فلورنس نايتينغيل... تاريخ طويل في مجال التمريض وقواعد الصحة

أدخلت الممرضة فلورنس نايتينغيل الملقبة بـ "السيدة حاملة المصباح" تغيير جذري في مجال التمريض وقواعد الصحة، وتكريماً لتاريخها الإنساني الطويل شيّد مستشفى وسط لندن باسمها

مركز الأخبارـ
 
رفضت الانسياق وراء عادات وتقاليد المجتمع
ولدت فلورنس نايتينغيل في مدينة فلورنسا بإيطاليا في 12 أيار/مايو عام 1820، وقد سميت بهذا الاسم تيمناً بتلك المدينة الإيطالية التي نزل فيها والداها وليام شور نايتينغل.
فلورنس نايتينغيل التي نشأت وترعرعت ضمن أسرة بريطانية ثرية وغنية قطنت في منزل ليا هورست الشتوي بمنطقة ديربيشاير، وفي الصيف كانت تقطن في منزل في هامبشاير يسمى إمبيلي، تمتعت بحياة الرفاهية، ورفضت الانسياق وراء عادات وتقاليد المجتمع الإنجليزي السائدة حينها بالعصر الفيكتوري التي فرضت على الفتيات المتحدرات من الطبقات المرموقة الزواج والمكوث في المنزل، خالفت والدها في فكرة الزواج يقيناً منها أن الارتباط سيقيدها بالمسؤوليات المنزلية. 
 
أول من وضعت قواعد وأسس للتمريض
رغبت فلورنس نايتينغيل بالعمل كممرضة على الرغم من رفض والدها لمهنة التمريض، لكنها لم تكترث لرفض والدها بل اتجهت للدراسة في إحدى مدارس التمريض اللوثرية بمدينة كايسرورث الألمانية عام 1844، عادت إلى لندن وعملت في مستشفى ميدلسكس في مطلع الخمسينيات، ونالت مكانة مرموقة حينما ساهمت في تقليص عدد الوفيات بالمستشفى عندما اعتمدت على قواعد النظافة أثناء فترة انتشار الكوليرا بالمنطقة، إضافة إلى أنها تعتبر أول من وضع قواعد للتمريض الحديث، وأسس لتعليم التمريض، ومستويات الخدمة الإدارية والتمريضية في المستشفيات.
كانت تؤمن بأهمية وضرورة وضع برامج لتعليم التمريض وبرامج لتدريس آداب المهنة، على أن تكون هذه البرامج في أيدي نساء مدربات وذوات أخلاق عالية يتمتعن بصفات حسنة، فوصفت الممرضة في مذكراتها بالصفات التالية "يجب أن تبتعد عن الأقاويل والإشاعات، وأن تكون حريصة على مرضاها، لا تتأخر على المرضى عند تنفيذ طلباتهم حيث أنهم يضعون حياتهم بين أيديها، أن تكون دقيقة الملاحظة ورقيقة المعاملة".
 
تنقلها بين البلدان أكسبها أصول التمريض وإدارة المستشفيات
تنقلت في حياتها بصحبة أصدقاء عائلتها إلى مصر واليونان في الفترة الممتدة بين عامي 1849ـ 1850، وأثناء زيارتها لمصر التقت ببعض الراهبات اللواتي يعلمن في المستشفيات لمساعدة الفقراء والمرضى، ففي رسالة لها من الإسكندرية كتبتها بتاريخ 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1849 ذكرت فيها أنهن 19 ممرضة ولكن يقمن بعمل 90 ممرضة، حيث يقمن بتضميد الجروح وإسعاف الجرحى.
كما قامت بزيارة المستشفيات والمدارس التابعة لجمعية سان فنسان دي يول، ولأول مرة هناك تعلمت فلورنس نايتينغيل النظام وأثره في إدارة المستشفيات، ثم تجولت بعدها في الدول الأوروبية تبحث عن كل عمل ذات صلة بفعل الخير ومساعدة الفقراء والمحتاجين.
بدأت حياة جديدة قائمة على تأدية كل الأعمال الصغيرة ومشاركة راهبات المعهد الذي افتتح لإعداد الفتيات لمهنة التمريض وهو معهد "فليدئر" الذي يشرف على نهر الراين في باريس، إضافة إلى استماعها للمحاضرات التي كانت تلقى عليهن.
قضت يومها كله في دراسة أحوال المستشفيات في مدينتي لندن وادنبرة في الفترة التي عادت فيها إلى إنجلترا، وبدأت تنادي بإقامة معهد للتمريض خاص للنسوة في بلادها، وقد تحقق ما رمت إليه وأنشئ المعهد عام 1853 باسم "معهد السيدات النبيلات للعناية بالمرضى" وقد أسندت إليها مهمة إدارته.
بدأت فلورنس نايتينغيل تطبق نظرياتها العلمية الجديدة في علاج المرضى، وتشرف على النظافة التامة باتباع قواعد صحية كفتح النوافذ وتهوية غرف المستشفى، ونتيجة هذا العمل تراجعت أنواع المرض والجراثيم وقصرت فترة علاجهم.
 
