نازك العابد... السيف الدمشقي المنسي
المقاتلة والكاتبة والثائرة، ورائدة من رواد النهضة الفكرية ورمز من رموز الحركة الوطنية تحدت تقاليد المجتمع البالية، ودعت إلى تحرير المرأة
مركز الأخبار ـ .
لم يتحدث التاريخ عن نضالها وتاريخها المليء بالبطولات وشجاعتها، بل بقي طي الكتمان كآلاف المناضلات غيرها، أنها المناضلة الكردية نازك العابد أول ضابطة في الجيش السوري تحمل رتبة نقيب والتي لقبت "بالسيف الدمشقي المنسي". ناضلت بفكرها وسلاحها ضد الاستبداد العثماني والانتداب الفرنسي في سوريا، وامتد نضالها ليشمل دول عبر الحدود.
قال عنها الصحفي الراحل عبد الغني العطري "لم يشهد تاريخنا الحديث مثيلاً لنازك العابد في صدق الوطنية والكفاح المتواصل والشجاعة التي قل نظيرها في التاريخ" فنضالها من أجل أبناء وطنها استمر حتى آخر أيام حياتها، فخلال فترة حكم الملك فيصل بن الشريف حسين منحت رتبة نقيب في الجيش، وأسندت إليها في 17تموز/يوليو 1920 الرئاسة الفخرية للجيش السوري.
الدعم الذي قدمته للبلاد
كان لها دور في مجريات الثورة العربية الكبرى في عام 1916 التي قادها الشريف الحسين بن علي ضد الدولة العثمانية، فأسست نازك العابد مع الأديبة ماري عجمي جمعية "نور الفيحاء" لمساعدة ضحايا الثورة، وتحدثت بلسان الجمعية خلال الثورة وجمعت عرائض كتبتها سيدات دمشقيات تضمنت تأييدهن للاستقلال، كما أنها قادت مظاهرات نسائية معارضة للعثمانيين.
اصدرت في عام 1920مجلة أدبية اجتماعية نسائية تحمل اسم الجمعية، تهدف إلى النهوض بواقع المرأة وتثقيفها وتوجيهها، وطالبت من خلالها بضرورة حصول المرأة على حقها في التصويت.
عينها الأمير فيصل رئيسة لجمعية "النجمة الحمراء" في دمشق التي تحولت فيما بعد إلى الهلال الأحمر السوري، قدمت الرعاية الطبية لجرحى الحرب العالمية الأولى من السوريين وكانت مرتبطة بشكل مباشر بمنظمة الصليب الأحمر الدولية.
قدمت مساهمات عديدة للبلاد في عهد الأمير فيصل بن الحسين داعم الحركة النسوية في سوريا، فقدم لها الدعم المادي والمعنوي لتؤسس مدرسة مخصصة للفتيات مع صديقتها ماري عجمي باسم "مدرسة بنات الشهداء"، كما أنها ساهمت في تأسيس "النادي النسائي الشامي" الذي ضم نخبة من سيدات دمشق، وبدأت بعقد اللقاءات والاجتماعات بين الناشطات وكان هدفها إشراك المرأة في الحياة السياسية، وأنشأت مصنع للسجاد خصصت ريع (جزء) مبيعاته لصالح الأيتام.
مثلت نازك العابد الحركة النسوية الدمشقية أثناء وجود لجنة كينغ كراين الأميركية في سوريا في صيف عام 1919؛ لمعرفة مشاعر وآراء الشعب السوري من الانتداب الفرنسي على بلدهم، فقابلت بنفسها الدبلوماسيين الأميركيين.
عندما وجه الفرنسيون إنذار للملك فيصل بمغادرة البلاد، بدأت نازك العابد تهيأ نفسها استعداداً للحرب، وأنشأت مستشفى ميداني لاستقبال الجرحى في بضعة أيام؛ كونها ملمة بمجال التمريض ودراسته.
معركة ميسلون
تطوعت نازك العابد للذهاب إلى معركة ميسلون، وبلباسها العسكري ولثامها كانت تشجع الثوار وتوقد فيهم روح الحماس، وتتفقد الجرحى، فعندما بدأت المعركة في 24 تموز/يوليو 1920، قادت المظاهرات وهي رافعة النقاب عن وجهها مع نساء دمشق ضد الاحتلال الفرنسي مطالبة برحليهم واستقلال سوريا، كما أنها عملت على تنظيم المؤتمرات وألقت الخطب وشنت حملات توعوية لتعريف الشعب بطبيعة الأوضاع التي تمر بها البلاد، وكانت جنب إلى جنب مع وزير الدفاع يوسف العظمة الذي استشهد بجوارها.
أفكارها المستنيرة وجرأتها وقوتها في المعركة أخافت العدو، فأصدر قراراً بإغلاق مدرستها ومجلتها، ومنع مشاركتها في أي ندوات أو اجتماعات، لكنها لم تستسلم بل أكملت نضالها بطريقة أخرى أشد قوة وأكثر شراسة، بانضمامها إلى الجماعات السرية التي كانت قائمة على المواجهة المسلحة ضد العدو، وشاركت في الهجمات ضده لتكبده خسائر فادحة في المعدات والأرواح.
