية" المعروفة باسم الـ MIT، التي تتلقى أوامرها مباشرة من أردوغان وحقان فيدان، على يد أعضاء من الوحدات الخاصة التابعة لـ "قوات الدفاع الشعبي HPG" في آب/أغسطس عام 2017، أقرا بأمور سلطت الأضواء على الكثير من الأحداث، ومن بينها حادثة اغتيال الثوريات الثلاث في باريس.
وقد تبين أن القاتل "عمر كوناي" عضو فاعل في "المِيت" التركي، وأنه كلف بقتل ساكينة جانسيز بتعليمات مباشرة من أردوغان، وبتخطيط وإشراف مباشر من حقان فيدان رئيس المِيت التركي، وأن القاتل شارك في نشاطات "الجمعية الكردية" في فرنسا لتمويه نفسه وتسهيل مهمته.
لكن اغتيال سكينة جانسيز ورفيقتيها زاد من عزيمة حركة الحرية على النضال في سبيل الحرية، وضاعف من قيمها المعنوية، حيث تحولت روح الحرية التي تميزت بها سارة إلى زبدة النضال لحركة الحرية الكردية ومحفزاً لها على المقاومة والصمود أكثر، ذلك لأن كل شهادة في هذه الحركة تزيد من إرث المقاومة وتعزز روح الصمود لديها.
وريت ساكينة جانسيز الثرى في مسقط رأسها ديرسم وسط مراسيم مهيبة حضرها عشرات الآلاف من أبناء وبنات الشعب الكردي ومن أصدقائهم من مختلف الشعوب في تركيا والعالم، وقد تم حمل التابوت من قبل النساء اللواتي طالما ناضلت من أجلهن، وقد دوى صدى شهادة ساكينة جانسيز التي اهتدت بنضال روزا لوكسمبورغ وغيرها من المناضلات الأمميات العالم أجمع.
وقد سارت الآلاف من المناضلات الثوريات على هدى فلسفة ساكينة جانسيز "سارة"، في سبيل تحقيق أهدافها في تعزيز حياة حرة وكريمة مبنية على السلام المستدام.