المهام التي وكلت بها
في عام 1853 مع اندلاع حرب القرم بين روسيا من جهة وبريطانيا وتركيا وفرنسا وسردينا من جهة أخرى، وجد عشرات الآلاف من الجنود البريطانيين أنفسهم في مواجهة الروس بمناطق البحر الأسود وبعد مضي أشهر فقط عن بداية المعارك تكدّس نحو 18 ألف جندي بريطاني بالمستشفيات المحلية بالمنطقة وسط ظروف صحية سيئة، نقلت صحيفة التايمز البريطانية صرخة الجرحى الذين كانوا يتساقطون بالمئات ويموتون منهم بالعشرات يومياً، نتيجة افتقارهم للإسعافات والتمريض والعناية الكافية.
طلب وزير الحرب البريطاني سيدني هربرت من الممرضة فلورنس نايتينغيل تشكيل فرقة من الممرضات المتطوعات استعداداً لإرسالهن نحو القرم ومداواة الجنود البريطانيين المصابين، لبت فلورنس طلب الوزير وكانت سعيدة لتوليها منصباً يضع تدريبها كممرضة موضع الاستخدام، كما أنها كانت حازمة في اختيار ممرضاتها وتدريبهن.
 
"السيدة حاملة المصباح"
فور وصلهن المستشفى العسكري البريطاني في سكوتاري، تفاجئن للمشاهد التي كانت أمام مرأى أعينهن، من انتشار جثث الجنود والجرحى المطروحون على الممرات والمياه الملوثة والبراز الملطخ على ثياب الجرحى بسبب عدم قدرتهم على التحرك جراء الإصابات، إضافة إلى انتشار الحشرات والفئران، وافتقار المستشفى لإسعافات أولية كالضمادات، قالت فلورنس نايتينغيل عن المستشفى "إن القيادة البريطانية قد نجحت في خلق أقرب شيء إلى الجحيم على الأرض".
باشرت فلورنس نايتينغيل برفقة زميلاتها المتطوعات بعد أن شاهدت هذا الوضع بتنظيف جميع الممرات وغرف المستشفى، كما عملت على توفير وجبات غذائية للمرضى وتنظيف إصاباتهم وضمان نظافة وسلامة أجسادهم.
وساهمت في رفع معنوياتهم وإحاطتهم بالراحة النفسية، حيث أنها ساعدتهم في كتابة رسائل لعائلاتهم، وقد لقبت حينها بـ "السيدة حاملة المصباح"، لأنها كانت تتنقل بينهم ليلاً وحاملة بيدها مصباح لمساعدتهم في كتابة الرسائل.
وقد تراجعت نسبة عدد الوفيات لأقل من خمس ما كان عليه قبل قدوم فريق الممرضات بعد تولي فلورنس نايتينغيل ورفيقاتها الممرضات أمور الجنود المصابين. 
 
بيت فلورنس نايتينغيل
بعثت ملكة بريطانية الملكة فيكتوريا تحية خاصة وشكر لـ فلورنس نايتينغل من قصرها في لندن، كما جمع الشعب البريطاني مبلغ مالي قدره خمسين ألف جني قدموها لها هدية تقديراً للخدمات التي أدتها خلال الحرب، وتسلمتها وقدمتها لبناء "بيت فلورنس نايتينغيل" لتدريب الممرضات بمستشفى سانت توماس في إنجلترا الذي مازال قائماً يحمل اسمها حتى الوقت الحالي.
انتقت فلورنس نايتينغيل طالباتها الممرضات بشكل دقيق، ومنذ بناء مدرستها الخاصة بالتمريض اعتبر التمريض مهنة، يتوجب التدريب عليها ووضع خطط تعليمية لها، وكانت من ضمن عباراتها عن التمريض "أن التمريض يمرض أجساماً حية وأرواح".
توفيت فلورنس نايتينغيل في 13 آب/أغسطس عام 1910 عن عمر ناهز الـ 90 عاماً.
 
تشييد أعمالها الإنسانية
بفضل ما قامت به الممرضة فلورنس نايتينغيل من أعمال إنسانية خلال حرب القرم كمتطوعة لتضميد جراح الأسرى والمصابين من المقاتلين، ومساعدتها للجنود الجرحى، نشأت المنظمة الإنسانية للصليب الأحمر الدولي من وحي ما قامت به في إغاثة المحتاج. 
في عام 1907، بعد حياة حافلة بالعمل وضعف بصر وفقدان ذاكرة وهي في سن الـ 90 عاماً، نالت وسام الاستحقاق وكانت أول امرأة تمنح هذا الوسام ببريطانيا، كما وقع الاختيار على تاريخ ميلادها يوم 12 أيار/مايو للاحتفال باليوم العالمي للتمريض من كل عام.  
ونصّب لها تمثال تذكاري بقصر ووترلو في لندن، كما أسست اللجنة الدولية للصليب الأحمر جائزة باسمها عام 1912، وهي أعلى جائزة تكريم في التمريض الدولي والتي تقدم كل عامين.
استطاعت الممرضة فلورنس نايتينغيل وضع قواعد خاصة للصحة، وطرق التعامل مع المرضى، وعلى إثرها اعتزمت بريطانيا عام 2020 افتتاح مستشفى وسط لندن يحمل اسمها.