مليكة الفاسي من رموز النضال النسائي المتعدد الأوجه
سياسية وكاتبة مغربية ساهمت في إنشاء العصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية، مليكة الفاسي التي كافحت وانخرطت في المقاومة في سنٍّ مبكرة، غدت علماً من أعلام الحركة الوطنية
مركز الأخبارـ .
سرعان ما أبدت مليكة الفاسي وبراعتها في مجال كتابة المقالات الصحفية عام 1934، قبل انخراطها بالميدان السياسي وانضمامها إلى كتلة العمل الوطني عام 1937، فهي المرأة الوحيدة التي وقعت على وثيقة الاستقلال "11 يناير" عام 1944، إلى جانب أكثر من 60 مقاوماً منهم العلماء والمحافظون وطلبة جامعة القرويين، الذين لم يكونوا ليتقبلوا تحرر المرأة إلا أنها وقّعت باسمها الكامل على الوثيقة التي تطالب باستقلال المغرب من الاستعمار الفرنسي، ويعتبر هذا حدث تاريخي هام في تاريخ المقاومة المغربية وتاريخ حياتها.
بعد نيل المغرب الاستقلال عام 1956، عينت مليكة الفاسي ضمن اللجنة المركزية المشرفة على التعاون الوطني، وكانت من أوائل المدافعين على حق النساء في التصويت والمشاركة في الانتخابات، خلال المؤتمر الاستثنائي الذي عقده حزب الاستقلال، وطالبت بالمساواة بين المرأة والرجل، وهو ما جاء واضحاً في الفصل الثامن من نص الدستور بداية ستينات القرن العشرين.
قبل تعيين أول حكومة في المغرب بعد الاستقلال، اقترح عليها الملك محمد الخامس منصب وزارة الشؤون الاجتماعية، لكنها رفضت موضحة أن من أولى اهتماماتها نشر العلم ومحاربة الجهل والأمية، فضلاً عن الاهتمام برعاية الأطفال دون أي قيود أو التزامات وزارية.
تلقت تعليمها في دار الفقيهة
مليكة الفاسي ابنه مدينة فاس المغربية ولدت في 19 حزيران/يونيو عام 1919، نشأت وترعرعت ضمن عائلة محبة للفن والثقافة والعلم، والدتها تدعى طهور بن شيخ ووالدها يدعى المهدي الفاسي. تلقت تعليمها في دار تعليم منتشرة آنذاك تدعى "دار الفقيهة" وهي عبارة عن مسيد أي دار كُتّاب خاصة بتعليم الفتيات، ما أن يبلغنَّ حتى يكملنَّ تعليمهنَّ في المنازل، درست فيها ما بين عامي 1928 ـ 1930.
حرص والدها على تدريسها وأحاطها بكوكبة من الأساتذة المتخصصين في عدة مجالات منها الأدب والرياضيات واللغة الفرنسية والعربية وغيرها من العلوم، كي تنال نصيبها من العلم إسوة بأخوتها الذكور، في وقت لم تكن هناك مدارس خاصة بتعليم الفتيات.
في صغرها كثيراً ما كانت تراودها بعض الأفكار والتساؤلات، منها ما يخص دراسة أخوتها الذكور وأبناء عمومتها خارج المنزل، بينما هي تضطر للبقاء في المنزل وتنتظر وصول الأساتذة إليها، والذي أثار تساؤلها بشدة هو أن جامعة القرويين التي شيدتها امرأة وهي "فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني" عام 859م، ممنوعة على بنات جنسها.
تزوجت الكاتبة من ابن عمها محمد الفاسي عام 1935، وأنجبت منه أربعة أطفال، وقد لقبت بأم الوزير نسبة إلى ابنها الكبير سعيد الذي تولى منصب الوزير في الوزارة المغربية.
"باحثة الحاضرة"
بدأت حياتها المهنية بكتابة المقالات الصحفية التي نشرتها في مجلة "المغرب" الشهرية عام 1935، وهي في سنّ الـ 15 عاماً، كانت تدعو من خلال كتاباتها إلى المساواة بين الجنسين، وتطالب بحق الفتيات في التعليم، نشرت المقالات باسم مستعار وهو "الفتاة" في فترة ما بين عامي 1935 و1943، وبعدها بدلت الاسم باسم آخر وهو "باحثة الحاضرة" تيمناً بالكاتبة المصرية ملك حفني ناصف التي كانت توقع مقالاتها باسم "باحثة البادية".
قالت في إحدى مقالاتها أن ميدان الصحافة ليس حكراً على الرجال وحدهم، وأن الدعوة إلى الإصلاح والتطور ينبغي أن يشترك فيه المرأة والرجل على السواء.
وأثارت مقالاتها فضول العديد من الشخصيات لمعرفة من تكون صاحبة ذلك الاسم المستعار والتي ظهرت فجأة في الميدان الإعلامي دوناً عن بنات جنسها. تضمنت أغلب نصوصها السردية مظاهر السيرة الذاتية ونشرت معظمها في "دار الفقيه" عام 1938.
تعالج مقالاتها كافة القضايا التي تتعلق بالمرأة المغربية، قالت في إحدى المقالات عن مشاركة النساء في الميدان الثوري والتي نشرتها جريدة "العلم" عام 2006 "عملت المرأة كل مجهود لجمع المال وللحصول على السلاح، ومن بينهنَّ من بنت حائطاً في غرفتها الخاصة لتخفي فيها السلاح حتى ساعة الاحتياج".
سعت من وراء كتاباتها إلى نشر الوعي حول القضايا التي كانت تعتبرها عائق أمام حرية المغربيات، والتخلص من الخرافات والمعتقدات التقليدية السائدة في المجتمع المغاربي التي تبقيهن في أدنى مرتبة مقارنة بالرجال.
