مَيّة الجريبي... تقدّمية متصالحة مع هويّة شعبها

أيقونة حرية وكفاح نهلت من نبع تاريخ نساء قرطاج المقاومات للاحتلال الرومي، ومن عبق حضارة أمتها العربية وقيمها، ومن عنفوان الزمن المقاوم للاستعمار في العصر الحديث، مية الجريبي أول امرأة تشغل رئاسة حزب سياسي في تونس

زهور المشرقي
تونس ـ .
القصة ليست قصة امرأة عادية، أنها قصة امرأة ساهمت في حقبة من التاريخ والنضال، عرفت مية الجريبي بصوتها المعارض للدكتاتورية وأهمها الدفاع عن الممارسة الديمقراطية بعد ثورة الياسمين، عارضت نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ثم عارضت إقصاء أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي التقدمي من العمل السياسي، وفضلت خيار المصالحة.
 
الانخراط في العالم السياسي
ولدت مية الجريبي في التاسع والعشرين من كانون الثاني/يناير عام 1960، زاولت تعليمها في مدينة رادِس حيث كانت تقطن، ثم التحقت بكلية العلوم في صفاقس بين عامي (1979 ـ 1983)، وهناك ناضلت في صفوف الاتحاد العام لطلبة تونس (الحركة الطلابية) في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حيث كرست نشاطها من أجل الدفاع عن حقوق المرأة التونسية.
وفي أوائل الثمانينات انضمت إلى فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بصفاقس، وشاركت أيضاً في الجريدة الأسبوعية المستقلة "الرأي" ومن ثم "الموقف"، وأصبحت عضواً في مجموعة دراسة حول وضع المرأة في النادي الثقافي الطاهر الحداد، وشاركت في الجمعية التونسية لمكافحة السرطان، كما وأسست كذلك بصحبة آخرين جمعية بحوث عن المرأة والتنمية.
انخرطت وهي في الثالثة والعشرين من عمرها في العمل الحزبي بمشاركتها في تأسيس "حزب التجمع الاشتراكي التقدمي" عام 1983 وذلك بعد عودتها إلى تونس، والذي غير اسمه فيما بعد إلى "الحزب الديمقراطي التقدمي" ثم إلى "الحزب الجمهوري"، وقد انضمت إلى مكتبه السياسي عام 1986، لتكون بذلك من النساء النادرات بمكتب الحزب.
في عام 2006، انتخبت كأمينة عامة لحزب الاتحاد الديمقراطي التقدمي خلفاً لمؤسسه أحمد نجيب الشابي، وكانت بذلك أول امرأة تقود حزباً سياسياً في تونس والثانية في المغرب العربي على رأس حزب يتكون أساساً من رجال بعد الجزائرية لويزة حنون.
مية الجريبي تعتبر إحدى أبرز السياسيين الذين شكلوا رأس حربة المعارضة لنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وذلك قبل ثورة الياسمين الشعبية التي أطاحت بحكمه عام 2011.
بعد التحالف الذي جمع حزبها بحزب آفاق تونس انتخبت في عام 2012 أمينة عامة للتحالف الذي سمي بـ "الحزب الجمهوري"، وذلك في المؤتمر الخامس للحزب الديمقراطي التقدمي.
بعد الانتخابات التي أجريت عام 2014، اختفت مية الجريبي عن الساحة الإعلامية لدواعٍ صحية، وهو ما أدى إلى ابتعادها عن النشاط السياسي أيضاً، فخلال مؤتمر الحزب الجمهوري السادس الذي عقد في الثالث من شباط/فبراير 2017، أعلنت عدم ترشحها مجدداً لمنصب الأمانة العامة "تكريساً لمبدأ التداول على الخطط والمسؤوليات داخل الحزب"، رغم اقتراح عدد من القياديين عليها بتولي منصب الرئيسة الشرفية للحزب.
مية الجريبي امرأة أفنت حياتها في العمل السياسي، بل كرستها له دفاعاً عن قضية بلد يتوق دوماً إلى الحرية كما كانت تقول "سأعتزل السياسة عندما أعتزل الحياة"، هكذا تحدثت مية الجريبي في واحد من آخر تصريحاتها قبل أن يخطفها الموت. كانت صلبة بمواقفها في مواجهة الظلم، اعتُبرت أيقونة النضال أحبها الجميع بغض النظر عن توجهاتهم السياسية.
المتابعون للشأن السياسي التونسي يُكبرون في مية الجريبي ما جسدته من حب لشعبها وما تركته من بصمة قوية صامدة برغم الرياح والمناورات في صياغة دستور حداثي لتونس بعد ثورة 2011، بمواقفها القوية الداعمة للحريات ولحقوق المرأة ولمبدأ التناصف وتكافؤ الفرص بين الجنسين، وهو ما أقره دستور 2014، وبشكل خاص في الانتخابات البلدية لعام 2018.
دوماً ما كانت تنسجم مية الجريبي مع خطاباتها، تشبثت بعروبتها وأصالتها، وكانت بالرغم من اتقانها المبهر للغة الفرنسية تكره الحديث بلهجة الفرانكو ـ آراب، وتفضل الكتابة والحديث بالعربية وتدافع عن مكانتها، كانت نسويّةً دون تسطيح، وتقدّمية متصالحة مع هويّة شعبها.
بعد 30 عاماً من النضال السياسي رحلت السياسية التونسية والنائبة السابقة في المجلس التأسيسي والأمينة العامة السابقة للحزب الجمهوري مية الجريبي، عن عمر ناهز 58 عاماً بعد صراع مع المرض أي في التاسع عشر من أيار/مايو عام 2018 بمدينة رادِس في العاصمة تونس، وبالرغم من رحيلها ظل تاريخها صامداً يتحدث عنها في كل مناسبة.
وإحياءً لذكرى رحيلها الثانية أطلق الحزب الجمهوري راديو واب "مية"، كما ونظم مداخلات افتراضية "وابينار" على صفحته الرسمية، بالإضافة إلى بث أفلام وثائقية عن الثورة أرخت نشاط مية السياسي.