نفيها إلى اسطنبول
نتيجة لنضالها وشجاعتها ومواقفها الوطنية ألقت القوات الفرنسية القبض عليها، لتقع أسيرة بين يديهم، كان حكم الإعدام أحد خيارات المستعمر الفرنسي؛ إلا أنهم تجنبوا ذلك لعدم إثارة غضب الشعب، فقرروا نفيها إلى مدينة إسطنبول مرة أخرى في الفترة بين عامي 1920 ـ 1922.
وكانت قد نفيت في المرة الأولى مع عائلتها إلى أزمير خلال الحرب العالمية الأولى بسبب مواقفهم المطالبة باستقلال سوريا من الاستعمار العثماني.
"جان دارك سوريا"
بدأ الفرنسيون مرة أخرى بمراقبة تحركاتها بعد عودتها إلى سوريا، خوفاً من نشاطها، فتعرضت للمضايقات بسبب مواقفها الوطنية الثابتة وشجاعتها، فاضطرت للجوء إلى شرق الأردن، لكن نشاطها من أجل بلدها لم يتوقف فراحت تلتمس لقضية بلدها آفاقاً خارج حدود الوطن، فنشرت أخبار الثورة العربية وأسبابها وحق بلادها في الحرية والاستقلال، أثناء تجولها في أمريكا والعواصم الغربية.
وحثت المجتمع الدولي على اتخاذ موقف تجاه العدوان الذي تتعرض له البلاد. فكانت نازك العابد محط إعجاب وتقدير واشتهرت في تلك الفترة وتصدر اسمها عناوين الصحف الغربية، التي لقبتها بـ "جان دارك سوريا" تيمناً باسم البطلة الفرنسية.
كما أنها لقبت بألقاب أخرى كـ "نجمة ميسلون، الوردة الدمشقية، السيف الدمشقي المنسي، الياسمينة المنسية، رائدة تحرر المرأة السورية".
مواقفها البطولية وشجاعتها اتخذتها الكاتبة الإنكليزية "روزيتا فوريس" حبكة لروايتها "سؤال" التي نشرت في عام 1922.
مناصرة الفلاحين
اشتهرت نازك العابد دولياً وذاع صيتها وسط الساسة والمثقفين، فتخوف الاحتلال الفرنسي من نشاطها في الخارج، ففواضها على العودة إلى بلادها مقابل عدم ممارسة العمل الوطني والمشاركة في أعمال تمس سلطة الاحتلال، فوافقت ظاهرياً على ذلك لتتمكن من اكمال النضال في بلادها وتحقق أهدافها.
اختارت منطقة الغوطة مكاناً لإقامتها عندما اندلعت الثورة السورية الكبرى في عام 1925، وتنكرت بزي الرجال لتتمكن من التنقل بين الأشجار الكثيفة والمزروعات، اختلطت بالفلاحين وحرضتهم ضد المستعمر، وزادت من وعي الفلاحات اللواتي نقلن السلاح والطعام إلى الثوار.
لكن سلطات الاحتلال كانت ترصد تحركاتها، ففرضت عليها الإقامة الجبرية وحراسة مشددة في مزرعتها الخاصة في ضواحي دمشق، فراحت تنشر أفكارها الاشتراكية والعادلة بين الفلاحين أثناء عيشها معهم، فنشرت مبادئ الحق والمساواة، وأعطت الفلاحين حقهم في العيش والدواء والسكن.
وصفتها الأديبة ماري عجمي آنذاك بقولها "نازك فتاة الاشتراكية الطامحة القلب بالآمال".
دعمها لقضايا لبنانية وفلسطينية
انتقلت إلى لبنان مع زوجها اللبناني المؤرخ محمد جميل بيهم الذي يعد من رواد النهضة الفكرية التنويرية، وعرف بإيمانه ومناصرته لقضايا المرأة ودعوته لتحررها. التقيا أول مرة في المؤتمر السوري الأول في دمشق عام 1925.
أسست عدة جمعيات هناك كجمعية "مكافحة البغاء اللبنانية" التي تحدت من خلالها سلطة الانتداب الفرنسي التي كانت تحاول فرض تلك الآفة.
جسدت نشاطها من أجل تحرير المرأة وزيادة مستوى ثقافتها في لبنان أيضاً، فأنشأت جمعية المرأة العاملة التي تهتم بقضايا النساء، ودعت إلى منحها الحق في أيام الإجازة المرضية وإجازة الأمومة والأجر المتساوي للعاملات، كما دعت إلى التحرر الاقتصادي للمرأة الذي اعتبرته وسيلة للتحرير السياسي.