كتبت مجموعة من القصص ونشرتها في مجلة "الثقافة المغربية" ومن القصص التي نالت شعبية واسعة قصة "الضحية" عام 1941، وتعالج فيها قضية الزواج التقليدي القسري، وما ينتج عنه من محاولة فرض السيطرة الأبوية في اختيار الزوج.
نظمت الحركة النسائية في الحزب الوطني
ربطت مليكة الفاسي بين نضالها السياسي وانخراطها في معركة تحرر المرأة عام 1937، حيث انضمت إلى الحزب الوطني "كتلة العمل الوطني"، وتلاه حزب الاستقلال اليميني المحافظ الذي يعتبر أحد المكونات الأساسية للحركة الوطنية المغربية، وعهد إليها تنظيم الحركة النسائية في الحزب، إلى جانب تعبئة النساء للخروج في التظاهرات والمسيرات المنددة بالاحتلال الفرنسي.
كانت مصدر ثقة بالنسبة للحزب، لذلك وكلت لها مهمة الالتحاق بالجناح السري، وذكر في كتاب "مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية" للكاتب أبو بكر القادري أن مليكة الفاسي كانت "تتقد غيرة وحماساً ووطنية، وكانت العضد الأيمن والمساعد الأوثق لزوجها، وكانت تتبع النشاطات الوطنية، تتبع المخلصين الملتزمين، وزاد نشاطها عندما انضمت وكانت المرأة الوحيدة إلى الطائفة وهي الجناح السري في الحزب الوطني".
اتخذت من منزلها مكاناً لعقد الاجتماعات الحزبية، التي كانت تدار للتنسيق بين حزب الاستقلال والحركة الوطنية ومحمد الخامس بن يوسف الذي كان يتوارى عن الأنظار متخفياً لحضور الاجتماعات.
قادت المقاومة المغربية ضد الفرنسيين بعد أن لاقى أعضاء الحزب حتفهم بالسجن والنفي، ترأست بعدها حركة النهوض بالمرأة المغربية حيث طالبت بإدماج الفتاة المغربية في الحياة العصرية، وحاربت الأمية المنتشرة في بلدها قبل الاستقلال.
عملت مليكة الفاسي على إعادة مكانة المرأة بجامعة القرويين عام 1946، وهي إحدى التساؤلات التي راودت نفسها في أيام طفولتها، كتبت مقالاً بعنوان "صحوة المرأة المغربية" نبهت فيه إلى أن كل فتاة حازت على شهادة تعليم، ستواجهها عوائق شائكة تعترض طريقها كعدم قبولها في أي مدرسة إعدادية والسبب لكونها امرأة ولا تتواجد مقاعد لها.
عدم وجود مقاعد للنساء المتعلمات في المدارس جعلها تفكر في إنشاء كرسي خاص بتعليم الفتيات بجامعة القرويين، كما أن مطالبها المتكررة لتعليم الفتيات جعل النظام الفرنسي يعاود النظر في فتح بعض الأقسام الخاصة بالمراحل الثانوية والجامعية للفتيات عام 1947، ووافقت عليه الجامعة بشرط أن تموله المناضلات من أموالهن الخاصة.
مليكة الفاسي التي عرفت بحبها للموسيقى منذ صغرها، وتعلمت العزف على آلتي العود والأكورديون، عملت على تقديم الدعم في تنمية مواهب الموسيقيين في مجال الطرب الأندلسي المغربي من شعر وتوشيح وازجال، وأسست جمعية هواة الموسيقى الأندلسية بالاشتراك مع الحاج إدريس بن جلون التويمي للحفاظ على التراث الفني الأصيل وخوفاً عليه من الاندثار.
نشاطها بعد الاستقلال
تمكنت مليكة الفاسي من التنقل حول المغرب بعد أن حصلت على رخصة القيادة الخاصة بالسيارات عام 1955، واستمر نشاطها من أجل تعليم الفتيات وعملت على إنشاء مراكز خاصة للتسجيل في فصول دراسية لمحو الأمية، وأشرفت بنفسها على ذلك.
أسست في الرباط جمعية باسم "مواساة" عام 1956 بالتعاون مع مجموعة من الحقوقيات، وهي منظمة غير حكومية تهتم بشؤون الفقراء والمحتاجين، وأسر الضحايا ومرضى السرطان، وتكافح تفشي الأمية، تضم الجمعية دار لرعاية الأيتام التي تحتضن 120 فتاة لإيوائهن ومساعدتهن من أجل العيش بهدوء وسلام. حاز عملها في هذه الجمعية على تقدير ومنحة من قبل هيئة المؤسسات الوطنية التي أنشأها الملك محمد السادس، كما انتخبت رئيسة لها عام 1962.
تكريم نشاطها
حصلت على ميدالية اليونسكو لمحاربة الأمية، وكُرمت بـ وسامين من الملك محمد السادس الأول في 11 كانون الثاني/يناير عام 2005، والثاني في آذار/مارس عام 2006، بالإضافة إلى مرتبة الشرف عام 2006 لنشاطها ودورها الفاعل في الميدان الاجتماعي والسياسي.
وتكريماً لتاريخها الحافل بالنضال من أجل تحرر المرأة والمغرب، تم بناء مدرسة في تطوان مختصة بالمراحل الابتدائية الأولى في التعليم للجنسين حملت اسمها.
أصيبت مليكة الفاسي بوعكة صحية توفيت على إثرها في 11 أيار/مايو عام 2007 عن عمر ناهز الـ 88 عاماً، دُفنت في الرباط بضريح الحسن الأول حيث يرقد زوجها.