فيوليتا بارا... حين يصبح الفن مرآة للكرامة

فيوليتا بارا فنانة مُلهمة، جمعت بين التراث الموسيقي الشعبي والنضال الاجتماعي، لتصبح رمزاً لحركة "الأغنية الجديدة" في أمريكا اللاتينية. تركت إرثاً فنياً وإنسانياً خالداً، عبّرت من خلاله عن آمال الشعوب في الحرية والكرامة.

مركز الأخبار ـ الأغنية الثورية تحمل وجدان الشعوب وتُعبّر عن آلامهم وآمالهم، فتتحول إلى صوت لا يُقهر في وجه الظلم. إنها مرآة للكرامة والحرية، تحفظ الذاكرة الجماعية وتُلهم الأجيال على مواصلة النضال.

بدأ شغف فيوليتا بارا بالموسيقى منذ طفولتها، حين ألّفت أولى مقطوعاتها وهي في التاسعة من عمرها، ومنذ ذلك الحين لم يخفت وهج هذا الشغف حتى نهاية حياتها. لم تستطع لا المشاعر القاتمة ولا الأنظمة القمعية أن تُسكت صوتها أو تُطفئ إبداعها.

عُرفت بأنها فنانة متعددة المواهب، ملأت حياتها بالفن بكل أشكاله، من الموسيقى إلى النحت والرسم، ومن الشعر إلى فنون التطريز. كانت حياتها تجسيداً حقيقياً لفكرة أن الفن مقاومة، وأن الإبداع يمكن أن يكون صوتاً لا يُقهر في وجه الظلم والصمت.

وُلدت فيوليتا بارا في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 1917 في إقليم سان كارلوس بتشيلي. تعرّفت على عالم الموسيقى من خلال والدها، بينما كانت والدتها مصدر إلهامها في تعلّم الأغاني الشعبية والرقصات التقليدية. وبفضل دعم شقيقها، بدأت الغناء في سن مبكرة، حيث أدّت عروضاً في السيرك وقاعات الاحتفالات. خلال فترة شبابها، أولت اهتماماً خاصاً بنمط "تونادو" من الموسيقى الشعبية الإسبانية، وبدأت في إنتاج أغانٍ تعبّر عن هذا اللون الفني الأصيل.

قامت بجولة في قرى تشيلي لجمع وتوثيق الأغاني الشعبية، حيث سجّلت مئات منها ونقلتها للأجيال القادمة، مما أسهم في أرشفة نحو 500 أغنية محلية.

لم تكن فيوليتا بارا فنانة فحسب، بل كانت أيضاً صوتاً للعدالة الاجتماعية، إذ شكّلت قضايا الفقراء ونضالهم محوراً أساسياً في مسيرتها. ظلّ التزامها بالفن والمجتمع حاضراً في كل مراحل حياتها، لتُخلّد كرمز للإبداع والمقاومة.

وتحوّلت موسيقاها إلى أداة قوية لفضح مظاهر الظلم الاجتماعي والاقتصادي في تشيلي، فكانت صوتاً صادقاً للفقراء والمهمّشين. وبفضل هذا التوجّه، أصبحت من أبرز روّاد حركة "الأغنية الجديدة" (Nueva Canción) في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهي حركة فنية وثقافية جسّدت الروح الثورية والاشتراكية التي اجتاحت أمريكا اللاتينية آنذاك.

امتازت موسيقاها بمرافقة آلات تقليدية كالغيتار والفلوت، وحملت في طيّاتها رسائل سياسية واجتماعية عميقة، جعلت منها أكثر من مجرد فن، بل وسيلة مقاومة وتعبير عن تطلعات الشعوب نحو العدالة والحرية.

في عام 1955، شاركت فيوليتا بارا في مهرجان الشباب والطلبة العالمي في بولندا، لتبدأ بعدها رحلة فنية امتدت إلى الاتحاد السوفيتي وألمانيا وإيطاليا، واستقرّت لعامين في باريس. هناك، سجّلت أول ألبوم منفرد لها بعنوان Chants et danses du Chili، وأصبحت أول فنانة من أمريكا اللاتينية تُقيم معرضاً شخصياً في متحف اللوفر.

واصلت مسيرتها الفنية في لندن، حيث قدّمت حفلات موسيقية وسجّلت أعمالاً ضمن أرشيف هيئة الإذاعة البريطانية (BBC). وعند عودتها إلى تشيلي، أسّست المتحف الوطني للفنون الشعبية في مدينة كونثبثيون، ليكون منبراً يحتفي بالتراث الثقافي ويُخلّد صوت الشعب.

عام 1964، التقت بعالم الأنثروبولوجيا السويسري غيلبرت فافر، وشكّل هذا اللقاء نقطة تحوّل في مسيرتها الفنية، حيث تعاونا في مشاريع موسيقية مميزة أثرت تجربتها الإبداعية. كانت فيوليتا بارا تُعرف بأنها "أنثروبولوجية الموسيقى الشعبية"، لما بذلته من جهد في جمع وتوثيق التراث الغنائي، ليس فقط في تشيلي، بل في مختلف أنحاء أمريكا اللاتينية.

وقد تركت بصمة عميقة في وجدان الفنانين في القارة، وكان لأغنيتها الأشهر Gracias a la Vida صدى عالمي، إذ أعاد تقديمها فنانون كبار مثل مرسيدس سوسا وجوان بايز، لتصبح رمزاً للأمل والمقاومة في وجه الألم.

جسّدت فيوليتا بارا صوت الفقراء والمهمّشين في تشيلي، حيث حوّلت موسيقاهم إلى قصائد تنبض بالاحتجاج والمقاومة، لتصبح رمزاً للنضال السياسي والاجتماعي. وفي عام 1967، أنهت حياتها عن عمر ناهز 49 عاماً، تاركة خلفها إرثاً فنياً وإنسانياً خالداً. كانت أغنيتها الأشهر Gracias a la Vida، التي ألّفتها قبل وفاتها بعام، بمثابة رسالة وداع مؤثرة تُجسّد فلسفتها في الحياة والموسيقى.