في عام 1957 أسست ميتماً لتربية بنات شهداء لبنان، كما أسست لجنة "إخوان الثقافة" التي تهتم بتثقيف الأم اللبنانية في مجالات الحياة كافة، لتصبح رئيسة لها في عام 1959، وأقيم أول احتفال بعيد الأم في لبنان بهذه المناسبة.
تضامنت مع الشعب الفلسطيني إبان اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى على البريطانيين على يد عز الدين القسام؛ نتيجة السياسيات الاستعمارية وتمكين القوات الإسرائيلية من السيطرة على الأرض، فقدمت نازك العابد الدعم من خلال مشاركتها في المؤتمر النسائي العربي في القاهرة الذي عقد في 12 تشرين الأول/أكتوبر 1938، لدعم القضية الفلسطينية.
وفي كلمة ألقتها خلال المؤتمر حذرت فيها من مساعي اليهود للسيطرة على فلسطين وخطرها الاقتصادي على البلاد العربية، ودور بريطانيا في دعمهم، ودعت النساء العربيات إلى تقديم الدعم للفلسطينيين في ثورتهم.
وبعد النكبة الفلسطينية 1948، بعامين أسست جمعية "تأمين العمل للاجئين الفلسطينيين" ببيروت، التي كانت تهدف إلى تأمين العمل للاجئات الفلسطينيات وإعدادهن لنيل الشهادة الابتدائية وتعليمهن فن الخياطة والتطريز، استطاعت من خلال هذه الجمعية تقديم الخدمات لـ 1700 طالبة فلسطينية، وأنشأت 22 مدرسة وميتماً ومشغلاً.
شاركت في العديد من المؤتمرات المحلية والعربية في كل من مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق، كما أنها شاركت في العديد من المؤتمرات النسائية العالمية منها مؤتمر الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي "أندع".
إلمامها بعدة لغات
أبنة دمشق نازك العابد ولدت في عام 1887، والدها مصطفى باشا العابد والي محافظة الكرك في شرق الأردن، وولاية الموصل في العراق أواخر الفترة العثمانية، ووالدتها فريدة الجلاد.
تلقت تعليمها في مدارس دمشق والموصل فتعلمت مبادئ اللغات العربية والتركية، ودرست الفرنسية في مدرسة الراهبات "الفرنسيسكانيات" المعروفة حالياً بمدرسة "دار السلام" في الصالحية بدمشق، كما أنها تعلمت مبادئ اللغة الألمانية والإنكليزية.
نفيت مع عائلتها إلى أزمير خلال الحرب العالمية الأولى في عام 1914؛ بسبب مواقفهم المطالبة باستقلال سوريا من الاستعمار العثماني، فأكملت تعليمها في مدرسة الفردوس للمرسلين الأمريكان، وفي المعاهد الخاصة للتعليم، فتعلمت فنون التصوير والموسيقا والعزف على البيانو، كما أنها اهتمت بدراسة التمريض والإسعاف.
الصحافة منبرها للدفاع عن حقوق المرأة
عانت نازك العابد كبقية النساء من التهميش والنظرة الدونية في تلك الفترة، لكنها لم تبقى صامتة أمام هذا الواقع بل سعت إلى تغييره بنضالها من أجل تحرير المرأة وتغيير واقعها.
بدأت نضالها من أجل قضايا المرأة بعد عودتها من المنفى إلى دمشق أواخر عام 1918، عن طريق الكتابة باسم مستعار في الصحف والمجلات؛ تجنباً لمشاكل اجتماعية قد تحدث، فكانت أولى المجلات التي انضمت إليها "العروس" التي أسستها الأديبة ماري عجمي في عام 1910 وهي أول مطبوعة تطالب بحقوق المرأة، اتخذتها نازك العابد منبراً لآرائها وأفكارها، ونشرت فيها مقالات تنتقد وضع المرأة في المجتمعات العربية، ونادت من خلالها إلى تحرير المرأة وإعادة حقوقها المسلوبة ورفع مستوى ثقافتها.
"المرأة من حقها الصمود والدفاع عن حريتها وحقوقها داخل المجتمع العربي" كانت جملتها الشهيرة التي أطلقتها من خلال مجلة الحارس التي كتبت فيها أيضاً، كما أنها كتبت في صحيفة "لسان العرب".
توفيت عن عمر ناهز 72 عاماً في آب/أغسطس عام 1959 في بيروت، ودفنت في مقبرة العائلة في باب الآس في حي الميدان في دمشق تنفيذاً لوصيتها.
تحدث الأدباء والمفكرون خلال حفل التأبين الذي أقيم برعاية الجمعيات النسائية اللبنانية عن الأديبة والمناضلة السورية التي صاغت بمواقفها البطولية جزءاً مهماً من تاريخ سوريا الوطني.
استطاعت نازك العابد التي لم تعرف للاستسلام معنى بشجاعتها وقوتها أن ترفع من شأنها وتدافع عن حقوقها، لتتعرف على ذاتها وحقيقتها التي من خلالها رسمت خطوات الانتصار لبلادها.